أظن أن الأوان قد آن لنتعلم من حربنا الطويلة مع جماعات الإسلام السياسي، وهى الحرب التى اشتد فى هذه الايام أوارها، وتعددت ساحاتها أظن أن الآوان قد آن لنتعلم منها الدرس الذى كان يجب علينا أن نتعلمه منذ بدأنا نهضتنا الحديثة قبل قرنين. وهو أننا لانخوض هذه الحرب مع مجرد جماعة من المتطرفين الخارجين على القانون فيكفى أن تتصدى لهم أجهزة الأمن والعدالة كما ظللنا نفعل طوال العقود الماضية وكما لانزال نفعل حتى الآن، وإنما نحن نحارب عصورا ممتدة وثقافة موروثة منتشرة لها فى كل مكان فى بلادنا وفى كل مؤسسة من مؤسساتنا من يمثلونها ويستفيدون منها ويدافعون عنها. نحن نحارب اثنين وعشرين قرنا من الزمان فقدنا فيها حريتنا وخضعنا لامبراطوريات استولت على بلادنا باسم الدين، ومزقت وحدتنا، وصيرتنا نحن الذين بدأنا الحضارة، واخترعنا الكتابة، وبنينا الدولة، وأطلعنا من ظلمات التوحش فجر الضمير صيرتنا هذه الامبراطوريات رقيق أرض فى ارضنا، وعبيدا مملوكين للعبيد المماليك! نعم. فمنذ سقطت مصر فى أيدى الغزاة الفرس فى القرن الرابع قبل الميلاد إلى أن سقطت فى يد بونابرت فى آخر القرن الثامن عشر لم ننعم بالاستقلال ولم نذق طعم الحرية يوما واحدا. ألفان ومائتا عام حرمنا فيها من أن نملك شبرا فى أرضنا، فنحن فيها أجراء مسخرون نزرعها للغزاة الأجانب ونسلم لهم غلتها. وكما اغتصب حقنا فى ملكية ارضنا اغتصب حقنا فى الاستقلال، فنحن محرومون من المشاركة فى الحكم، ونحن محرومون من حمل السلاح. وطوال هذه القرون الطوال لم يكن لنا حاكم مصري، ولم يكن لنا جيش وطنى، ولم تكن لنا بالطبع ثقافة تجسد تاريخنا وتحفظ لنا حقوقنا وتعبر عن شخصيتنا، والثقافة التى ظلت سائدة فى مصر طوال هذه القرون كانت ثقافة بدوية معادية للوطن وللانتماء الوطني، وكانت معادية لمصر بالذات، لانها تأسست على التاريخ الاسطورى الذى كتبه اليهود لانفسهم ورسموا لنا فيه تلك الصورة الكريهة التى نجدها لمصر وللمصريين فى التوراة. والغريب وإن كان مفهوما أننا تبنينا هذا التاريخ طوال العصور الماضية ولم نبدأ مراجعته إلا حين تخلصنا من تبعيتنا المباشرة للاتراك العثمانيين واستعدنا حقنا فى الاستقلال وحمل السلاح وبناء الدولة الوطنية الحديثة. لكن هذه الثقافة الاسطورية التى ارتبطت عندنا بالدين لاتزال منتشرة مؤثرة تفسد علينا حياتنا الوطنية وتحول بيننا وبين الخروج النهائى من عصور الظلام والانخراط الكامل فى العصور الحديثة والمساهمة فى حضارتها. لقد بدأنا نهضتنا مع محمد على طيب الله ثراه، فهو الرجل الذى استعدنا معه دولتنا الوطنية وحقنا فى حمل السلاح، ثم واصلنا الطريق بعده فحصلنا على الدستور والبرلمان، وهى منظومة تتواصل مفرداتها ويستدعى بعضها بعضا فى زمن النهضة والتقدم، وتنفرط هذه المنظومة وتتساقط مفرداتها واحدة بعد أخرى فى زمن التراجع والانهيار. الأمة تستدعى الوطن. والوطن يستدعى الدولة. والدولة تستدعى الدستور. والدستور يستدعى البرلمان والحكومة والقضاء والقوات المسلحة واجهزة الأمن وغيرها من ا لمصالح والمؤسسات التى استكملناها بعد ثورة 1919. لكننا عرضناها للضياع حين تركناها قبل ان يشتد عودها فريسة لثقافة الماضى وللقوى المرتبطة بها والمستفيدة منها. حين كنا نناضل لاخراج الانجليز من مصر كان منا من لايزالون يعتبرون أنفسهم عثمانيين، لانهم كانوا يعتقدون أن الاسلام ليس دينا فقط، ولكنه أيضا جنسية تجمع بيننا وبين بقية الأمم الإسلامية وتعطى الأتراك الحق فى أن يحكمونا ويفرضوا علينا الجزية ويضربونا بالكرباج، وتفرض علينا أن نكون تابعين لهم، لان تبعيتنا للاتراك المسلمين تساعدنا فى التحرر من الإنجليز الكفار! لكن المد الوطنى كان قويا عارما من ناحية. وكان الأتراك العثمانيون من ناحية أخرى قد خرجوا من الحرب العالمية الأولى مهزومين عاجزين حتى عن إنقاذ أنفسهم مما ساعد أتاتورك على الغاء الخلافة وإعلان الجمهورية. وفى هذا المناخ نجحت الثورة المصرية، وأصبحت مصر دولة وطنية مستقلة، وأعلن الدستور، وأجريت الانتخابات واتخذ نواب الشعب مقاعدهم فى البرلمان. غير أن قوى الماضى وثقافته وأمراضه المتوطنة كانت لنا بالمرصاد. الملك فؤاد وأتباعه من رجال الأقليات الحزبية ورجال الأزهر، والأميون والجبناء والمنافقون الذين رأوا أن الشعب التف حول الثورة وزعيمها سعد زغلول، وحول الدولة الوطنية وحول النظام الديمقراطى، وأن هذه المكاسب الشعبية تهددهم وتصادر امتيازاتهم الموروثة، وجدوا أن الفرصة سانحة لرفع شعار يشق الصف ويخدع الجماهير ويستميلها، وهو شعار الخلافة الذى يمكنهم به أن يسقطوا كل ما رفعته الثورة من شعارات ويهدموا كل ما بنته من مؤسسات. إنه يعيدنا الى نقطة الصفر، لأنه يخرجنا من هذا المناخ الوطنى الحى الذى أدخلتنا فيه الثورة ويرجع بنا الى المناخ الدينى المعادى للوطن والديمقراطية الذى كنا فيه قبلها. دولة الخلافة بدلا من الدولة الوطنية. والأمة المصرية تصبح من جديد أمتين (مسلمين وذميين). ومبايعة الملك على السمع والطاعة بدلا من الديمقراطية وحكم الشعب وحقوق الإنسان وهكذا بدأ العمل فى عقد مؤتمر لنقل الخلافة الى مصر وتنصيب الملك فؤاد أميرا للمؤمنين. لكن المناخ الوطنى الثوري، ويقظة المثقفين المصريين وشجاعتهم إضافة الى أسباب أخرى سفهت المحاولة الملكية الطائشة وأسقطت الشعار الرجعى الذى لم يلبث أن وجد من يرفعه من جديد بعد أن حوله الى ثورة مضادة للثورة الوطنية ترد على كل مطلب من مطالبها وعلى كل مكسب من مكاسبها بشعار مضاد. ثورة 1919 جعلت الوطن غايتها. فكان رد حسن البنا على هذا هو: الله غايتنا! كأن الإيمان بالله يمنعنا من أن ننتمى لمصر. وثورة 1919 تزعمها سعد زغلول ورفاقه الذين دعوا للثورة وتقدموا الصفوف فاستجاب لهم المصريون واعترفوا لهم بالزعامة، فكان رد حسن البنا هو: والرسول زعيمنا! كأن استجابتنا لدعوة سعد تبعدنا عن دعوة محمد! وثورة 1919 طالبت بدستور يعطى الشعب حقه والملك حقه. فالملك يملك والشعب يحكم. وقد رد حسن البنا فقال! والقرآن دستورنا! كأن القرآن يتعارض مع سلطة الشعب ولا يتعارض مع طغيان الملك. فكيف تتحقق هذه الثورة المضادة التى دعا لها حسن البنا؟ وما هى الوسيلة التى سيستخدمها حسن البنا هو وأتباعه لتحقيقها؟ الجواب فى الشعار الأخير، أى فى الموت. فالإخوان وزعيمهم يرفضون ا لدستور، ويرفضون الديمقراطية، ويرفضون الأحزب السياسية. والبديل عندهم هو العنف، وهو القتل والذبح والاغتيال، وهو الموت الذى يسمونه جهادا، ويجعلونه شعارا لهم فيقولون! والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا! هذه الثورة المضادة مازالت مشتعلة حتى هذه اللحظة، ومازالت ترفع شعاراتها الدموية وتفرض نفسها علينا، فى الوقت الذى تراجعت فيه الثورة الوطنية ونكست أعلامها وسقطت شعاراتها لأننا لم نخرج حتى هذه اللحظة من الماضي، ولم نبرأ من أمراضه، ولم نتحرر من ثقافته. نعم. وقد آن لنا أن نتعلم هذا الدرس القاسي، فنحن لا نحارب جماعة من المتطرفين، بل نحارب ماضيا لم نستطع أن نخرج منه حتى الآن. ومعنى هذا أننا لا نحارب فى سيناء وحدها، بل نحارب فى مصر كلها. فى المدن والأرياف. فى الأعمال والأفكار. فى الحقول والمصانع والمدارس. فى المساجد والكنائس، ونحن لانحارب غيرنا فحسب، بل نحارب أيضا أنفسنا! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي