أظن أن هذه هي المرة الأولي التي يدعو فيها فضيلة شيخ الجامع الأزهر مجموعة من مثقفي المجتمع المدني, تمثل كل تياراته الفكرية, وتضم ممثلين من مثقفي الأقباط, ليس بوصفهم أقباطا, فنحن جميعا لم نستجب إلي دعوة شيخ الأزهر ولا هو دعانا, بوصفنا أقباطا ومسلمين بل بوصفنا مصريين, تؤرقنا التحديات الصعبة التي تواجهها مصرنا الحبيبة. وكان لابد أن نستجيب جميعا لدعوة فضيلة شيخ الأزهر بحماسة ملحوظة, فكلنا مؤرقون بالقضايا التي تؤرقه, وكلنا يعلم حرصه علي عقد حوار وطني بين التيارات المختلفة, سواء التي تنتسب إلي الإسلام في دعوتها الدينية, أو التي تنتسب إلي الدين في دعوتها المدنية والحق أنني شعرت, وأنا أدخل إلي مشيخة الأزهر, أنني أعود إلي النبع الذي انبثقت منه الاستنارة المصرية التي ظلت تشع علي ما حولها في تاريخنا الحديث, واسترجعت التيار العقلاني السمح الذي انتسب إليه الشيخ حسن العطار(1766 1834) وتلميذه رفاعة رافع الطهطاوي(1801-1873) أول من ترجم للمصريين دستور الثورة الفرنسية التي رأي آثارها في باريس, وعلم المصريين أن العدل أساس العمران, وأن الحاكم له ما لشعبه من الحقوق وعليه ما عليه من الواجبات نفسها بلا تمييز, ونقل رفاعة للمصريين أهم رسالة من رسائل النهضة الحديثة, وهي ضرورة إعمال العقل الذي لا ينفصل عن طلب العدل في أمور الدنيا والدين, وأن المرأة مساوية للرجل في الحقوق والواجبات, وأن تهذيبها بالتربية السليمة والتعليم أهم من اختزالها في معني العورة التي لابد من سترها ومضت مدرسة رفاعة, وأنجبت أكبر عقلانيي الأزهر, وهو الشيخ محمد عبده(1849 1905) الذي أكد أن الإسلام هدم بناء السلطة الدينية, ومحا أثرها حتي لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم, فالإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا علي عقيدة أحد ولا سيطرة علي إيمانه, وإن الرسول كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا, ولم يجعل لأحد من أهله سلطة أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء وأكد الإمام العظيم أنه لا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس علي عقيدة أحد, ولكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله, وعن رسوله من كلام رسوله, دون توسيط أحد من سلف أو خلف, فليس في الإسلام ما يسمي عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. وقد قادتني تداعيات ما قرأت وتعلمت من كتابات الإمام محمد عبده إلي تلميذه الشيخ علي عبد الرازق الذي نسف السلطة الدينية نسفا حتي لم يبق لها من أثر إلا سلطة الدعوة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن, فهو الذي واجه الخلط بين الدين والسياسة, واستغلال الدين في ترسيخ طبائع الاستبداد, ففجر دعوة الخلافة التي أرادت أن تستبقيها بعض صنائع الملك فؤاد لتخلعها عليه, بعد إسقاط الخلافة العثمانية, فواصل علي عبد الرازق طريق أستاذه الإمام متحديا استبداد الملك فؤاد, معلنا أن الخلافة ليست ركنا من أركان الإسلام, مؤكدا أن نظام الحكم هو غرض من الأغراض الدنيوية التي خلي الله سبحانه وتعالي بينها وبين عقولنا, وترك الناس أحرارا في تدبيرها علي ما تهديهم إليه عقولهم, وعلومهم, ومصالحهم, وأهواؤهم ونزعاتهم وحكمة الله في ذلك بالغة ليبقي الناس مختلفين اولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين, إلا من رحم ربك ولذلك خلقهمب إن الدين الإسلاميفيما أذكر من كلمات علي عبد الرازقبرئ من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون, وبرئ من كل ما حولها من رغبة ورهبة, فهي ليست من الخطط الدينية, كلا, ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة, لا شأن للدين بها, فهو لم يعرفها, ولم ينكرها, ولا أمر بها ولا نهي عنها, وإنما تركها لنا, لنرجع فيها إلي أحكام العقل, وتجارب الأمم وقواعد السياسة. ورغم المحنة التي مر بها الشيخ علي عبد الرازق من رجال الملك فؤاد ومشايخه, لكن دعوته إلي أن نظام الحكم أمر متروك لأبناء الأمة دون تمييز من أي نوع, كي تحدده بما يحقق مصالحها وتقدمها, ظلت باقية من خلال أفكار الاستنارة الدينية التي ظلت متواصلة في تيار لم ينقطع عبر تاريخ الأزهر المجيد, فوصل بين دعوة الإمام محمد عبده إلي إباحة الفنون الجميلة ومنها التماثيل وشيخ الأزهر الحالي الذي نشأ في بيت علم ديني, وشاهد جده الذي كان يصنع التماثيل ولا يجد فيها حرجا, فتعلم منه, ومن جده الفكري الإمام محمد عبده, القيمة الروحية للفنون, تماما كما تعلم عبد المعطي بيومي أن الدولة في الإسلام هي دولة مدنية بكل الوجوه ولذلك أصدر كتابه عن الإسلام والدولة المدنية وهو الموقف نفسه الذي وقفه فضيلة شيخ الأزهر ومعه الدكتور محمود زقزوق الذي يدير جلسات حوار بيت العائلة. كان ذلك كله يتداعي علي ذهني وأنا أتوقف أمام مشيخة الأزهر, وأشق طريقي إلي قاعة اجتماعات المشيخة, شاعرا أني لست غريبا في المكان, بل أنتسب إليه بروابط وثيقة, صحيح أنني ابن جامعة القاهرة, ولكن دراستي فيها علمتني أن رواد الاستنارة كانوا من الأزهر, وأن مشايخ الاستنارة الأول هم الذين فتحوا الطريق لأفندية الاستنارة, فمحمد عبده كان أستاذا لطه حسين كما كان أستاذا لعلي ومصطفي عبدالرازق وقد عرفناونحن طلاب في جامعة القاهرة مذاهب التفسير القرآني من جولد تسيهر والشيخ الذهبي الذي اغتالته جماعات التكفير. وما إن وصلت إلي مكتب فضيلة شيخ الجامع الأزهر, ووجدت إلي جانبه الدكتور محمود زقزوق, حتي انشرح قلبي, وجلست معهما, وكنا نقوم للسلام والتحية إلي أن اكتمل عدد المدعوين من كل تيارات المجتمع المدني في مصر, وجاء حديث شيخ الأزهر واعدا, فالرجل يعاني مما نعاني منه, ويعرف وأقرانه أن الوطن يمر بمحنة خطيرة, لعله لم يمر بمثلها من قبل وكان واضحا في كلامه, وفي استجاباتنا إليه, أن علة الكارثة الفكرية هي ثقافة التخلف التي أشاعتها عوامل كثيرة وكان واضحا لدينا جميعا أن المحنة ستظل باقية, فكريا علي الأقل, ما ظلت عقول الناس كما هي, وما ظلت الثقافة السائدة هي ثقافة التخلف, وكان شيخ الأزهر يدرك مثلنا أن القضاء علي هذه المحنة الثقافية مهمة صعبة معقدة, لن ينهض بها الأزهر وحده, ولا وزارة للثقافة, هي أضعف من أن تفعل شيئا وحدها, فقد كان هناك إدراك عام أنه لابد من تكاتف وزارات التعليم والإعلام والثقافة والأوقاف وغيرها من الوزارات المعنية بتغذية عقول المواطنين بثقافة التقدم, في مواجهة ثقافة التخلف, وهي مهمة صعبة وشاقة لن تكتمل إلا بدور المجتمع المدني بكل مؤسساته الاجتماعية والثقافية وكان واضحا- خلال اللقاء- أن الحوار الحر وإعمال العقول سوف يقودنا إلي تبين الطريق للخروج من المحنة التي هي كارثة في حقيقة الأمر وكنا ندرك جميعا أن الحوار لا يعني الاتفاق علي كل شيء وأنه يثري بالاختلاف ما ظل حوارا بين أكفاء وبالقدر نفسه كانت الأغلبية من الحاضرين مؤمنة أن نقطة الابتداء هي الاتفاق علي الدولة المدنية بوصفها منطلقا للحركة, وفصل الدين عن السياسة, وأننا لابد أن نفكر في وسائل إشاعة ثقافة الدولة المدنية التي تقوم علي احترام كل الأديان, ومعه التسامح, الحوار, حقوق الإنسان, احترام العقل والاجتهاد, فتح الأفق حرا لكل الاتجاهات, الدور الذي تؤديه الفنون والآداب في الارتقاء بإنسانية الإنسان, التعليم العصري الحديث سواء في قسميه المدني والديني, التطلع إلي إعلام يؤدي دوراأكثر جذرية بما يتكامل مع دور وزارة الثقافة ويدعمها, وقبل ذلك كله وبعده التسليم بالأهمية الحتمية للدين, واستعادة القيم الملازمة لشعار ثورة1919 الدين لله والوطن للجميع وبقدر ما أكدنا قيم التسامح أوضحنا أن هناك متعصبين ومتطرفين من المسيحيين والمسلمين, وأن الحوار بين عقلاء الأقباط والمسلمين لابد أن يستمر, ويقوي, كي نواجه جميعا الكارثة. صحيح أنه كان في الاجتماع من تحفظ علي مصطلح الدولة المدنية ردا علي اقتراحي أن يكون الإطار المرجعي في حوارنا هو تأكيد وجود الدولة المدنية الحديثة التي تحترم كل الأديان ولا تقلل من أهميتها الحيوية في وجود الإنسان, إلي جانب اتصاف هذه الدولة بالديموقراطية الحديثة والانتخابات الحرة وتداول السلطة, فكلها صفات للدولة المدنية التي لابد من النص عليها في الدستور وإلا ما كان لثورة الخامس والعشرين من يناير نتيجة, ولضاعت هدرا دماء شهداء الثورة الذين ظلوا يهتفون مدنية, مدنية وكان صاحب هذا الاعتراض يفضل استخدام الدولة الديموقراطية الحديثة ويتحفظ علي استخدام الدولة المدنية وهو تحفظ لا معني له مع التمسك بمعاني الديموقراطية الحديثة ولذلك لم يثر الاعتراض جدلا طويلا, فالأكثرية كانت تؤمن بضرورة استخدام الدولة المدنية علي الأقل بوصفها نقيضا للدولة الدينية التي تقوم علي أحادية المذهب وأحادية التأويل الديني وقد أدرك علي عبد الرازق ذلك فرفض العودة إلي الخلافة وسبقنا, إلي استخدام مصطلح الحكومة المدنية ولا تثريب علينا إذا استخدمنا مصطلح الدولة المدنية حتي علي سبيل ترجمة الاصطلاح الأجنبيSecularstate التي سبقنا الأتراك إلي ترجمته الدولة العلمانية أي الدولة الدنيوية من العلم أي الدنيا ولكن بما أن كلمة العلمانية أصبحت سيئة السمعةبغض النظر عن المسئولفمن الأفضل استخدام الدولة المدنية بوصفها نقيضا وحاميا من الدولة الدينية التي تهددنا مخاطرها علي ألسنة دعاتها من الذين يتحدثون عن تطبيق الحدود بعد التمكين, وعن أنه لابد من وصل الدين بالسياسة, وعدم الفصل بينهما, فالدولة التي يدعون إليها دينية حتما وإزاء هذه المخاطر لابد أن يأتلف المستنيرون من شيوخ الأزهر والعقلاء من مثقفي المجتمع المدني بكل تياراته, وذلك لحماية حلم الدولة المدنية الحديثة الذي مات دونه شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير, وتركوا في رقابنا تحقيق هذا الحلم ولحسن الحظ, كان الوعي بذلك يصنع أرضية ممهدة للحوار الذي طال لساعات, فغطي كل شيء علي نحو أولي, وقادنا إلي الاتفاق علي حوارات أخري في كل موضوع حيوي علي حدة لكن يبقي تأكيد مناخ التسامح وحسن الظن الذي كان يسود الحوار, ويشجع علي دفعه إلي الإمام, وذلك في نوع من التسليم المضمر بأنه ما من أحد يمتلك الحقيقة المطلقة, أو يحتكر الحديث باسم الدين, فقد مضي عهد ذلك كله, واجتماعنا في مشيخة الأزهر, رغم اختلاف مرجعياتنا الفكرية, يؤكد إمكانية اتساع مبدأ الحوار ليشمل الوطن كله, بحثا عن خلاص مما نحن فيه, ولذلك خرجت من مشيخة الأزهر يغمرني شعور بالاطمئنان والأمل والعرفان, ولا أظن أنني كنت وحدي في ذلك. المزيد من مقالات جابر عصفور