لا تبكه فاليوم بدأ حياته، إن الشهيد يعيش يوم مماته، ومن بين ثنايا السماء الواسعة تشرق روحه مع أشعة الشمس الدافئة، وجوه سمراء لفحتها حرارة الصحراء الحارقة، وعيون ساهرة باتت تحرس فى سبيل الله، ونفوس مطمئنة تحمل وداعة أبناء وادى النيل تؤدى واجبها الوطنى فى صمت موحش، دون انتظار لأى ثمن سوى الحصول على الحق فى الحرية ، الشهداء وحدهم الذين عرفوا طريق الجهاد، وما رضوا بغيره طريقا، وهم الذين نظروا بأعينهم أن لا عيش فى هذه الدنيا إلا عيش الأحرار، ومن ثم فقد أدركوا قبل غيرهم حقيقة أن ليس المهم أن يموت أحدنا، بل المهم أن تستمروا أنتم يا أهلى وبنى وطني. خلقت أكتاف هؤلاء الرجال لحمل البنادق، فإما عظماء فوق الأرض أوعظاما فى جوفها، لأجل ذلك فضلوا الموت وسلاحهم عالق بأيديهم، لا أن يحيوا وسلاحهم بيد عدوهم، مؤمنين بقاعدة «إن الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، أما الصقور فلا يهمها بأى أرض تموت، وكأن لسان حال كل واحد منهم يقول: لست آسفا إلا لأننى لا أملك إلا حياة واحدة أضحى بها فى سبيل الوطن.
لأجل ذلك تبقى صفحات الشهادة فى تاريخ الشعوب من أصدق الصفحات، إن لم تكن أطهرها على وجه الإطلاق، ولأجل ذلك بقى الشهداء كما يقول «القروي» أنجماً زهراً، أنارت الطريق لمن تلي، ومهدت النهج العربى الأصيل لمن أتي، وفى كل معركة من معارك التاريخ العربي، كان الشهداء هم صناع التحرير وبناة المستقبل، يضحون بأرواحهم لتحيا الأجيال من بعدهم حياة كريمة حرة أبية، ولايكفى لنا الحديث دوما فى يوم الشهيد 9 مارس الذى نحن بصدده اليوم عن الشهادة وحدها ومجابهة الموت فى حد ذاته، بل لابد لنا من وصف كيف يقضى الجندى حياته مقاتلاً بجسده وروحه وإيمانه العميق بالوطن مرددا: سأحمل روحى على راحتى وألقى بها فى مهاوى الردى فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا. ويرد عليه «عمر أبو ريشة» قائلا : يادماء النسور تجرى سخاء بغرام البطولة الفضاح ياشهيد الجهاد ياصرخة الهول إذا الخيل حمحمت فى الساح كلما لاح لكفاح صريخ صحت لبيك ياصريخ الكفاح أما «سميح القاسم» فيبدو صارخا ويزيد من البيت شعرا: خلوا الشهيد مكفناً بثيابه خلوه فى السفح الخبير بما به لاتدفنوه وفى شفاه جراحه تدوى وصية حبه وعذابه بينما جعل «محمد مهدى الجواهري» الشهادة جزءاً من التجربة السياسية الشعرية : أتعلم أن جراح الشهيد تظل عن الثأر تستفهم أتعلم أن جراح الشهيد من الجوع تهضم ماتلهم تقحم لعنت أزيز الرصاص وجرب من الحظ مايقسم لكن «بدوى الجبل» يرى أن الشهادة والكرم صنوان لاينفصلان وقيمتان عظيمتان: يعطى الشهيد فلا والله ماشهدت عينى كإحسانه فى القوم إحساناً وغاية الجود أن يسقى الثرى دمه عند الكفاح ويلقى الله ظمآنا إذا هؤلاء الشهداء الأبرار جعلوا للشهادة معنى جديداً، تميز بالموقف الذى اختاروه طواعية، ليمهدوا طريق الوطن، ويوما بعد يوم تنضم إلى قافلة الشهداء أسماء جديدة، من شأنها أن تعبد طريق المجد والفخار لقوافل الشهداء التى لحقت بهم إلى دنيا الخلود، لتكتب تاريخ الوطن وتاريخ الأمة بأحرف من نور ونار، نور يضيء طريق الأجيال، ونار تحرق أعداء الحرية والشعوب. تاريخ عظيم للجيش لايمكن لأى حديث يحكى فى «يوم الشهيد» باعتباره تاريخا مشرفا لضباط ورجال القوات المسلحة، الذين نتخذ منهم النموذج والقدوة لما قدموه من تضحيات وفداء للوطن، دون أن نقدم لسيرة قائد عظيم يندر تكراره فى سجل الجيش المصرى ، وهو «الفريق عبد المنعم رياض» الذى يوافق استشهاده يوم 9 مارس، عام 1969، على بعد 250 مترًا من العدو المتربص بالقائد الملهم، ومن هنا يبقى الحديث عنه أوحوله ذا شجون، ليس لكونه رمزا للشهداء أو حكيم العسكرية المصرية فحسب، بل لأنه حديث الماضى موصولا بالحاضر المختلط برسالة عطاء من الفرد المقاتل المؤمن بالله وبنصرة «خير أجناد الأرض «، وأيضا كعبرة حاليا لقائد متفانٍ أوضابط صغير يرسمان معاً منهاج عمل لمرحلة فاصلة من عمر نفس الوطن، وهى ذاتها التى عاشها الفريق الراحل عبدالمنعم رياض ورفاقه من الأبطال من إعداد للبلاد فى مرحلة انتقالية قبل وبعد نكسة 67 وصولا للعبور الآمن نحو النصر فى 73 ، لعلنا نتعلم منها خريطة طريق، أو نستشرف من خلالها الحل فى معارك المستقبل المحفوف بالمخاطر والتحديات الصعبة. الرفاعى .. أسطورة الصاعقة ونحن فى صدد الحديث عن أبو الشهداء لابد لنا من ذكر قطوف من سيرة أمير الشهداء العقيد إبراهم الرفاعى خاصة أن هناك ارتباطا شرطيا فى الشهادة بينه وبين الفريق رياض، ولذا استحق هذا الرجل بجدارة أن يكون أبرز أساطير الصاعقة المصرية البواسل، ولد فى 27 يونيو 1931م، فى عائلة معظمها عسكريون، حيث كان والده معاون إدارة بوزارة الداخلية ، ومن ثم كان شابا رياضيا وراميا ماهرا فى الكلية الحربية، وعندما عقدت أول فرقة للصاعقة بمصر عام 1955م كان ترتيبه الأول على الفرقة، وأصبح مدرس صاعقة بجدارة، وفى عام 1956م تسلل إلى بورسعيد ونفذ أكبر عملية قبل الجلاء بتدمير ثلاث دبابات بريطانية. فى بداية حرب الاستنزاف شارك الرفاعى فى تنفيذ 39 عملية مذهلة ضد إسرائيل، وأصبحت لمجموعته شهرة مخيفة لدى جنود إسرائيل ، والتى عرفت ب « المجموعة 39 قتال»، واستشهد العميد أ.ح إبراهيم الرفاعى يوم 19 أكتوبر 1973م وسط جنوده وضباطه من مقاتلى المجموعة جنوبى الاسماعيلية، عندما تمركز الرفاعى فوق التبة الرملية ليرصد دبابات إسرائيلية منتشرة فى المنطقة، وفجأة انهالت القذائف حوله بكثافة رهيبة لكنه لم يتراجع واختار أن يموت لتحيا مصر، و منح اسمه نجمة سيناء بعد الحرب لكونه رجلا احترف القتال من أجل الوطن. ومن مآثر «مجموعة الرفاعي» أنه فى صباح استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض قاموا بعبور القناة واحتلال موقع المعدية رقم 6 الذى اطلقت منه القذائف التى تسببت فى استشهاد الفريق رياض وإبادة 44 عنصرا اسرائيليا كانوا بداخله، وكانت أوامره هى القتال باستخدام «السونكى فقط» وهو مادفع اسرائيل إلى أن تقدمت باحتجاج لمجلس الأمن فى 9 مارس 69 ، قائلة إن قتلاها «تم تمزيق جثثهم بوحشية». أيضا كانت «المجموعة 39 قتال» هى صاحبة الفضل فى أسر أول أسير اسرائيلى فى عام 1968،عندما قامت أثناء تنفيذ إحدى عملياتها بأسر الملازم الإسرائيلى «دانى شمعون» بطل الجيش الاسرائيلى فى المصارعة والعودة به للقاهرة دون خدش واحد. كانت «الفرقة 39 قتال» هى الوحيدة التى سمح لها الرئيس جمال عبدالناصر بكسر اتفاقية روجز لوقف إطلاق النار عندما تم تغيير اسم الفرقة من المجموعة 39 قتال إلى منظمة سيناء العربية، وسمح لهم بضم مدنيين وتدريبهم على العمليات الفدائية، وتم تجريدهم من شاراتهم ورتبهم العسكرية ليمارسوا مهماتهم بحرية خلف خطوط العدو، ويذكر أن أفرادها هم أول من ألف نشيد الفدائيين المعروف. استردوا شاراتهم ورتبهم العسكرية واسمهم القديم «المجموعة 39 قتال» صباح الخامس من أكتوبر 73 عندما تم اسقاطها خلف خطوط العدو لتنفيذ مهمات خاصة واستطلاعات استخبارية أرضية تمهيدا للحرب الشاملة فى إطار التحرير، وتجدر الإشارة إلى أن الجيش الاسرائيلى فى تحقيقاته فيما بعد أطلق عليهم مجموعة الاشباح.
الشهيد أحمد بدوى فى حادثة غريبة لم يتم كشف الغموض عنها حتى الآن استشهد الفريق أحمد بدوى سيد أحمد و13 قائدا آخرين فى حادث لم يستغرق أكثر من 5 دقائق، والسبب هو أن مروحة ذيل الطائرة تعلقت بأحد أسلاك الكهرباء فاختل توازن الطائرة لتندفع نحو عمود نور فاصطدمت به ثم هوت إلى الأرض. وبدوى ولد بالإسكندرية، فى 3 أبريل 1927، وتخرج فى الكلية الحربية عام 1948 ، اشترك فى حرب 48، وعين بعد الحرب مدرساً فى الكلية الحربية، ثم أصبح مساعداً لكبير معلمى الكلية عام 1958. والغريب فى مسيرة الشهيد أنه بعد حرب يونيه 1967، صدر قرار بإحالته إلى المعاش، واعتقل لمدة عام إلى أن تم الإفراج عنه فى يونيه 1968، والتحق خلال تلك الفترة بكلية التجارة، جامعة عين شمس، وحصل على درجة البكالوريوس، شعبة إدارة الأعمال، عام 1974. لكن فى مايو 1971، أصدر الرئيس السادات قراراً، بعودته إلى صفوف القوات المسلحة، والتحق بأكاديمية ناصر العسكرية العليا فى عام 1972، حيث حصل على درجة الزمالة عام 1972. ثم تولى منصب قيادة فرقة مشاة ميكانيكية. فى حرب أكتوبر 1973 قاد فرقته لعبور قناة السويس، إلى سيناء، ، ضمن فرق الجيش الثالث الميداني، وفى 13 ديسمبر 1973، رقى إلى رتبة اللواء، وعين قائداً للجيش الثالث الميدانى ، وفى 25 يونيه 1978، عُين اللواء أحمد بدوى رئيساً لهيئة تدريب القوات المسلحة. ثم عُين رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة فى 4 أكتوبر 1978، وصار أميناً عاماً مساعداً للشئون العسكرية فى جامعة الدول العربية. ورقى لرتبة (الفريق) فى 26 مايو 1979، ثم عين وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للقوات المسلحة، فى 14 مايو 1980 ، حيث وقعت حادثة استشهاده قبل أن يستكمل عاماً فى منصبه كوزير للدفاع. شهداء أكتوبر حين نبحر بعمق بين دفتى كتاب العزة والفخار المصرى لسير بعض من أبرز شهداء مصر البررة، لابد أن نصل إلى صفحات ملحمة أكتوبر العظيم، فلم تكن تلك الملحمة ممكنة دون تضحيات، ولم يكن غريبا أن يتسابق الجميع إلى نيل الشهادة فى ساحة المعركة ، ضباطا كانوا أو جنودا من سلاح المهندسين أو رجال الصاعقة، من المشاة أونسور الجو من الطيارين، تلك كانت حرب 6 أكتوبر 1973، والتى راح ضحيتها العديد من الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن تراب مصرنا الغالية ، ومن أبرزهم: أول جندى شهيد إنه الرقيب محمد حسين محمود سعد، أول شهيد مصرى فى حرب اكتوبر بحسب إشارات التبليغ من الوحدات الفرعية، ويوميات القتال، ولد عام 1946م ودرس بمعهد قويسنا الديني، وتم تعيينه بعد التخرج باحثا اجتماعيا بوحدة طوخ بمحافظة القليوبية قبل أن ينضم إلى القوات المسلحة عام 1968 م كجندى استطلاع خلال السنوات الخمس التى سبقت حرب أكتوبر، وعندما جاءت لحظة العبور الفاصلة فى تاريخ الأمة كان ضمن قوات الجيش الثالث التى بمجرد أن لامست تراب سيناء كانت لحظة استشهاده يوم 6 اكتوبر 1973، ليكون أول شهيد فى أعظم معارك الشرف والفداء. أول طيار شهيد أحد نسور مصر فى حرب 1973، و أشهر شهدائها، ليس لكونه الشقيق الأصغر للرئيس أنور السادات، ولكن لأن هناك إجماعا على تفوقه وكفاءته وبطولته الفذة فى الضربة الجوية، ولد عاطف السادات فى 13 مارس عام 1948م، وتخرج فى الكلية الجوية عام 1966م وقضى عامين فى الاتحاد السوفيتى تطبيقا لبرنامج تدريبى على المقاتلات الجوية ثم القاذفات المقاتلة «سوخوي» وفى عامى 1969م و 1970م شارك فى عمليات هجومية مصرية ضد طائرات اسرائيلية فى عمق سيناء. يوم السادس من اكتوبر طلب عاطف السادات من قائد تشكيله «الشهيد زكريا كمال» أن يشارك فى الضربة الأولى بدلا من الانتظار إلى ضربة ثانية، كانت تجهز لها القوات الجوية وأمام إلحاحه استجاب قائده لذلك واشتركا معا فى مهمة جسورة كللت باستشهادهما بعد عملية قصف لقوات العدو فى منطقة «أم مرجم» ثم قصف الطائرات الإسرائيلية الرابضة فى «المليز»، وعندما أقيم الاحتفال بتكريم أبطال أكتوبر فى مجلس الشعب ، تسلم الرئيس أنور السادات، من وزير الحربية المشير أحمد إسماعيل على وسام نجمة سيناء تكريما لاسم شقيقه البطل. أول ضابط شهيد هو اللواء شفيق مترى سدراك، والذى كان أول من قلدهم الرئيس السادات ضمن أبطال القوات المسلحة الشهداء والأحياء أوسمة النصر فى مجلس الشعب يوم 19 فبراير 1974، ليكون اسمه أول الحاصلين من الضباط على وسام نجمة سيناء، ومترى ولد فى عام 1921 م بقرية المطيعة بمركز أسيوط، وبعد أن قضى عامين فى كلية التجارة اختار فى النهاية أن يلتحق بالكلية الحربية ليتخرج فيها عام 1948م مقاتلا بسلاح المشاة، وأظهرتفوقا ملحوظا لدرجة انه كان من الضباط القلائل الذين حصلوا على شهادة أركان حرب وهو برتبة رائد ، واختير للعمل كمدرس لمادة التكتيك بالكلية الحربية ، ثم أصبح كبيرا للمعلمين بها . وشارك فى حربى 1956- 1967، قبل أن يكون قائدا لكتيبة مشاة فترة الاستنزاف - حاربت فى منطقة «أبى عجيلة» وكبد العدو خسائر كبيرة ، حصل بموجبها على ترقية استثنائية، ليسجل بطولات متعددة فى بورسعيد والدفرسوار والفردان وجنوب البلاح، و استشهد اللواء شفيق مترى سدراك فى اليوم الرابع للحرب 10 اكتوبر 1973م وهو يقود أحد ألوية المشاة المدرعة التابعة للفرقة 16 بالقطاع الأوسط فى سيناء وكان حال استشهاده يتقدم قواته بمسافة كيلو متر كامل فى عمق سيناء. الشهيد أحمد حمدي هو أحد أبرز شهداء حرب أكتوبر، وبالطبع يعرفه الكثيرون بحكم إطلاق اسمه على النفق الشهير الذى أنهى إلى الأبد عزلة سيناء عن مصر، وحمدى من أبناء الدقهلية، وتخرج فى مدرسة المنصورة الثانوية، وأصبح مهندسا ميكانيكيا عام 1951م ، قبل أن يلتحق بالقوات المسلحة ملازما أول فى سلاح المهندسين . أبدى حمدى فى حرب 1956م بطولة فائقة وسط القنابل التى أسقطتها طائرات إسرائيل على منطقة «شعير» فى سيناء، ويعد واحدا من أهم من ساهموا فى إعادة بناء القوات المسلحة بعد هزيمة 1967م حيث أشرف على تصنيع الكثير من المعدات والأجهزة . وفى حرب 1973م المجيدة ساهم الشهيد بحكم موقعه نائبا لمدير سلاح المهندسين ، وقائد قوات كبارى العبور إلى سيناء بمجهود خارق فى إعادة إنشاء الجسور التى تحطمت بعض أجزائها جراء قصف الطائرات الإسرائيلية منذ الساعة صفر يوم6 اكتوبر ، وظل ثمانية أيام بجوار جنوده لا يفارق جسوره المشيدة، وفى يوم 14 أكتوبر قام مع رجاله بإعادة إنشاء كوبرى كان قد سبق فكه، وقاد الشهيد بنفسه ناقلة برمائية للمساهمة فى عمليات إعادة الإنشاء، ورغم عمليات القصف الشرسة فإنه لم يبعد عن المنطقة حتى استشهد بعد إصابته بإحدى الشظايا المتطايرة . وقد نال الشهيد أحمد حمدى تكريما خاصاً لجسارة تضحيته حيث أطلق اسمه على أول دفعه تخرجت من الكلية الحربية بعد حرب اكتوبر ، وتم إطلاق اسمه على نفقه الشهير.
العقيد عبد التواب اسم لايعرف المصريون كثيرا عن بطولاته الفريدة والقدرة السريعة على تقدير الموقف والإنجاز فى آن واحد ، ففى تمام الرابعة والنصف من عصر يوم السبت 6اكتوبر 1973م، وخلال نصف ساعة فقط، نجح العقيد «إبراهيم عبد التواب « ورجاله الأفذاذ من المشاة فى اجتياز البحيرات المرة لاقتحام نقطة كبريت « قرية تقع شرق البحيرات»، منذ يوم 16أكتوبر وبداية التسلل الإسرائيلي، والتى عرفت بعد ذلك ب «الثغرة» لتصبح نقطة كبريت مركزاً لهجمات شرسة من جانب العدو فى محاولة استعادتها، لكن براعة عبد التواب، وزميله «محمد أمين مقلد» فى قيادة ملحمة الصمود داخل النقطة حالت دون ذلك، رغم وابل من القصف الجوى والمدفعى العنيف. وفى ليلة 23 أكتوبر استشهد «مقلد» وأصبح عبد التواب منذ تلك اللحظة قائدا للنقطة التى دمرت القنابل جزءا كبيرا منها ، لكن العدو فى يوم 14يناير 1974م حرك عرباته المدرعة فى اتجاه الموقع ووقف القائد المصرى عند الحد الأمامى للموقع وهو يوجه المدفعية بنفسه إلى أن أطلق العدو دانة مدفع استقرت إحدى شظاياها فى جسده الطاهر مستشهدا فى سبيل الوطن. بسالة العقيد محمد زرد بعد عبور القوات المسلحة المصرية قناة السويس - أضخم مانع مائى عرفه التاريخ - ووقوف خط بارليف المحصن حاجزا أمام عبور القوات المصرية إلى قلب سيناء، فإن الهجوم الكاسح أسقط كل هذه الحصون إلا نقطة واحدة بقيت مستعصية على السقوط فى أيدى القوات المصرية، وكانت تلك النقطة ذات تحصين فريد وقوي، وحالت دون اقتحامها من قبل القوات المصرية صبات حديدية مدفونة فى الارض. ولها باب صغير تعلوه فتحة ضيقة للتهوية. حالة من القلق بالطبع انتابت المجموعة المكلفة بالتعامل مع هذا الحصن خاصة أن الأعلام المصرية أصبحت ترفرف فوق جميع حصون برليف بعد سقوطها عدا هذا الموقع الصامد الذى فشلت معه كل المحاولات، وإذا بالارض تنشق عن العقيد «محمد زرد» الذى يجرى مسرعا تجاه جسم الموقع متحاشيا الرصاص الإسرائيلى المنهمر بغزارة من الموقع، وبخفة الفراشة اعتلاه وألقى بقنبلة بداخله عبر فتحة التهوية، وبعد دقيقتين ألقى بجسده الطاهر إلى داخل الحصن وسط ذهول أفراد فرقته التى كان قائدا لها، وخلال انزلاقه بصعوبة من الفتحة الضيقة وجه له الجنود الإسرائيليون من داخل الموقع سيلا من الطلقات النارية أخرجت احشاءه من جسده، وجراء تلك العملية التى تمت فى ثوان معدودة تأكد أفراد فرقته أن روحه قد فاضت إلى بارئها، وإذا بباب الحصن يفتح من الداخل ويخرج منه العقيد زرد ممسكا أحشاءه الخارجة من بطنه بيده اليسرى واليمنى على باب الحصن تضغط عليه بصعوبة لاستكمال فتحه، واندفع الجنود المصريون إلى داخل الحصن وأكملوا تطهيره، ثم حملوا قائدهم زرد إلى أعلى الحصن، وقبل أن يفارق الحياة لمس علم مصر وهو يرتفع فوق آخر حصون خط بارليف أقوى حصون العالم فى التاريخ العسكرى ثم يفارق الحياة بطلا نادر التكراربعدما مكن زملاءه من امتلاك مفتاح النصر. أسد سيناء تلك واحدة من بين مئات القصص التى أبرزت شجاعة المقاتل المصري، على الرغم من أنها ظلت فى طى الكتمان لأكثر من 23 سنة كاملة، حتى اعترف بها جندى إسرائيلى سابق كان فى ميدان المعركة، ونقلت وكالات الأنباء العالمية قصته مقرونة بلقب «أسد سيناء» ترجع بداية فصول القصة أو نهايتها إلى عام 1996 حين كان سيد زكريا واحدا من ضمن المفقودين فى حرب 73، حتى اعترف سفير اسرائيل فى المانيا الذى كان جنديا اسرائيليا فى جيش العدو آنذاك، ولأول مرة يحكى للسفير المصرى فى ألمانيا أنه قتل الجندى المصرى «سيد زكريا خليل»، مؤكدا انه كان مقاتلا فذا، وأنه قاتل ببسالة وشجاعة نادرة حتى الموت وتمكن من قتل 22 اسرائيليا بمفرده. وسلم السفير الإسرائيلى متعلقات البطل المصرى إلى نظيره المصرى وهى عبارة عن السلسلة العسكرية الخاصة به ، إضافة إلى خطاب كتبه إلى والده قبل استشهاده، مؤكد أنه من فرط إعجابه بشجاعة «خليل» ظل محتفظا بهذه المتعلقات طوال هذه المدة تقديرا لهذا البطل، وانه بعدما نجح فى قتله قام بدفنه بنفسه وأطلق 21 رصاصة فى الهواء تحية الشهداء. ربما جاء هذا الاعتراف للسفير المصرى من قبل الجندى الإسرائيلى السابق بعد تردد بالغ فى كشف هذا السر، مشيرا إلى أنه كان مذعورا من هذا الشخص الذى يقتل رفاقه واحدا تلو الآخر، ولم يكن يصدق أنه فرد واحد، مضيفا: كنت خائفا ومختبئا حتى تتاح له الفرصة لقتل العريف سيد. وقصة أسد سيناء تبدأ بصدور التعليمات فى أكتوبر 73 لطاقمه المكون من 8 افراد بالصعود إلى جبل «الجلالة» بمنطقة رأس ملعب بسيناء، وقبل الوصول إلى الجبل استشهد أحد الثمانية فى حقل الغام، ثم صدرت التعليمات من قائد المجموعة النقيب «صفى الدين غازي» بالاختفاء خلف إحدى التباب واقامة دفاع دائرى حولها، على اعتبار أنها تصلح لصد أى هجوم، وفجأة ظهر اثنان من بدو سيناء يحذران الطاقم من وجود نقطة شرطة إسرائيلية قريبة فى اتجاه معين، وبعد انصرافهما زمجرت 50 دبابة معادية تحميها طائرتا هليكوبتر، وانكمشت المجموعة تحبس أنفاسها حتى تمر هذه القوات ولتستعد لتنفيذ المهمة المكلفة بها. عند حلول الظلام ومع بداية النصف الأول من الليل، وبينما يستعدون للانطلاق لأرض المهمة، ظهر البدويان ثانية وأخبرا النقيب غازى أن الإسرائيليين قد أغلقوا كل الطرق، ومع ذلك وتحت ستار الليل تمكنت المجموعة من التسلل إلى منطقة المهمة بأرض الملعب، واحتمت بأحد التلال، لكن مياه الشرب قد نفدت فتسلل الأفراد «أحمد الدفتار وسيد زكريا وعبدالعاطى ومحمود بيكار» إلى بئر قريبة للحصول على الماء، لكنهم فوجئوا بوجود 7 دبابات إسرائيلية فعادوا لابلاغ قائد المهمة باعداد خطة للهجوم عليها قبل بزوغ الشمس. تم تكليف مجموعة من 5 أفراد لتنفيذها منهم سيد زكريا وعند وصولهم للبئر وجدوا الدبابات الإسرائيلية قد غادرت الموقع بعد أن ردمت البئر، وفى طريق العودة لاحظ الجنود الخمسة وجود 3 دبابات بداخلها مع جميع أطقمها، فاشتبك سيد زكريا وزميل آخر له من الخلف مع اثنين من جنود الحراسة وقضيا عليهما بالسلاح الأبيض، وهاجمت بقية المجموعة الدبابات وقضت بالرشاشات على الفارين منها، وفى هذه المعركة تم قتل 12 إسرائيليا، ثم عادت المجموعة لنقطة انطلاقها، لكنها فوجئت بطائرتى هليكوبتر تجوبان الصحراء بحثا عن أى مصرى للانتقام منه، ثم انضمت إليهما طائرتان أخريان وانبعث صوت عال من إحدى الطائرات يطلب من القائد غازى تسليم نفسه مع رجاله، وقامت الطائرات بإبرار عدد من الجنود الإسرائيليين بالمظلات لمحاولة تطويق الموقع، وقام الجندى حسن السداوى بإطلاق قذيفة «آر. بي. جي» على إحدى الطائرات فأصيبت، وهرع الإسرائيليون منها فى محاولة للنجاة حيث تلقفهم - الأسد سيد زكريا برشاشه وتمكن وحده من قتل 22 جنديا. استدعى الاسرائيليون طائرات جديدة أبرت جنودا بلغ عددهم مائة جندى اشتبك معهم أسد سيناء وفى هذه اللحظة استشهد قائد المجموعة النقيب «صفى الدين غازي» بعد رفضه الاستسلام، ومع استمرار المعركة غير المتكافئة استشهد جميع أفراد الوحدة واحدا تلو الآخر، ولم يبق غير أسد سيناء مع زميله أحمد الدفتار فى مواجهة الطائرات وجنود المظلات المائة، حيث نفدت ذخيرتهما ثم حانت لحظة الشهادة، وتسلل جندى اسرائيلى خلف البطل وأفرغ فى جسده الطاهر خزانة كاملة من الرصاصات ليستشهد على الفور، ويسيل دمه الذكى على رمال سيناء الطاهرة، بعد أن كتب اسمه بأحرف من نور فى سجل الخالدين. وقد كرمت مصر ابنها البار، فور علم الرئيس السابق مبارك بقصة هذا البطل حتى منحه نوط الشجاعة من الطبقة الأولي، كما أطلق اسمه على أحد الشوارع بمنطقة الشيراتون حى النزهة. تحية إعزاز وتقدير وفى النهاية، لابد من تحية إعزاز ومحبة وتقدير إلى أرواح كل شهداء الوطن الأبطال من الجيش والشرطة، الذين قدموا أغلى مايملكون، بكل الحب، فداء لمصر وشعبها الحر، وتحية أخرى واجبة لكل الذين عقدوا العزم على أن يحموا الوطن من كل باغ وحاقد ومتكبر، الذى يقول كذبًا إنه يدافع عن الإسلام! ربما لم يبق لنا سوى الدموع التى تجرى من مآقينا الآن، ومع كل قطرة دم عزيزة من ابن من أبنائنا فى الجيش والشرطة حتى صرنا دمعة كبيرة على خد مصر، ولأننا نحن الذين تربينا على حبها وفى كنفها ، ولا يعدل حبنا لها فى الدنيا شيء، لن نقبل أبدا أن يتحكم فى مصائر أمتنا أصحاب الرءوس الصدئة والمبادئ المغلوطة والهدامة، ولن يكونوا مثل أوصياء علينا باسم الدين، لقد قد وهب الإنسان الحرية، ومن ثم لن يسلبها أدعياء الدين، الذين يريدون لنا أن نحيا بأفكار وعادات بالية عفا عليها الزمن ، ويريدون أن يبثوا فى مجتمعاتنا البداوة والتخلف، ونحن نقول لهم أن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مازال وسيظل يحيا بين ظهرانينا بأخلاقه وتسامحه الجم ، ونقول لهم « أنتم تحفرون بأيديكم قبوركم، لأنكم أعداء للسلام والخير، أعداء لله عز وجل ولأوطانكم التى تربيتم فى كنفها.