محافظ البنك المركزى يعلن أنه ماض فى حربه على السوق السوداء، ويتحدث عن أهمية وجود سعر واحد وسوق واحدة للنقد الأجنبى فى مصر حتى يطمئن المستثمر الأجنبى ويأتى إلينا. على مدى الأسبوعين الماضيين استمر البنك المركزى فى ضخ العملات الأجنبية للجهاز المصرفى من خلال مزادات يومية كى تقوم بتغطية احتياجات المستوردين. النتيجة تخفيض يومى لقيمة الجنيه المصري. بنهاية يوم عمل الخميس 29 يناير كان سعر الدولار بالبنوك قد ارتفع من 7.18 جنيه إلى 7.6 جنيه، فى سعى حثيث للاقتراب من سعر السوق السوداء. تصريحات محافظ البنك المركزى المصرى تؤكد أن «المفترض» ألا يؤدى تخفيض قيمة الجنيه المصرى إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار. فعلى الرغم أن مصر مستورد صاف للسلع الغذائية والمنتجات البترولية والسلع المصنوعة وقطع الغيار والآلات والمعدات، إلا أن الانخفاض الهائل فى الأسعار العالمية للبترول يعنى انخفاض تكلفة الإنتاج وتكلفة النقل على الصعيد العالمي. وبالتالى فإنه من المنتظر انخفاض أسعار الواردات، خاصة مع استمرار اتجاه الأسعار العالمية لكل من البترول والمواد الغذائية إلى الانخفاض خلال الفترة القادمة. والواقع أن تصريحات محافظ البنك المركزى بِشأن كل من سبب تخفيض قيمة الجنيه و توقيت ذلك التخفيض، لا تشكل أية مفاجأة.. المفاجأة الحقيقية تتمثل فيما ذكره من أن هناك ست شركات كبيرة، يعرفها بالاسم، هى التى تقود المضاربة على الجنيه المصري، وأن تلك الشركات تقوم بالحصول على القروض من الجهاز المصرفى وتستخدمها فى شراء العملات الأجنبية من السوق السوداء، وبالتالى تشعل الأسعار فى تلك السوق، وأن هذا كله يحدث رغم أن تلك الشركات لها موارد بالنقد الأجنبى من حصيلة صادراتها فى الخارج... ياقوة الله! وماذا يفعل البنك المركزى إذن؟ أليس هو الجهة الرقابية على أداء الجهاز المصرفي؟ المفروض أن البنوك تقوم بمنح القروض لتلك الشركات لاستخدامها فى تمويل نشاطها الإنتاجي. والمفروض أن البنوك تقوم بمتابعة القروض والتأكد من أنها تستخدم فى الغرض الذى منحت من أجله. و المفروض أيضا أن هناك منذ سنوات عديدة تعليمات رقابية من البنك المركزى تحظر منح قروض بالجنيه المصرى لتمويل شراء نقد أجنبي. فكيف تم تجاوز القواعد السليمة لمنح القروض والتعليمات الرقابية للبنك المركزى فى آن واحد؟ هل هو قصور فى المتابعة، أم تواطؤ فى المنح؟ ثم أين وحدة مكافحة غسل الأموال فى البنك المركزى من كل ذلك؟ أليست مهمتها هى تلقى الإخطارات عن العمليات المالية المشبوهة، وإجراء التحريات المالية اللازمة بما يمكن من ملاحقة الأموال المتحصلة من الفساد واتخاذ الإجراءات القانونية التى تكفل مصادرتها؟ هل سيتم اتخاذ تلك الإجراءات، أم أن كبار رجال الأعمال هم دوما فوق القانون وفوق المساءلة؟ فى عام 2006، أصدر البنك الدولي، حامى حمى نظام السوق، تقريرا عن مصر ذكر فيه أن الاحتكارات المتحالفة مع السلطة تستأثر بالمزايا وتحول دون دخول مشروعات جديدة فى مجالات النشاط التى تحتكرها، وأنها تمثل عائقا أمام نمو القطاع الخاص فى مصر. ومنذ بضعة شهور قام البنك الدولى بإصدار تقرير عن سوق العمل فى مصر أكد فيه من جديد أن الشركات الكبيرة القريبة من السلطة قد استأثرت بتراخيص حكومية تكفل لها مركزا احتكاريا فى صناعات الأسمنت والحديد والصلب، يحول دون دخول ونمو شركات منافسة، ويحول بالتالى دون خلق وظائف جديدة، و أن 80% من شركات رجال الأعمال ذوى العلاقات السياسية القوية يعملون فى ظل أساليب حمائية تضمن لهم الانفراد بالسوق المحلية، وتحقيق الأرباح الضخمة . والواقع أننا لا بد وأن نتوقف أمام ظاهرة اتجاه رجال الأعمال إلى الاتجار فى العملات الأجنبية، وما يتردد من أن حجم عملياتهم فى ذلك المجال خلال الأشهر الثلاثة الماضية قد بلغ 1.6 مليار دولار، أى ما يقرب من 12 مليار جنيه. هذه المليارات التى كان يفترض أن يستخدموها فى الاستثمار وتوسيع النشاط وزيادة الإنتاج وتوفير فرص العمل، اختاروا على العكس توجيهها لتجارة العملة لتركيم الأرباح من إشعال أسعار العملات الأجنبية، وتخفيض قيمة الجنيه المصري. من يحاسب تلك الشركات على إضرارها بالاقتصاد القومي؟ كبار رجال الأعمال فى مصر يؤكدون من جديد أنهم لا يشغلهم لا الاستثمار ولا البناء ولا التنمية. المهم تحقيق الربح، ومن أى طريق، سواء تم ذلك من خلال « تسقيع الأراضي» أو تجارة العملة، أو حتى من بيع مشروعاتهم للأجانب. القطاع الخاص باع للأجانب شركة بسكو مصر ومستشفى كيلوباترا ومستشفى القاهرة التخصصى ومعامل البرج ومعامل المختبر. كيف يمكن المقارنة بين هذا الصنف من رجال الأعمال وبين رواد الصناعة المصرية أمثال طلعت حرب وعبود باشا وأقرانهم الذين نحتوا الصخر خلال النصف الأول من القرن العشرين لتحقيق حلم الصناعة الوطنية والاستقلال الاقتصادي؟ يتعجب محافظ البنك المركزى من مسارعة الاحتكارات المهيمنة على السوق المصرية إلى الإعلان بأن أسعار مواد البناء سترتفع بنسبة 70% نتيجة ارتفاع سعر الدولار. يقول إن الانخفاض فى قيمة الجنيه لا يتجاوز 5% فكيف يؤدى لارتفاع الأسعار بنسبة 70%؟ الإجابة أن هذا هو ما تريده الاحتكارات، وهى التى تهيمن على السوق وتستصدر القرارات التى تكفل لها فرض ما تريده من أسعار. فعلت هذا مرة تلو الأخري، فما الذى يمنعها من تكراره؟ لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى