بسبب الهكسوس تكون أول جيش لمصر كان المفروض أن أنهي هذه السلسلة عن نزول الجيش إلي الشارع بحلقة الأسبوع الماضي التي تناولت آخر مرة استدعي فيها مبارك الجيش يوم28 يناير2011 متوقعا أن يواجه هذا الجيش المتظاهرين الذين تصاعدت مطالبهم وأصبحوا يهتفون بسقوطه ومطالبته الرحيل. إلا أن الجيش الذي استعان به مبارك لمساندته أعلن من أول لحظة وقوفه إلي جانب الشعب مما جرد مبارك من أي سلاح وجعله لا يتأخر كثيرا في التخلي عن منصبه. وقد رأيت من المناسب أن أكمل هذه السلسلة بالحديث عن تاريخ الجيش المصري الذي من المفارقات أنه كلما قوي تعرض لمحاولة اضعافه وكسر معنوياته, وكان آخرها ما حدث له في نكسة67 الذي تمكن بقدرة خارقة الخروج منها واستعادة مكانته التي يستحقها من خلال نصر مازال حتي اليوم يتم تدريسه في كليات الحرب. وقد ظلت مصر الفرعونية( منذ خمسة آلاف سنة) لفترة طويلة لا تعرف الجيش النظامي المدرب علي فنون القتال والحرب بل كانت لكل مقاطعة وحدة عسكرية صغيرة أقرب إلي الشرطة تساعد حاكمها في شئون الأمن إلي أن جاء أول ظهور لجيش نظامي في مصر منذ أكثر من3500 سنة أثر تعرض مصر في عام1725 قبل الميلاد لغزو الهكسوس وهم شعوب بدوية من أصول مختلفة لم يتفق عليها خبراء التاريخ لكن الراجح أنهم من أصول أسيوية متعددة. وقد أغرتهم فترة ضعف سادت مصر فأغاروا عليها باعداد ضخمة وأقاموا في مصر نحو مائة سنة كانت فترة سلب ونهب وإحراق للمدن وتدمير للمعابد. وقد حرك هذا الغزو رغبة التحرر والانتقام من هؤلاء الهكسوس مما يشير إلي أن الفراعنة كانوا بطبيعتهم مسالمين لا يتطلعون إلي الحرب فلما احتل الهكسوس البلاد غيروا تقاليدهم وراحوا يستعدون لتحرير بلادهم حتي تمكنوا بقيادة أحمس الأول( يعني اسم أحمس مولد القمر) والذي استطاع وهو في سن التاسعة عشرة تنظيم جيش مصري قوي استكمل به ما بدأه أبوه في محاربة الهكسوس وطردهم خارج الأراضي المصرية وملاحقتهم إلي فلسطين وتفتيت شملهم حتي قضي عليهم ولم يعودوا للظهور في التاريخ مرة أخري. ونتيجة لذلك أصبح لمصر جيش قوي ومنظم يمارس فنون الحرب مما أغري علي استخدامه ووصول تحتمس الثاني الذي خلف أحمس إلي سوريا ونهر الفرات. وبعد موت تحتمس الثاني خلفه ابنه تحتمس الثالث الذي كان طفلا فتولت أمه الملكة حتشبسوت الوصاية علي عرش الإبن الطفل, إلا أنها ركزت أعمالها علي داخل مصر باستثناء بعثة تجارية وسياسية أرسلتها إلي بلاد بونت( الصومال حاليا). وبعد أن بلغ تحتمس الثالث السن وقد تمكن من الحكم منفردا48 سنة فإنه قاد جيش مصر الذي إزداد عددا ووصل به إلي الاستيلاء علي فلسطين وسوريا وكردستان وأرمينيا في آسيا الوسطي. إلا أن التاريخ ليس بالنسبة لمصر فقط وإنما لمختلف الدول لا يجعل القوي يتصاعد دوما في قوته بل غالبا ما يواجه فترات ضعف تنزل به إلي درجة قصوي يعود بعدها ويرتفع, وهكذا فقد واجهت مصر بعد القوة التي شهدتها ملوكا ضعفاء كانوا خاتمة عصر الفراعنة عام332 قبل الميلاد وهو العام الذي وصل فيه الإسكندر الأكبر إلي مصر وبعد ذلك توالي علي مصر البطالسة والرومان والبيزنطيون إلي أن جاء الفتح الاسلامي بقيادة عمرو بن العاص عام640 وتوالي الولاة علي مصر من عهد الخلفاء الراشدين إلي الدولة الأموية فالعباسية فالطولونية فالاخشيدية فالفاطمية فالدولة الأيوبية. استيراد المماليك للحرب وخلال هذه السنوات لم يكن لمصر جيش من المصريين وإنما كان الحكام يستعينون في جيوشهم باستيراد من يقوموا بالعمل العسكري وعلي رأسهم المماليك الذين بدأ استقدامهم إلي مصر منذ الدولة العباسية وزاد الاعتماد عليهم بصورة كبيرة في الدولة الأيوبية. وهؤلاء المماليك كانوا عبيدا يتم أسرهم في الحروب التي تجري في آسيا أو شراؤهم في أسواقها,وامتلاك من يشتريهم لهم ولهذا أطلق عليهم اسم المماليك جمع مملوك. وقد ظل عدد هؤلاء المماليك في ازدياد إلي أن تمكنوا من الاستيلاء علي الحكم في نهاية الدولة الأيوبية عندما تمكن عز الدين أيبك زوج شجرة الدر( وهو من المماليك) من الاستيلاء علي السلطة واقامته حكم المماليك لمصر الذي بدأ عام1252 واستمر نحو300 سنة إلي أن انتهي بالفتح العثماني لمصر عام1517 علي يد السلطان سليم الثاني. ولمدة نحو300 سنة أخري استمر الحكم العثماني لمصر الذي انتهي بدوره بالغزو الفرنسي لمصر بقيادة نابليون بونابرت عام.1799 وفي مواجهة الحملة الفرنسية علي مصر لجأ الباب العالي إلي طلب مساعدات الولايات التابعة له في تعبئة جيوشهم وإرسالهم إلي مصر. وكان من الذين صدرت إليهم الأوامر حاكم قولة الذي ألف كتيبة من ثلاثمائة جندي كان أحد افرادها جندي اسمه محمد علي وهو الباني الأصل كان يعمل في تجارة الدخان لم يكن يعرف ولا أحد يعرف أنه سيترك بلاده ليجئ إلي مصر ويصبح حاكما لها ومؤسس لأسرة توارثت الحكم لمصر150 سنة. مابين محمد علي وعبدالناصر وصل محمد علي إلي مصر في شهر مارس1801 منذ211 سنة ومنذ وصوله لفت نظر واهتمام القادة الذين حارب تحت قيادتهم مما كانت نتيجته ترقيته إلي ما يعادل رتبة لواء الرفيعة( كان اسمها في ذلك الوقت سر جشمه) لكن ذكاءه وقوة شخصيته وتحببه إلي الشعب واستمالته زعماءه والاستعانة بهم مكنه من الوصول إلي قمة السلطة وان يختاره الشعب واليا علي مصر رغم معارضة الباب العالي الذي كان اختار خسرو باشا للمنصب لكنه اضطر للخضوع لرغبة الشعب. والشائع عن جمال عبدالناصر وقد عاصرت ذلك بنفسي قوة نظرات عينيه إلي الدرجة التي تضعف أمامه مقاومة من ينظر إليه, وقد حكي لي أحد الذين أمم عبد الناصر ممتلكاتهم انه كان في احتفال يحضره عبدالناصر مع صديق مثله مجروح من التأميم وقد اتفقا علي ألا يصفقا له عند اقترابه من مكانهما, وبالفعل ظل الاثنان متماسكان إلي أن التقت عيناهما بعيني عبدالناصر فوجد كل منهما يسابق الآخر في التصفيق له. احكي ذلك بسبب ما قرأته عن قوة نظرات محمد علي من شهود أجانب عديدين التقي بهم مثل دكتور وايلد والد الكاتب الشهير أوسكار وايلد الذي شهد الباشا في حوالي سن السبعين, وقال عنه أبطأ الباشا من سيره عندما لمح جمعا من الافرنج في حديقة قصره ليلقي علينا السلام وبالرغم من أننا لم نره إلا لبرهة قصيرة فإن التفاتته نحونا لم تمر دون أن تجعلنا نشعر بقوة تلك النظرة التي قلما شاهدت في حياتي نظرة تماثلها في البريق والنفاذ. وقال باتون مؤلف كتاب تاريخ مصر الصادر في لندن عام1863 أي في حياة محمد علي إذا كان من الجائز أن ترمز عيون ونظرات الشخص إلي عبقريته فينطبق ذلك علي محمد فقد كانت عيونه التي ظلت حية دائما ساحرة كأعين الغزلان شرسة كأعين النسر ساعة العاصفة. أما تشارلز مري آخر القناصل البريطانيين اثناء حكم محمد علي فقد لخص نظرات الباشا بقوله: كانت عيناه لها ذلك اللون الرمادي الذي يخص المميزين من الرجال فكانتا براقتين غائرتين في الرأس. وكانت تتقدان أحيانا بنار عنيفة غريبة وتنبعث منهما نظرات غاضبة لم يصمد أمامها إلا القليل من الناس. ولكن في ساعات المرح كانتا تبرقان بخفة وبهجة. وفي بعض الأحيان كان يمتزج فيهما الغضب والمرح بشكل غريب يستعصي علي المرء أن يحدد معه أيهما يغلب الآخر. وصاحب هذه النظرات والذي لم يتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن تجاوز الأربعين هو الذي حقق أكبر نهضة شهدتها مصر في القرن التاسع عشر وهو الذي أسس جيشا نظاميا كان جنوده لأول مرة من الفلاحين المصريين. ge.gro.marha@tnomhalas المزيد من أعمدة صلاح منتصر