بالرغم من أن العمليات الإرهابية والتنظيمات المتطرفة ليست بالوافد الجديد علي الساحة الليبية، خاصة في الآونة الأخيرة، إلا أن جريمة قتل المصريين التي وقعت في الخامس عشر من فبراير تُشير لترد خطير في الوضع الأمني في ليبيا، كما أنها تلقي الضوء علي أبعاد مختلفة داخل الواقع السياسي الليبي الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. وانطلاقاً من الواقع السياسي المعقد الحالي في ليبيا، بات علي مصر إعادة التفكير في سياستها إزاء الصراع الدائر في ليبيا، ونمط التدخل السياسي أو العسكري المطلوب للحفاظ على الأمن القومي ودرء التهديدات الموجهة له خلال المرحلة المقبلة. سيادة متعددة فبعد مرور أربع سنوات علي قيام الثورة في ليبيا ضد نظام معمر القذافي في 17 فبراير 2011، مازالت ليبيا تعاني من مشكلات عدة، أكبرها وأكثرها تعقيداً هي مشكلة غياب الدولة بالمعنى المتعارف عليه سياسياً واجتماعياً. فعندما سقط نظام القذافي في أغسطس 2011، لم تكن هناك سوى بقايا مؤسسات تعمل في إطار هيكل وهمي للدولة، ولم تتمكن السلطات المتعاقبة بدءاً من المجلس الوطني الانتقالي وحتى الحكومة الحالية بقيادة عبدالله الثني من فرض هيبة الدولة والقضاء علي الكيانات المسلحة غير الشرعية التي تسيطر علي مرافق محورية لا يمكن أن تسيطر عليها أية جهة غير الدولة ومؤسساتها الرسمية. وظل الوضع في ليبيا علي ما هو عليه، حكومة تسعى لفرض شرعيتها من خلال التفاوض والتفاعل مع عدد من الكيانات غير الشرعية التي تنال من شرعية الدولة والحكومة التي تمثلها، وهي حالة كلاسيكية من حالات السيادة المتعددة التي تتكرر كثيراً بعد نموذج الثورة المسلحة الذي مرت به ليبيا. حوارات عقيمة ولكن الواقع السياسي الآن في ليبيا يمر بمرحلة تحول خطير، فبالرغم من جلسات الحوار التي تمت تحت رعاية الأممالمتحدة، والتي ظن البعض أنها ستكون بمثابة بداية مرحلة جديدة من التفاعل السياسي بين الفرقاء الليبيين، لم تكن لهذه الجلسات أية نتيجة سوى اتساع الفجوة بين الأطراف المتصارعة داخل ليبيا، والتأكيد على أن التوصل لحل سياسي مازال بعيد المنال. فبعد أن كان الحوار يضم طرفين رئيسيين، وهما مجلس النواب الموجود في طبرق، والمؤتمر الوطني القائم في طرابلس، جاءت جلسات الحوار الوطني الأخيرة بفاعلين جدد كمجلس عمداء البلديات وأنصار معمر القذافي الذين بدأوا يطالبون بالاشتراك في الحياة السياسية متجاهلين قانون العزل السياسي الذي يمنعهم من ذلك، وبالرغم من زيادة أطراف الحوار، لم تكن هناك إمكانية لاستيعاب مطالب كل طرف عسكرياً وسياسياً، ومن ثم، لم تكن جلسات الحوار الوطني في سويسرا سوى حلقة جديدة من تعميق الخلاف الداخلي بين الفاعلين السياسيين في ليبيا. ولازال العنصران الأساسيان في الصراع ثابتين علي مواقفهم، فالشروط التي وضعها كل من مجلس النواب والمؤتمر الوطني للمشاركة في حوار سياسي فاعل تنال من شرعية الطرف الآخر، ولذلك فمن غير الممكن أن ننتظر تهيئة المناخ لحوار وطني يأتي بحل سياسي للأزمة في ظل التحديات الأمنية الجديدة التي بدأت تطل برأسها من الداخل الليبي. فالحوار السياسي لم يزل مرهوناً بتقديم تنازلات من الطرفين الرئيسيين، وهو ما يزداد صعوبة يوماً بعد يوم، فالمؤتمر الوطني مازال متمسكاً بتطبيق قانون العزل السياسي، والاعتراف بحكم المحكمة الدستورية العليا الذي يقضي بعدم شرعية انتخابات مجلس النواب، وفي المقابل يظل مجلس النواب متمسكاً بعودة الأوضاع لمرحلة ما قبل انتخابات يوليو 2012 التي أتت بالمؤتمر الوطني، وإلغاء قانون العزل السياسي، ودمج قوات خليفة حفتر في الجيش الوطني الليبي وإعلان حفتر قائداً أعلى له. وفي ظل هذا الواقع السياسي المضطرب والخلاف الذي يزداد اتساعاً داخل ليبيا، كان الموقف المصري واضحا وصريحا في تأييده لضرورة التوصل لحل سلمي يضع حداً لحمامات الدم داخل ليبيا ويحافظ علي وحدة ترابها، وبالتالي كانت مصر فاعلاً أساسياً في كل المحاولات الإقليمية والعربية لرأب الصدع بين الفرقاء السياسيين داخل ليبيا، سواء كان ذلك علي مستوى جولات الحوار الرسمية، أو الجهود السياسية والدبلوماسية المختلفة. داعش سرت وبالرغم من التأييد الواضح من القيادة المصرية لمجلس النواب في طبرق، والإيمان بشرعية الحكومة المنبثقة عنه بقيادة عبد الله الثني، إلا أن مصر لم تتدخل عسكرياً في ليبيا لإعلاء طرف على الآخر، بل كانت تدخلاتها السياسية في الآونة الأخيرة كلها من منطلق الحفاظ علي أمن مصر القومي ومواجهة التهديدات الأمنية الآتية من حدود مصر الغربية مع ليبيا دون التدخل المباشر، واتبعت مصر هذه الإستراتيجية تجاه الأوضاع في ليبيا إلى أن جاء حادث قتل المصريين علي ساحل سرت على أيدي أحد التنظيمات التي تبايع «داعش» والتي يطلق عليها «داعش سرت»، وهي مجموعات مسلحة صغيرة غير منظمة وليس لها زخم سياسي ملحوظ، ولكنها تمثل تهديدا سياسياً وأمنياً جديداً كان علي القيادة السياسية في مصر التصدي له. وبعد ساعات قليلة من نشر الفيديو الذي تضمن جريمة إعدام المواطنين المصريين، جاء رد الجيش المصري سريعاً من خلال الضربة الجوية لمعاقل تنظيم داعش في ليبيا. ومن غير الممكن أن نتناول رد الفعل المصري دون وضعه في السياق السياسي والأمني المناسب، فلا يمكن إغفال مبدأ «رد الفعل»، فالضربة الجوية المصرية لا تمثل تغيراً جوهرياً في السياسة المصرية تجاه الأوضاع في ليبيا بقدر ما تمثل «رد فعل» من دولة تم الاعتداء على أمنها القومي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بأمن وسلامة مواطنيها. فقد ذهب البعض لتحليل الضربة الجوية المصرية علي أهداف تابعة لتنظيم داعش في ليبيا علي أنها بمثابة إعلانً للحرب، أو نمطا جديدا للتدخل المصري في ليبيا الذي لم يتخذ شكلاً عسكرياً من قبل، كما بدأ البعض الآخر في توجيه الانتقادات للقوات المسلحة المصرية وللقيادة السياسية في مصر للتعدي علي سيادة الدولة في ليبيا، أو لفتح جبهات جديدة في سياق معركة الجيش المصري مع التنظيمات الإرهابية بالإضافة للجبهة الموجودة في سيناء. تغير نمط التدخل ولكن المعطيات علي أرض الواقع لا تشير لتغير جوهري في السياسة الخارجية المصرية تجاه ليبيا، ولكن الاحتمال الأكثر عقلانية والأقرب للحدوث هو تغير في نمط التدخل المصري في الشأن الليبي. فالواقع السياسي في ليبيا كما ذكرنا من قبل لم يتغير كثيراً، والصراع لم يقترب بعد من مرحلة الاحتواء السياسي، ولكن استمرار الصراع السياسي والسجال العسكري داخل ليبيا دون تفوق ملحوظ لطرف على الآخر أدى للمزيد من التفكك في الجبهات الرئيسية للصراع، خاصة داخل معسكر الإسلام السياسي، وهو ما كان من شأنه ظهور تنظيمات وكيانات صغيرة ذات قدرة عسكرية، وهي كيانات غير شرعية لا يمكن احتواؤها سياسياً نظراً لفكرها المتطرف وابتعادها عن سياق الصراع السياسي الدائر داخل ليبيا. وفي نفس الوقت، باتت فكرة التدخل العسكري الدولي في ليبيا فكرة مطروحة وتنال دعماً متزايداً من دول الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، وخاصة فرنسا وإيطاليا. رسائل مختلفة وبالتالي، كانت الضربة الجوية المصرية علي معاقل داعش في ليبيا بمثابة رسالة للأطراف المختلفة المهتمة بالشأن الليبي، فمن ناحية، لن تقف مصر مكتوفة الأيدي تجاه أي اعتداء علي رعاياها وأمنها القومي، وهي رسالة للتنظيمات غير الشرعية في ليبيا والقوى التي تدعمها، سواء داخل ليبيا أو خارجها، وهي الرسالة التي تأكدت بعد تصريحات الجيش الوطني الليبي التي حرصت على توضيح حجم التنسيق بين القوات المسلحة المصرية وبين القوات المسلحة في ليبيا، ونفي فكرة التعدي على سيادة الدولة في ليبيا والتأكيد علي استمرار التنسيق الأمني والعسكري بين مصر وليبيا في المستقبل. ومن ناحية أخرى، حملت الضربة الجوية المصرية رسالة للمجتمع الدولي مفادها قدرة مصر علي التصدي لخطر الإرهاب القادم من ليبيا، وقد جاء بيان القوات المسلحة المصرية ليؤكد حق مصر في الرد بالشكل الذي تراه مناسباً وفي التوقيت الذي تراه مناسباً، ثم جاءت الجهود الدبلوماسية للخارجية المصرية للتأكيد على أن مصر تعمل في إطار مواجهة المجتمع الدولي للإرهاب، وأنها قادرة علي التدخل الفاعل في ليبيا تحت مظلة من الشرعية الدولية، وبهذا فرضت مصر نفسها كضلع أساسى لا يمكن الاستغناء عنه أو تجاهله في حال التوافق علي تدخل دولي أو إقليمي في ليبيا. خيارات محددة وفي النهاية، بالرغم من ظهور تحديات جديدة داخل الواقع السياسي الليبي، وبالرغم من تعاظم التهديدات الأمنية القادمة من عدد من الكيانات غير الشرعية داخل ليبيا، لن تغير مصر من موقفها السياسي إزاء الأوضاع في ليبيا. فسوف تستمر مصر في دعمها لمجلس النواب والحكومة المنبثقة عنه كالممثل الشرعي للشعب الليبي وللدولة الليبية، وستستمر مصر في التنسيق مع الجيش الوطني الليبي وفي دعمها لإعادة بناء قدراته، كما ستظل مصر علي موقفها من حرصها الشديد علي وحدة التراب الليبي والعمل علي وضع حد للخلاف السياسي بين الفرقاء داخل ليبيا. كما أنه من الطبيعي أن تشهد الفترة القادمة جهودا مصرية علي المستوى الدبلوماسي للإعلاء من شرعية برلمان طبرق ولفك الحصار عن تسليح الجيش الوطني الليبي، وهو ما اتضح في جلسات مجلس الأمن مؤخرا. كما أنه من المتوقع أن تكون مصر أحد أعضاء تحالف سياسي إقليمي يهدف لإنهاء حالة الصراع داخل ليبيا بحلول سلمية من خلال الضغط على الأطراف المختلفة لتقديم تنازلات تجعل من الاحتواء السياسي للأزمة أمراً ممكناً. بمعنى آخر، ستظل مصر تساند الكيان الشرعي داخل ليبيا من خلال الدعم السياسي علي المستوى الدولي والإقليمي، والتنسيق العسكري والاستخباراتي بين القوات المسلحة المصرية والجيش الوطني الليبي، ولكن يظل التعدي على الأمن القومي المصري خطاً أحمر لن تقف الإدارة السياسية في مصر مكتوفة الأيدي في حال التعدي عليه.