لقد حظى اتفاق إعلان المبادئ لسد النهضة بقدرٍ كبيرٍ من اهتمام المراقبين والمحللين السياسيين. فى هذا السياق، وبعيدًا عن التهويل أو التهوين، يمكن تحليل «اتفاق إعلان مبادئ سد النهضة» من منظور «التحديات الراهنة فى حوض النيل» وضرورات الاستجابة معها مرحليًا، وذلك حتى يمكن تلمُّس رؤية مستقبلية وموضوعية للسياسة المائية المصرية تجاه تلك التحديات. إن السياق الزمنى المرتبط بتوقيت التوقيع على إعلان المبادئ بالغ الأهمية، وله دلالات سياسية مهمة. فمن ناحية؛ يأتى إعلان المبادئ فى لحظة زمنية تُحسن فيها إثيوبيا توظيف السياقين الإقليمى والدولى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية من خلال دخولها عبر العقدين الماضيين فى شبكة من العلاقات الاستراتيجية الخاصة مع الفواعل الدولية والإقليمية. ومن ناحية ثانية، فقد جاء إعلان المبادئ فى توقيت مهم لإزالة حالة القلق والتوتر التى خيمت على العلاقات المصرية - الإثيوبية نتيجة الخلافات حول قضية «سد النهضة». حيث يوفر أرضية صلبة لمبادئ حاكمة تضمن التوصل إلى اتفاق كامل بين مصر وإثيوبيا والسودان حول أسلوب وقواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوى بعد انتهاء الدراسات المشتركة الجارى إعدادها. يؤسس الإعلان، ولأول مرة، لمرحلة جديدة من التعاون والتنسيق فيما يتعلق بتشغيل السدود؛ وذلك من خلال تعهد الدول الثلاث بالتوصل إلى اتفاق حول قواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوى فى ضوء نتائج الدراسات، فضلاً عن إنشاء آلية تنسيقية دائمة من الدول الثلاث للإشراف على والتعاون فى عملية تشغيل السد بما يضمن عدم الإضرار بمصالح دول المصب. وهى خطوة فى غاية الأهمية خلال المرحلة الحالية وستكون أكثر إلحاحية خلال السنوات المقبلة فى ضوء الخطط المستقبلية لإقامة السدود فى كل من إثيوبيا والسودان. إن الجانب الأكثر إشراقًا فى إعلان المبادئ لسد النهضة هو أنه كشف عن نمط جديد لم تألفه الدبلوماسية المصرية، وهو المتمثل فى «دبلوماسية المياه». إن تأمل التحركات الدبلوماسية الحثيثة قبل وفى أثناء وعشية توقيع إعلان مبادئ سد النهضة يكشف عن نشاطٍ ملحوظ لتفعيل دائرة حوض النيل ضمن دوائر السياسة الخارجية المصرية، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال حرص القيادة السياسية المصرية على تحيُّن الفرص والمناسبات الرسمية لعقد لقاءات رئاسية مع قادة وزعماء دول حوض النيل، والاجتماع فى عديد المناسبات مع رئيس وزراء إثيوبيا اهيلا ميريام ديسالين»، لدرجة أن الحركة الرئاسية أصبحت تفوق فى سرعتها وتواترها حركة المؤسسات الأخرى. تتجلى «دبلوماسية المياه» كذلك فى الزيارة التاريخية التى قام بها الرئيس المصرى للدولة الإثيوبية فى اليوم التالى للتوقيع على إعلان المبادئ، وهى الزيارة التى كانت مرتقبة منذ ثلاثة عقود، وتضمنت زيارة لعدد من المؤسسات الرسمية الإثيوبية أهمها البرلمان الإثيوبي، ومن خلاله كانت مخاطبة الشعب الإثيوبى بتصريحات بالغة فى الدقة والدلالة. حيث جاء التصريح الرئاسى للرئيس عبدالفتاح السيسي، حين قال: «إن توقيع إعلان مبادىء سد النهضة الإثيوبي، هو أولى خطوات طريق التفاهم والتقارب بين مصر والسودان وإثيوبيا». وتتضح أهمية دبلوماسية المياه المقرونة بدبلوماسية القمة من أنه يلزم لاستمرار قوة الدفع لتدعيم مسيرة العمل التعاونى فى حوض النيل عدم الاقتصار فقط على قضايا التعاون فى قضايا السياسة الدنيا رغم تنوعها، وإنما يجب أن يفكر المسئولون والمعنيون بإدارة الشأن المائى فى مصر بضرورة تحقيق قدر من التعاون فى مسائل وقضايا السياسة العليا، وذلك من خلال التعاون فى المجالات السياسية - الأمنية. إن من شأن توافر هذا الإطار السياسى - الأمنى أن يعمل كقوة دافعة نحو تعزيز خطى العمل التعاونى فى قضايا السياسات الدنيا الأخرى، كما أنه يحول دون حدوث الانتكاسات المتوقعة فى بعض قطاعات السياسات الدنيا. تبقى مخاوف وهواجس المتخصصين بحق فى هذا الملف مشروعة وقائمة ومبررة بعد التوقيع على إعلان المبادئ لسد النهضة، ومن بين تلك المخاوف: أن الإعلان تضمن اعترافًا صريحًا بالسد، وأن هذا الاعتراف من جانب دول المصب سيكون كفيلاً بإزالة الحرج الناشئ عن عدم التزام إثيوبيا بشرط الإخطار المسبق، ومن ثم يزول الحرج عن مؤسسات التمويل لتدفق التمويل للسد، فضلاً عن إصرار الجانب الإثيوبى على تأكيد الهدف التنموى للسد وعدم الاقتصار على توليد الكهرباء فقط كما أعلنت إثيبوييا من قبل؛ ربما يزيد من الهواجس استغلال مياه البحيرة التى ستتكون أمام السد فى الأغراض الزراعية؛ وهو ما ينعكس سلبًا على الحصة المائية المصرية، بالإضافة إلى أن تأكيد مبدأ سيادة الدول ربما يكون ذريعة من الجانب الإثيوبى للتحجج بحريتها المطلقة فى استغلال جزء النهر الواقع فى أراضيها، ولا سيما أن «الالتزام بعدم التسبب فى ضرر ذى شأن» جاء ضبابيًا؛ فما هو الضرر فى هذا الشأن؟؛ ومن الذى يحدده؟. يضاف إلى ما سبق أن غياب آلية التحكيم والاقتصار على الآليات السياسية لتسوية المنازعات قد يكون فى مصلحة إثيوبيا، كذلك، فإن إصرار إثيوبيا على عدم تضمين وثيقة الإعلان كلمة «إلزام» وتأكيد كلمة «احترام» نيابة عنها تكشف عن عدم صفاء النيات الإثيوبية. بيد أن كل تلك المخاوف تتبدد أمام مهارة «دبلوماسية المياه» وفعاليتها واستدامتها. ومن ثم وجب تأكيد أن إدارة التعاون المائى لا تقل أهمية عن إدارة الصراع، لذا وجب التسلح بكل مقومات القوة الناعمة المصرية، وآن الأوان أن يتصدر هذا الملف الكفاءات من مختلف التخصصات. فذلك هو الرهان الحقيقى لمواجهة التطورات الراهنة فى حوض النيل، والحفاظ على الأمن المائى المصرى. لمزيد من مقالات د. محمد سالمان طايع