والعالم تغمره الدهشة وتسيطر عليه مشاعر الغضب صوب القتل الممنهج الذى تصنعه عصابات داعش الإرهابية فى البقاع العربية، وبمسحة هوليودية فى الإخراج والتقنية يبث تنظيم الدولة الإسلامية مشهد الذبح لأكثر من عشرين مصريا فى ليبيا، بدءا من الخطوات الوئيدة والمحسوبة فى السير بين كل ضحية وأخرى، ووصولا إلى البحر الذى تملأه الدماء فى النهاية الفجائعية، والرطان الذى يصنعه الإرهابى الداعشى المتكلم فى الفيديو. لكن دهشة العالم واستنكاره وغضبه لم يتجاوز الحلوق والحناجر، وراحت مصر تدافع عن ناسها وأمنها القومى بضربات جوية مؤثرة تعيد الاعتبار للكرامة المصرية التى اعتقد الصغار والحمقى أنهم قادرون على انتهاكها عبر فضائياتهم الملوثة وأياديهم التى لم تزل ملطخة بالدماء، بوصفهم الرعاة الجدد للإرهاب والتطرف فى المنطقة العربية برمتها، فيما يبدو أنه التوكيل الجديد الذى تسند مهمته الإدارة الامريكية لخدم الاستعمار الجديد، سواء أكانوا دويلة نفطية بائسة تمعن فى مزيد من العمالة للإمبريالية الجديدة عبر حضور القاعدة الأكبر لأمريكا فى المنطقة كلها داخلها، أو كانوا دولة لم يزل حكامها يتعلقون بأهداب الخلافة العثمانية الفانية، فيرفعون راية الإسلام بيد، ويناصبون العرب العداء ويقتلونهم عبر تمويل التنظيمات الدينية المسلحة باليد الأخرى. ويلتقى الفريقان فى كونهما أداة مثالية فى يد الاستعمار الجديد، وخطابه المراوغ الداعى لدمج الكيانات المتطرفة فى العملية السياسية فى بلدان الربيع العربى التى انتفضت على سيطرة الإسلاميين المسلحين عليها، وسطو القوى الرجعية على مقدراتها، من هنا كانت الكلمة التى ألقاها الرئيس الأمريكى باراك أوباما فيما سمى قمة واشنطن لمكافحة الإرهاب، حاوية هزلا يوضع موضع الجد، فالرئيس الأمريكى لم يخلص فى كلمته ولا قمته التى استمرت لثلاثة أيام إلى أية إجراءات عملية يقدمها للعالم صوب التعاطى مع التنظيمات المتطرفة، كما لم يتخل عن الحس الاستشراقى المتمترس فى الذهنية الغربية التى لم تزل تتعاطى مع العرب والمسلمين بوصفهم لم يبلغوا سن الرشد الفكرى والسياسى والاجتماعي، وبدت كلماته حول أن الغرب ليس فى حرب مع الإسلام غير ذات جدوى، وإشاراته الواضحة عن استيعاب المتطرفين بدت فى غير محلها، فى ظل عالم عربى عرضة للتمزق بفعل الهجمة التترية القادمة من القاعدة وداعش ومن قبلهما الإخوان حلفاء الرئيس الأمريكى ورجالاته فى المنطقة العربية!. يتجاهل أوباما التناقض الذى تغرق فيه بلاده حين ترفض التصديق على كون الإخوان جماعة إرهابية، فى حين تعتبر حماس إحدى الأذرع العسكرية للإخوان منظمة إرهابية!، ويمنح لنفسه فقط حق الدفاع عن أمته وشعبه ضد القوى الإرهابية، ويدعو الآخرين لاستيعابهم ودمجهم، ويخلط الأوراق حين يشير إلى المهاجرين الذين شكلوا النسيج الأمريكي، مثلما أشار نائبه جو بايدن فى جملة محددة: «نحن بلد مهاجرين وقوتنا تكمن فى أننا مكان اندماج»، ويتيه على حلفائه الأوروبيين بأنهم عجزوا عن أن يشكلوا حاضنة للمهاجرين ومن ثم لم تتعرض أمريكا لما تعرضت له مؤخرا فرنسا والدنمارك من هجمات إرهابية حقيرة، وكأن الرئيس الامريكى ونائبه يتناسيان أن بلادهما ذاتها قد تعرضت لجحيم الإرهاب من قبل، فيما عرف بهجمات الحادى عشر من سبتمبر، والتى أضحت تاريخا فاصلا فى العالم، وتحولاته، وأنساقه السياسية المختلفة، وربما كانت كلمة الرئيس الأمريكى امتدادا للكلمة التى قالها نائبه خلال افتتاح القمة بلهجة مدرسية تملى على العالم ماذا يجب عليه أن يفعل :»علينا أن نتواصل مع مجتمعاتنا، وأن نتواصل مع أولئك الذين ربما يكونون عرضة للسقوط فى فخ التطرف بسبب تهميشهم». على أمريكا قبل أن تمرر خطاب الاستشراق الجديد، والمتكئ فى جانب منه على بعض آليات الاستشراق القديم، بدءا من التفكير بدلا من الشرقيين أنفسهم، والانطلاق من ذلك إلى التكريس لصورة نمطية يأخذها الشرقى عن نفسه، فيما أسماه إدوارد سعيد من قبل ب « شرقنة الشرق»، أى الشرق كما يريده الغرب وكما يريد أن يتصوره ناسه من الشرقيين. لكن هذه المرة يبدو الأمر متجاوزا النزعة الأكاديمية الاستشراقية الاستعمارية المحضة التى دشن لها كثيرون من أبرزهم المفكر الاستعمارى برنارد لويس، فإذا كان للويس كتابات مختلفة بشأن تفتيت العالم العربى وتقسيمه والتكريس لصيغة مشروع الشرق الأوسط الجديد، فإن الآليات هذه المرة تبدو أكثر سفورا، فاحتضان التنظيمات الدينية وحركات الإسلام السياسى من قبل الإدارة الامريكية لم يعد خافيا على أحد، والدعم الذى قدمه أوباما للإخوان فى مصر محل تساؤل طيلة الوقت، والأداء الداعشى سواء فى التمدد السريع فى بلدان العالم العربي، أو حتى فى الفيديوهات التى يبثها بتقنية عالية، يبدو مسكونا برائحة استخباراتية داعمة للتنظيم الإرهابي، وبحيث يصبح الخطاب الأمريكى واقعا فى فخ التناقض بين الشعار والممارسة، أى بين الاحتفاء الظاهرى بقيمة الديمقراطية والتكريس لها فى العالم، وغض الطرف فى الآن نفسه عن الجماعة الأم التى صدرت التطرف للعالم عبر كتابات شيوخها ومنظريها، بل دعمها والوقوف خلفها طيلة الوقت. باختصار.. نحن الآن أمام الموجة الأسوأ من موجات التحالف المشبوه بين الرجعية والاستعمار، يعتمد فيها الاستعمار الجديد على القوة الغشوم عبر دعم التنظيمات المتطرفة من جهة، والخطاب المراوغ من جهة ثانية، وبينهما عشرات الأسئلة المطروحة على واقعنا العربى الذى يجب أن يلتفت ساسته الوطنيون ومثقفوه الحقيقيون لما يحاك لبلدانهم من مخاطر، أما أذناب العولمة الأمريكية فى فريقى السياسة والثقافة لدينا، من أبناء الرأسمالية المتوحشة والنمط الاستهلاكى فى رؤية الحياة والعالم فليمتنعوا قليلا، لأن الوقت لم يعد صالحا للمزيد من الخسارات المجانية لأمة تبحث عن نفسها واستقلالها الوطنى وروحها الشغوف بقيم الكرامة والعدل والحرية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله