فى العام 1942, ذهب الأستاذ حسن أفندى محمد جوهر الى مملكة الدانمارك فوجد نفسه محاطا بطائفة من الدانمركيين المتعطشين الى معرفة كل ما يمكن معرفته عن مصر وفراعينها وآثارها – كما يقول – وقد اكتشف من خلال ذلك «حقيقة مرة», مثلما يرى , وهى مدى ضآلة علمه بتاريخ أمجد عصر من عصور مصر الخالدة وهو العصر الفرعوني. ويذهب الأستاذ حسن مرة أخرى الى أوروبا, وتحديدا فى سنة 1927, فيستمع الى محاضرة عن مصر, فحواها أن مصر هي البلد الذي قام أهله بأكبر قسط من الاختراعات فى تاريخ العالم, وليست انجلترا أو فرنسا أو أمريكا مثلما يقول ذلك المحاضر الذي ألقى المحاضرة, لذلك قرر الأستاذ حسن دراسة تاريخ مصر الفرعونية دراسة جادة, رغم أنه مدرس لمادة الجغرافيا فقط.وعندما أصبح ناظرا لمدرسة الزقازيق الثانوية فى العام 1940, طلب منه طلابه إصدار مجلة «على النمط المعهود فى المدارس»، وقد لاحظ الأستاذ حسن جوهر أن موضوعاتها سوف تكون عادية, لاترتفع عن آفاق العامة ولا تمد القارئ بجديد وكما يقول فى مقدمة كتابه ويحكى فيها عن أسبابه لتأليف الكتاب, لذلك فقد حدث طلابه طويلا, بما أقنعهم من خلاله بأن يستبدلوا المجلة بكتاب عن الحضارة الفرعونية, ليذكرهم بمجد أجدادهم الخالد, ويقفهم على آثارهم المجيدة.وقد اكتشف هذا المدرس النابه, أن زملاءه الأساتذة وكذا تلاميذه بالمدرسة, لا يستطيعون الكتابة عن الحضارة الفرعونية بسبب قصورهم المعرفي الشديد فى هذا الجانب, وبسبب برامج التعليم التي لا تقدم مادة وافية عن الحضارة المصرية القديمة وهو يرى متأسفا وكما يقول «إن مناهج التعليم فى مصر لا تمد الطالب فى التاريخ المصري إلا بقشور». وكنتيجة لهذا الوضع التعليمي البائس, قرر الأستاذ حسن محمد جوهر الكتابة فى التاريخ الفرعوني, معتمدا على جملة من المراجع العربية والأجنبية, بدءا من الكتب السماوية المقدسة كالقرآن والإنجيل, ومرورا بكتابات مؤرخي العصر الوسيط, كعبد اللطيف البغدادي, وابن إياس وغيرهما من المؤرخين, وانتهاء بمؤرخين ينتمون للعصر الحديث, بعضهم معروف وبعضهم غير معروف مثل إبراهيم زرقانة وميخائيل بك شار وبيم, ومحمود درويش, وهؤلاء ربما كانت أسماؤهم غير معروفة, أما الأسماء المعروفة فكانت لأساطين فى الحضارة المصرية القديمة, كأحمد كمال باشا, وسليم حسن بك, ومحرم بك كمال, والدكتور أحمد بدوى. وإضافة الى هؤلاء, بحث حسن افندى جوهر فى عشرات الكتب الأجنبية فى علم المصريات, فرجع الى كتابات استينددروف, وفندرز بترى, وبريستيد وقد بلغت مراجعة الأجنبية لوضع كتابه المعنون «مصر الخالدة» ما يزيد على الثلاثين مرجعا بالانجليزية والفرنسية, وبلغ عدد صفحات الكتاب مائة واثنتين وخمسين صفحة, وعلى ما يبدو فانه نشر خلال أربعينات القرن الماضي, حيث لا يحمل هذا العمل تاريخا محددا لإصداره.
الحضارة من كل جوانبها
تناول كتاب حسن جوهر الحضارة الفرعونية منذ نشأتها الأولى من حيث التسلسل التاريخي لنشأة الحياة فى أرض مصر السوداء والتي هي ( با – تا – ن – كمى ) واستعرض كيف تطورت هذه الحياة من مرحلة الصيد البدائي, حيث كانت الأرض السوداء المصرية تتغطى بأجسام كثيفة من الشجر المتداخل, وتسبح فى نهرها التماسيح وأفراس النهر, وتنتشر فى جنباتها الغزلان والظباء والأيائل والمها والوعول والأغنام الوحشية والأبقار الوحشية, وقد كان التطور من المرحلة البدائية هذه يشهد نقلات كيفية هامة بين الحين والحين حيث كانت الزراعة التي تم اكتشافها بداية لمرحلة انطلاقة حضارية كبرى, وذلك بعد أن تحول الجفاف الملتهم للبيئة الطبيعية ظاهرة, لم يعد الصيد معه ملائما لاستمرار الحياة فى ( با – تا – ن كمى ) . والكتاب إذ يستعرض الحياة المصرية منذ العصور السحيقة للتاريخ, وحتى أوج نضجها فى الدولة القديمة, والدول التي تلتها, إنما هو يقدم بحثا انثروبولوجيا شائقا لغير المتخصصين, متتبعا كيفية تجسيد هذه الحياة فى مخيلة القارئ على نحو بالغ الإثارة, وعلى امتداد صفحات الكتاب كله, فاستعراض الحضارة من كل جوانبها, يتجلى من خلال طرح أفكار الجدود القدماء المتعلقة بالدين والفلك والطب والصيدلة والفلسفة, وكافة العلوم والفنون, كما انه يتعرض لطبيعة الحياة اليومية والعادات والتقاليد, والملبس والمأكل, إضافة الى طقوس الحزن والفرح, والأعياد, ويضم الكتاب صفحات من الأساطير والحكايات الشعبية, وحتى الاغانى الشائعة فى مناسبات اللهو والمرح, إضافة الى كم من الأمثال والحكم والنصائح, كتلك النصائح التي نصح بها الوزير الحكيم فتاح حتب ابنه فى زمن الملك أسيس, بقوله: لا ينبغي أن تتغنى بثروتك التي رزقك الإله. لا تنس أصدقاءك وقت سرائك. اجعل قلب زوجتك فرحا ما دمت حيا. لا تطمعن فى مال أقاربك . إياك والشراهة فإنها داء عضال . وغيرها من النصائح الكثيرة التي لا يتسع المجال لذكرها, والتي تعبر عن جملة من الرؤى القيمة السائدة آنذاك , ومفهوم الأخلاق ودلالته فى ذلك الزمن السحيق من التاريخ الانسانى.
كتاب لقارئ واسع
لقد صدرت عشرات الكتب والمطبوعات , بعد صدور كتاب حسن جوهر «مصر الخالدة» وهى كتب تتناول الحضارة المصرية القديمة من أكثر من جانب وقد ترجم كثير من الكتب المتعلقة بذلك من اللغات الأجنبية المختلفة الى اللغة العربية, لكن كتاب حسن جوهر يظل كتابا مميزا بين هذه الكتب, إذ انه يستند الى مخاطبة قارئ عادى متباين من حيث المستوى الثقافي والتعليمي, فالكتاب يبتعد عن الأكاديمية الجافة فى كتابات الباحثين والمتخصصين, كذلك يبتعد عن اللاواقعية والخيال المهووس بالمصريات والسائد فى الكتب الأجنبية المحتوية على كثير من المبالغات والتي تحول الحضارة المصرية الى موضوع أثارى يلبى شغف القارئ الأجنبى بالمصريات وعوالمها التي تبدو غرائبية بالنسبة له, فالكتاب يستند الى كم هائل من المادة العلمية فى مجالات متباينة, لكنها مصوغة على نحو سلس, وفى تسلسل منطقي يلتزم بما هو كرونولوجى, يضاف الى ذلك كم من الرسوم التوضيحية والصور الفوتوغرافية, والخرائط القديمة المبينة للمواقع والمدن الأثرية المشار اليها بالكتاب, والذي على أغلب الظن, إنما وضع مستهدفا طلاب المدارس فى المقام الأول, وكذا الجمهور الواسع محدود التعليم والثقافة, ولكن رغم ذلك المنحى التثقيفي التعليمي للكتب, فانه وضع بلغة أدبية عالية تتضمن أسلوبية رفيعة, بينما الصور المرفقة للسرد والاعمال الفنية المرسومة ذات قيمة جمالية فى العديد منها, فعلى سبيل المثال هناك لوحة تمثل السيدة العذراء والسيد المسيح عندما كانا فى مصر رسمها فرديناند كيلر سنة 1878, إضافة الى رسومات لفنانين ربما كان بعضهم مجهولا, وهناك قيمة أدبية أخرى بالكتاب, إنما كانت بسبب احتوائه على كم من المقطوعات والقصص الفرعونية الشائقة, بعضها له طابع شعبي واضح, وهى ممتعة عند قراءتها ولابد, بالنسبة لعشاق الأدب القصصي على وجه التحديد.
مطلب جوهر المشروع
إن المطلب الذي أورده مؤلف «مصر الخالدة» فى بداية كتابة مازال مطلبا وجيها وملحا حتى الآن, بل وربما الآن تحديدا بسبب الظروف والملابسات التي تسعى للعصف بملامح هويتنا القومية وما تستند إليه من خصوصية حضارية قديمة, فتعليم الحضارة الفرعونية على نحو عميق وجاد وهو ما طالب به الأستاذ حسن جوهر, هو ما يحتاجه التعليم ومدارسه ومعاهده فمصر الآن لمواجهة الفكر الديني المتخلف والمنغلق والذي يكرس من خلال برامج التعليم المدرسية. ولعل المطالبة بإعادة طبع كتاب مصر الخالدة, لهو مطلب ملح أيضا, حيث يكون هذا الكتاب الجميل متاحا لجمهور واسع عريض يحتاج الى معرفة المزيد عن حضارة مصر الخالدة. بقى التنويه بأن الاحتفاء بحسن جوهر وكتابه لهو واجب على وزارة التربية والتعليم باعتباره واحدا من رجالاتها المستنيرين, والذي نادى بتكريس معرفي لحضارة مصر من خلال التعليم منذ ما يزيد على ستين عاما, علما بأن التعريف بحسن جوهر على نحو أفضل ربما يقودنا الى كتابات أخرى ذات قيمة, ربما كان قد وضعها دون أن تكون تحت دائرة الضوء.