سنا فى حاجة لإطالة البحث أو الرجم بالغيب لنعرف ما قصدته مجلة «الأزهر» من نشر هذه المقالة التى سماها صاحبها الشيخ الخضر حسين «ضلالة فصل الدين عن السياسة».. أو بالأحرى من إعادة نشرها فى هذه الأيام. فالقصد واضح مكشوف.. وهو أن تكون محاولة من تلك المحاولات التى يقوم بها البعض فى هذه الأيام ضد ثورة الثلاثين من يونيو التى أسقطت حكم الاخوان الارهابيين الخالطين بين السياسة والدين. نعم.. هى محاولة لتعطيل السير أو حفظ ماء الوجه أو مراهنة يائسة على الكسب فى معركة خاسرة أو هى لثام أو قناع استعارته المجلة لتقول من ورائه ما تود أن تقوله منسوبا للشيخ الخضر حسين. والشيخ الخضر حسين الذى رحل قبل نصف قرن يؤيد خلط الدين بالسياسة .. ومعنى هذا أنه يؤيد الحكومة الدينية أى حكم الاخوان الساقط ولهذا كتب هذه الضلالة .. أقصد هذه المقالة ونشرها قبل حوالى ثمانين عاما يدعو فيها لإحياء الخلافة بعد أن سقطت فى تركيا .. كما سقط حكم الاخوان فى مصر.. ويعارض المثقفين المصريين الذين وقفوا بحزم وبحق ضد هذه الدعوة المسمومة.. وأثبتوا أن الخلافة التى كان الملك فؤاد طامعا فيها نظام سياسى بحت وليست مقاما دينيا أو فريضة كما كان يزعم الذين تحمسوا لإحيائها ومنهم عدد من رجال الأزهر التفوا حول الملك ودعوا لتنصيبه أميرا للمؤمنين .. فتصدى لهم رواد النهضة المصرية وأنصار الدستور والديمقراطية .. ومنهم الشيخ على عبدالرازق فى كتابه الشهير «الاسلام وأصول الحكم».. الذى تحدث فيه بالتفصيل عن علاقة الاسلام بالسياسة .. وعن الخلافة بالذات .. واستعرض مواقف الفرق الاسلامية والفقهاء المسلمين منها.. ومن السلطة ومصدرها .. ورجع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية وتاريخ المسلمين وإلى عصر النبوة يبحث عن نظام الحكم فيه.. فوجد أن الرسالة الدينية لا السياسة هى التى حكمت هذا العصر.. وأن الرسول لم يكن ملكا ولم يكن حاكما.. وانما كان رسولا نبيا يبشر ويذكر.. وهذا ما سبق أن أعلنه الإمام محمد عبده .. وما هو ثابت مؤكد فى القرآن الكريم فى قوله تعالي: «وما أرسلناك عليهم وكيلا».. «إن عليك إلا البلاغ».. «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر». وقد اهتز الأزهر لصدور هذا الكتاب عن واحد ممن تخرجوا فيه ونالوا شهادته وهو الشيخ على عبدالرازق.. فعقد له محاكمة تذكر بمحاكم التفتيش الكاثوليكية فى بدايات النهضة الأوروبية وسحب منه شهادة العالمية مما اضطرت معه وزارة العدل لفصله من وظيفته فى القضاء الشرعى.. كما سارع الشيخ الخضر حسين فألف كتابا ناقش فيه كتاب الشيخ على عبدالرازق .. لكنه لم يستطع أن ينتصر عليه ولم ينجح فى إقناع المصريين بالعمل على احياء الخلافة وتنصيب الملك خليفة.. وانما الذى نجح على الرغم مما أصابه هو الشيخ على عبدالرازق الذى استطاع هو وأبناء جيله أمثال محمد حسين هيكل وطه حسين وسلامة موسى ومحمود عزمى.. أن يفسدوا على الملك وأنصاره مسعاهم.. وأن يقنعوا المصريين بأن الدعوة لإحياء الخلافة ليست إلا مؤامرة لاسقاط حكم الدستور واجهاض النظام الديمقراطى وتمكين الملك من اغتصاب حقوق الأمة. وهكذا انكشفت اللعبة وسكت المتحدثون عن احياء الخلافة إلا الشيخ الخضر حسين الذى عاد بعد سنوات ليكتب مقالته هذه التى اعادت مجلة «الأزهر» نشرها فى عددها الذى صدر فى الشهر الماضى. ما الجديد الذى قدمه الشيخ الخضر مقالته؟ لا جديد.. فقد بدأها باتهام خصمه دون أن يسميه بالمروق.. وهى التهمة التى لا يزال أهل الخلط يرمون بها خصومهم.. فيقولون أنهم مفتونون بالغرب الذى يفصل بين الدين والسياسة. أما المسلمون فيجعلونهما شيئا واحدا.. لأن الاسلام دين ودولة وأحكام وقوانين.. وحكومة الاسلام سلطة واحدة دينية ودنيوية معنى هذا أنها سلطة مطلقة.. والأمير المسلم يدير شئون الأمة على مقتضى القوانين الشرعية .. فهو حاكم دينى ودنيوى يجمع فى يديه بين القوة والهداية كما يقول الشيخ الخضر حسين! وقد تجاهل الشيخ صاحب المقالة كل الأسئلة والاستفسارات التى يمكن أن توجه له.. ومنها السؤال عن مصدر السلطة فى هذه الحكومة الدينية الدنيوية.. وكيف يصل الأمير المسلم إليها عن طريق الانتخاب أم عن طريق الاغتصاب؟ وإذا كان هذا الأمير يجمع بين الهداية والقوة.. فهل يكون من حقنا أن ننقده ونعارضه؟.. وإذا كانت لنا فى السياسة هذه الحرية ونحن لا نملك فى الدين إلا أن نتقيد بما جاء فيه من عقائد ومسلمات.. ألا يكون هذا دليلا قاطعا على أن الدين مجال وأن السياسة مجال آخر؟.. وإذا كانت السياسة نظما وقوانين.. فهل تتطور بتطور الزمن والحاجات.. أم تبقى على حالها بدعوى أنها نظم دينية وتتجمد وتتحجر؟ وهل هى نصوص نتقيد بها حرفيا أم مقاصد تتعدد فيها الطرق وتتجدد؟ الشيخ الخضر حسين لم يجب على هذه الأسئلة لأنها اسئلة عصر جديد لم يكن الشيخ الخضر ينتمى له.. فقد ولد فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر فى تونس التى كانت لا تزال ولاية عثمانية.. وفى مناخ سياسى وثقافى يختلف إلى حد كبير عن المناخ الذى وجد نفسه فيه حين حط رحله فى القاهرة وقد قارب الأربعين. قبل أن يستقر فى القاهرة.. وفى السنوات التى اشتعلت فيها الحرب العالمية الأولى كان يتردد بين تونسوتركيا التى هزمت فى الحرب فشدَّ الرحال إلى مصر التى كانت قد تخلصت من تبعيتها للسلطان العثمانى وثارت ضد الاحتلال البريطانى وصارت دولة وطنية تتمتع بنظام دستورى وتسعى لاستكمال نهضتها واستقلالها وبناء مؤسساتها واللحاق بالعالم المتقدم تقودها طبقة مثقفة أنضجتها التجارب وخرجت منتصرة من ثورة 1919 المجيدة لتشكل الأحزاب وتضع الدستور وتعلى مبدأ المواطنة على أى فصل أو تمييز.. فالدين للَّه والوطن للجميع.. وتبنى ثقافة وطنية عقلانية يتحاور فيها الماضى والحاضر والتراث الوطنى والتراث العالمى.. وتؤمن بالديمقراطية وحقوق الانسان. ومن الطبيعى فى هذا المناخ أن تصطدم الحركة الوطنية بورثة الطغيان العثمانى الملك وحاشيته والذين التفوا حوله من رجال الأزهر ومنهم الشيخ الخضر حسين. ومن الطبيعى أن يبحث هؤلاء عن شعار وجدوه حين ألغيت الخلافة فى تركيا فدعوا لإحيائها فى مصر وتنصيب الملك فؤاد أميرا للمؤمنين. لكن ثورة 1919 وقفت فى وجه هؤلاء ومنعت الخلط بين السياسة والدين.. تماما كما فعلت ثورة الثلاثين من يونيو التى أسقطت حكم المرشد.. وهذا ما لا يريد الشيخ الخضر حسين.. أن يسلم به! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي