لا أدرى كيف قرأتم رسالة الشيخ على عبدالرازق لصديقه الدكتور طه حسين، المنشورة لأول مرة يوم الثلاثاء الماضى. كيف كان انطباعكم إزاء ما جاء فيها عن الجد واللهو، وعن الحياة فى أوروبا والحياة فى مصر، وعن شيوخ الأزهر، وما لقيه كاتب الرسالة، والمكتوبة له على أيديهم، وهل ظهرت لكم تلك العلاقة التى ربطت بين من ذكرت أسماؤهم فيها؟ وهل كشفت لغة الرسالة عن روح صاحبها، وما تميزت به من صراحة واعتداد، ومن ظرف ومرح ونبل وتواضع وترفع وسخرية، واتصال حميم بالماضى، وانفتاح صادق على الحاضر والمستقبل. أيا كانت قراءتكم للرسالة، فسوف أقدم لكم قراءة لها ربما كانت مفيدة. فعلاقتى بما جاء فى الرسالة من موضوعات وأسماء وأماكن تسمح لى ببعض التوضيحات. المنزل الذى كان يسكنه الشيخ على عبدالرازق فى باريس، وعنوانه مثبت فى أعلى الرسالة (5 شارع فرانكيل بالحى السادس عشر)، يدلنا على نوع الحياة التى عاشها كاتب الرسالة فى مدينة النور. فالحى السادس عشر، يعتبر من أرقى أحياء باريس، ويقع فى غرب المدينة قريبا من قوس النصر، ومن نهر السين. ولهذا اختارته معظم الدول الأجنبية مقرا لسفاراتها ومنها السفارة المصرية. أما عن المدن المذكورة فى الرسالة ، فمرسيليا هى الميناء الشهير الواقع على البحر المتوسط، الذى يذكر زواره المصريين بالإسكندرية. وكانت مرسيليا هى أولى المدن الفرنسية، التى يراها المصريون الوافدون إلى فرنسا، حين كانوا يركبون البحر إليها، قبل أن تحل الطائرات محل السفن، وليون هى المدينة الصناعية الواقعة فى شرق فرنسا إلى الجنوب. وأخيرا إكس لى بان، وهى مدينة فى شرق فرنسا أيضا، يقصدها الراغبون فى الاستشفاء والانتفاع بمياهها المعدنية. ثم ننتقل إلى التاريخ (9 أغسطس 1926)، فنتذكر على الفور كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى»، وكتاب على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم»، اللذين صدرا فى تلك الفترة، فأثارا عاصفة ظلت هائجة مؤثرة فى الحياة الفكرية، والحياة السياسية سنوات متصلة. وكان على عبدالرازق قد أصدر كتابه فى عام 1925، يقطع فيه الطريق على القوى الرجعية، وعلى رأسها شيوخ الأزهر الذين انحازوا فى ذلك الوقت للملك فؤاد، فى صراعه الخفى والمعلن مع القوى الشعبية والديمقراطية، وفى مقدمتها سعد زغلول وحزب الوفد، فأعلنوا مع الجهات والشخصيات التى ساندتهم عن مؤتمر للخلافة، كونوا له لجانا فى أنحاء مصر، وأصدروا باسمه مجلة تدعو للخلافة وتمهد لتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين، بعد أن نجح الأتراك الكماليون فى إلغاء الخلافة العثمانية، وإعلان الجمهورية، وفصل الدين عن الدولة. وفى مواجهة هذا النشاط الرجعى، الذى كان فى حقيقته، محاولة للانقلاب على الحياة الدستورية، وعلى النظام الديمقراطى الذى حققته ثورة 1919 ، ألف على عبدالرازق كتابه الذى ناقش فيه نظم الحكم التى قامت باسم الإسلام، وأثبت أنها نظم دنيوية تخضع للشروط القائمة فى كل مجتمع، وأن الإسلام لم يفرض على المسلمين نظاما سياسيا معينا، بل جعل لهم الحق فى اختيار حكومتهم، وهذا هو معنى حديث الرسول «أنتم أعلم بشئون دنياكم». ومن الطبيعى فى هذا المناخ الملتهب، ألا يقرأ الكتاب بوصفه مجرد بحث فى علاقة الإسلام بالسياسة والحكم، وإنما قرئ بوصفه موقفا معاديا للأزهر وللقصر، ولغيرهما من القوى التى تتآمر على النظام الديمقراطى الوليد. ومن هنا قرر الأزهر إخراج الشيخ على عبدالرازق من زمرة علمائه، وطرده من وظيفته التى كان يتولاها، وكان قاضيا شرعيا فى محكمة المنصورة، وقطع مرتباته، ومنعه من القيام بأى وظيفة دينية أو غير دينية. ورفض وزير الحقانية - وزير العدل - عبدالعزيز فهمى باشا، تنفيذ هذا الحكم فأقاله الملك، ثم ظلت ردود الأفعال تتداعى حتى انتهت بسقوط المشروع الرجعى لإحياء الخلافة، فى الوقت الذى صدر فيه كتاب آخر حمل الراية ذاتها، فتحمس له من تحمسوا للكتاب الأول، وقاومه الذين قاوموه، وهو كتاب طه حسين، «فى الشعر الجاهلى» ،الذى صدر بعد شهور من صدور كتاب على عبدالرازق، إذ بدأ طه حسين العمل فيه فى يناير 1926، وأنهاه فى مارس من العام ذاته، ونشره ليثير ما أثاره الكتاب من ردود عنيفة، بعضها معه وأكثرها ضده، لأنه لم يكن يتصدى لقوة يناصبها الناس العداء كقوة الملك، وإنما كان يتصدى لمنهج فى التفكير، تعتبره القوى الرجعية، وفى مقدمتها شيوخ الأزهر، ركنا من أركان العقيدة، فكما ينبغى على المسلم فى رأى هذه القوى، أن يسلم بما سلم به الأوائل فى الدين ،عليه أن يسلم أيضا بما سلموا به فى اللغة والأدب والنقد، إذا كانوا يقولون مثلا إن العرب عاربة ومستعربة، وإن المستعربة أخذوا لغتهم عن العاربة بواسطة أبيهم إسماعيل ،بعد أن حمله أبوه إبراهيم إلى الحجاز، فعلينا نحن أن نسلم بهذا الذى يقال عن نشأة اللغة العربية، وإذا كان القدماء يتحدثون عن شعراء جاهليين، يروون قصص حياتهم وينسبون لهم قصائد يتوارثون حفظها وروايتها، فليس لنا أن نشك فى نسبة هذا الشعر للجاهليين. لكن طه حسين أعلن فى كتابه أن هذا الشعر الذى ينسب للجاهليين لا يمثل لغتهم، ولا يمثل حياتهم، وإذن فهو مزيف منحول. وما يقال عنه وعن نشأة اللغة العربية لا يقنعنا ولا يلزمنا بشىء، حتى لو استشهد القدماء بما جاء فى التوراة والقرآن عن إسماعيل وإبراهيم، لأن الكتب الدينية لا تتحدث عن التاريخ، كما يتحدث عنه المؤرخون، الذين يسجلون الحوادث ويحققون الروايات، وإنما يذكر فيها التاريخ لضرب المثل واستخراج العبرة، فالإيمان هو ما تقصد إليه الكتب الدينية، وليس العلم الذى يجب أن نلتمسه فى مصادره، فإن ظهر لنا فى روايات القدماء ما يريب أو يتعارض مع المنطق، أو مع الحقائق الثابتة، فمن حقنا أن نشك فيه، وأن نفهم ما جاء عنه فى الكتب الدينية ،الفهم الذى يتفق مع طبيعة الدين وغاياته. هذا هو المنهج الذى أخذه عن ديكارت، وتبناه فى دراسة الشعر الجاهلى، ولم يجعله مجرد وسيلة للتحقق من نسبة هذا الشعر للجاهلية، وإنما بشر به كهدف فى ذاته أو أساس جديد للثقافة العربية، التى يجب أن تتحرر من سلطة النقل المطلقة، وتخضع كل شىء لسلطة العقل، وتراجع تراثها على هذا الأساس الجديد. ومن الطبيعى أن يكون أول المعارضين لهذا المنهج، هم شيوخ الأزهر وطلابهم الذين ألفوا كتبا فى الرد على طه حسين، كما فعل الخضر حسين شيخ الأزهر فى كتابه «نقد كتاب فى الشعر الجاهلى»، وكان هذا الشيخ قد ألف كتابا آخر فى الرد على على عبدالرازق، سماه «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»، ثم لم يكتف شيوخ الأزهر بالرد والنقض، وإنما تقدموا للنائب العام ببلاغات، يتهمون فيها طه حسين بالطعن فى الإسلام، وتبعهم أحد أعضاء مجلس النواب، فتقدم ببلاغ آخر يتهم فيه طه حسين بالتعدى على دين الدولة، ومن مجلس النواب إلى الحكومة، والأحزاب السياسية، وإلى المثقفين الذين انقسموا فريقين: فريق مع طه حسين فيه أحمد لطفى السيد، والدكتور هيكل، والعقاد، ومنصور فهمى. وفريق ضده، فيه مصطفى صادق الرافعى، ولطفى جمعة، ومحمد فريد وجدى. لكن رئيس النيابة، الذى تولى التحقيق مع طه حسين، وقف إلى جانب حرية التفكير والتعبير فى وجه فقهاء الظلام وسدنة الخرافة، وأصدر فى ذلك قرارا يستحق أن نعود إليه فى هذه الأيام، التى انقلب فيها الحال، فأصبحت مصادرة الكتب وملاحقة المثقفين وتخويفهم، سياسة تجد لها أنصارا حتى بين الذين تفرض عليهم وظيفتهم، أن يدافعوا عن الحريات ويحرسوا حقوق الإنسان. هكذا نقرأ رسالة على عبدالرازق لطه حسين، فلا نرى الماضى وحده، وإنما نرى الحاضر أيضا. وسوف نواصل القراءة فى الأسبوع القادم.