نتنياهو يعين دافيد زيني رئيسا للشاباك خلفا لرونين بار    حماس: الاحتلال يواصل "هندسة التجويع" في غزة    موعد مباراة الأهلي والزمالك في نهائي كأس الكؤوس الإفريقية لليد    سعر السكر اليوم الخميس 22 مايو 2025 داخل الأسواق والمحلات    سعر الأرز في السوبر ماركت اليوم الخميس    3 سيارات إطفاء تنجح في إخماد حريق شقة سكنية بالعجوزة    أحمد السقا: شقيقتي وراء كتابة المنشورات ضد زوجتي.. وسمر السقا مش أختي ولا قريبتي    الهيئة القبطية الإنجيلية تطلق مشروع «تعزيز قيم وممارسات المواطنة» بالمنيا    «المصريين»: مشروع تعديل قانون الانتخابات يراعى العدالة فى التمثيل    مكتب نتنياهو: ترامب وافق على ضرورة ضمان عدم امتلاك إيران سلاحًا نوويًا    نتنياهو: بناء أول منطقة لتوزيع المساعدات الإنسانية في غزة خلال أيام    لا سلام بدون دولة فلسطينية    تفاصيل خطة إسرائيل للسيطرة على غزة.. القاهرة الإخبارية تكشف: محو حدود القطاع    رئيس أساقفة الكنيسة الأسقفية: أي عمل روحي لا يمكن أن يدوم دون تعليم    صلاح: شعور الفوز بالدوري الإنجليزي هذا الموسم ليس له مثيل    فيفا يرفع القيد عن الزمالك بعد سداد مستحقات بوطيب وباتشيكو    منتخب مصر في المجموعة الخامسة ببطولة العالم لسيدات اليد    أول رد من الزمالك على شكوى بيراميدز في «الكاس» (تفاصيل)    تعرف على موعد قرعة كأس العرب 2025 في قطر بمشاركة منتخب مصر    م. فرج حمودة يكتب: سد عالى ثالث فى أسوان «2-2»    السجن المشدد 15 عامًا ل8 متهمين سرقوا بالإكراه في العياط    السجن المشدد 4 سنوات لصياد تعدى على ابنه جاره فى الإسكندرية    إعدام مواد غذائية منتهية الصلاحية وغلق وتشميع منشآت مخالفة بمطروح    البيئة تنظم فعاليات تشاركية بمدينة شرم الشيخ    ميرنا جميل تسحر محبيها بالأزرق في أحدث ظهور | صور    أهمية المهرجانات    هل التدخين حرام شرعًا ؟| أمين الفتوى يجيب    علي جمعة لقناة الناس: توثيق السنة النبوية بدأ في عهد النبي.. وحي محفوظ كالقرآن الكريم    "الأعلى للإعلام" يصدر توجيهات فورية خاصة بالمحتوى المتعلق بأمراض الأورام    9 عيادات طبية و3 ندوات توعوية بقافلة جامعة المنيا المتكاملة بقرية الريرمون    من ساحة العلم إلى مثواه الأخير، قصة سكرتير مدرسة بالشرقية وافته المنية أثناء العمل    "بعد أنباء انتقاله للسعودية".. باريس سان جيرمان يجدد عقد لويس كامبوس حتى 2030    المسجد الحرام.. تعرف على سر تسميته ومكانته    وزير الشباب والرياضة يشارك في مناقشة دكتوراه بجامعة المنصورة    محمد مصطفى أبو شامة: يوم أمريكى ساخن يكشف خللًا أمنيًا في قلب واشنطن    المجلس القومي للمرأة ينظم لقاء رفيع المستوى بعنوان "النساء يستطعن التغيير"    ماغي فرح تفاجئ متابعيها.. قفزة مالية ل 5 أبراج في نهاية مايو    نماذج امتحانات الثانوية العامة خلال الأعوام السابقة.. بالإجابات    بوتين: القوات المسلحة الروسية تعمل حاليًا على إنشاء منطقة عازلة مع أوكرانيا    «الأعلى للمعاهد العليا» يناقش التخصصات الأكاديمية المطلوبة    الحكومة تتجه لطرح المطارات بعد عروض غير مرضية للشركات    وزير الصحة ونظيره السوداني تبحثان في جنيف تعزيز التعاون الصحي ومكافحة الملاريا وتدريب الكوادر    تعرف على قناة عرض مسلسل «مملكة الحرير» ل كريم محمود عبدالعزيز    بروتوكول تعاون بين جامعة بنها وجهاز تنمية البحيرات والثروة السمكية (تفاصيل)    محافظ أسوان يلتقى بوفد من هيئة التأمين الصحى الشامل    أسعار الفضة اليوم الخميس 22 مايو| ارتفاع طفيف- كم يسجل عيار 900؟    «العالمية لتصنيع مهمات الحفر» تضيف تعاقدات جديدة ب215 مليون دولار خلال 2024    الأمن يضبط 8 أطنان أسمدة زراعية مجهولة المصدر في المنوفية    ورشة حكى للأطفال عن المعبود "سرابيس" بالمتحف الرومانى باستخدام Ai لأول مرة    الأزهر للفتوى يوضح أحكام المرأة في الحج    ماتت تحت الأنقاض.. مصرع طفلة في انهيار منزل بسوهاج    أمين الفتوى: هذا سبب زيادة حدوث الزلازل    وزير الداخلية الفرنسي يأمر بتعزيز المراقبة الأمنية في المواقع المرتبطة باليهود بالبلاد    كامل الوزير: نستهدف وصول صادرات مصر الصناعية إلى 118 مليار دولار خلال 2030    عاجل.. غياب عبد الله السعيد عن الزمالك في نهائي كأس مصر يثير الجدل    الكشف عن اسم وألقاب صاحب مقبرة Kampp23 بمنطقة العساسيف بالبر الغربي بالأقصر    راتب 28 ألف جنيه شهريًا.. بدء اختبارات المُتقدمين لوظيفة عمال زراعة بالأردن    محافظ القاهرة يُسلّم تأشيرات ل179 حاجًا (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمود رياض
رومانسية الضباط وديجول وناصر وجمع الطوابع وصيد السمك

نشأت وربيت على عدد من الثوابت والحقائق، وقد تصورتها من الخوالد التى ظهرت لتبقى لا تزور. ومن ضمن تلك الظواهر مجموعة من الشخصيات السياسية التى لم أفهم – طفلاً – أن حتمية تطور الظاهرة السياسية وقوانينها تفرض تغييرها، والخضوع لأفكار تداول السلطة والمواقع، والإنتخاب البيولوجي، وأن تلك الشخصيات ليست حالات (مؤبدة)، وإنما هى جزء من أوضاع (مؤقتة).
جمال عبد الناصر والجنرال شارل ديجول والزعيم اليوغسلافى جوزيب بروزتيتو والزعيم الهندى جواهر لالنهرو، وترويكا موسكو (نيكولاى بارجورنى _ ليونيد بريجنيف _ أليكسى كاسيجين)، وحتى فى أفريقيا فإن زعامات الاستقلال التاريخية بدت بالنسبة لى ثوابتاً لا أتصور تغيير مواقعها أو اختفائها سواء كوامى نكروما فى غانا أو أحمد سيكوتورى فى غينيا أو جومو كينياتا فى كينيا أو باتريس لومومبا فى الكونغو.
ولما كان الاتحاد السوفيتى هو الدولة الحليفة الأقرب إلى جيلى فقد زاد إهتمامى برموزه السياسية فى الصفوف التى تلى القيادات، متابعاً خطبهم، ومدققاً فى دلالات ظهوراتهم أو حضوراتهم.
ومن هؤلاء وزير الدفاع الماريشال أندريه جريتشكو ووزير الخارجية أندريه جروميكو..
آه .. جروميكو .. ذلك الرجل لم أك أتصور وزيراً لخارجية الاتحاد السوفيتى سواه، بالضبط .. بالضبط مثل محمود رياض الذى لم أتخيل – فى ذلك التوقيت – رجلاً غيره يصبح وزير خارجية مصر.
التقيت الأستاذ رياض .. بعد أن تقاعد وبعد أن فهمت أن الحقائب ليست أبدية، والكراسى ليست خالدة.
وكنت – دائماً – أذكره – حتى قبل تعارفنا – من خلال حوارات مع آخرين، فى لقاءات عديدة جمعتنى بالدكتور مراد غالب وزير الخارجية الأسبق وسفير الجمهورية العربية المتحدة فى موسكو زمن الهزيمة المروعة عام 1967، كان محمود رياض هو الحاضر – دوماً – فى تلك الأحاديث المسجلة عام 1994، كون رياض وزير الخارجية أيام 67، هو الرقم الحاضر فى ذلك الفصل من العلاقات المصرية السوفيتية والذى شهد تطورات دراماتيكية على المستويات السياسية والعسكرية، وحتى على مستوى التضاغط الداخلى فى الإتحاد السوفيتى وبالذات من اليهود الذين شنوا حملات قاسية ضد الدول العربية بعد أن أضاعت السلام الروسى وهزمته، وقد صارت فاتورة مساعدتها فوق طاقة المواطن الروسى الذى تكلم (فى مؤتمرات سياسية وحزبية) عن تمويل الفشل.
كان مراد غالب يحكى لى عن مشاهد تلك الفترة بعد إحدى جلسات (اليوجا) التى يؤديها فى حديقة منزله عند أول طريق مصر/ الإسكندرية الصحراوي، أو بعد عودته إلى بيته فى الزمالك بعد رحلة صيد .. وكانت أسماء كاسيجن وجروميكو ونائب وزير الخارجية سيمينوف ومحمود رياض هى قواسم تلك الحوارات ومشتركاتها، فيما الرجل يصف لى جلسة مباحثات فى الكرملين وراء أبواب خشب الجوز الضخمة وتحت القباب الذهبية التى تبرق حين تقبلها حزم أشعة الشمس أو فى مقر السفارة المصرية بشارع «الجرتسينا» الذى يحمل اسم أحد كبار الأدباء، أو فى سيارة (زيم) أو (شايكا) تعود مراد غالب إستخدامها لا بل وكان محمود رياض حاضراً معى بعد سنوات من رحيله حين أصبحت مديراً لمكاتب الأهرام فى أمريكا وتعودت إلتقاء الوزير أحمد أبو الغيط (وكان وقتها رئيساً لبعثة مصر بالأمم المتحدة) عندما أذهب إلى نيويورك لحضور جلسة فى مجلس الأمن أو لمتابعة حدث كبير، وأذكر تمشية جمعتنا (بين جلستين) على كورنيش «نهر هدسون» الذى يطل مبنى الأمم المتحدة عليه، ودعانى فيها أبو الغيط إلى تناول الآيس كريم بينما كان – كعادته – يداعب موظفى الأمم المتحدة والشرطيات السود البدينات اللاتى يعرفنه حق المعرفة.
وفيما كنا نسير الهوينى فوق الممشى المطل على نهر هدسون اندمجت احدثه عن اغنية شهيرة «لبربارا سترايسند» بعنوان «هدسون ريفر» تدور اجواؤها الى جوار ذلك النهر، ثم لفتتنى –فجاة- لا فتات الشوارع المسماة بأسماء جولدامائير وأبا إيبان، فأمسكت بتلابيب اهتمامى ودفعتنى إلى الكلام عن الشرق الأوسط، وحكيت لأبى الغيظ (السفير وقتها) عن علاقتى بمحمود رياض والاثر القوى الذى تركه فى نفسى سواء فى سنوات النشأة والتكوين، أو فى أعوام النضج المهنى والسياسي، ووجدتنى أصرح لرئيس بعثة مصر فى الأمم المتحدة برأى (طالما حجبته) حول الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية القديم الذى حرص محمد حسنين هيكل على تصنيع اسطورته فى الذهن العام، كما كان مولعاً- دائماً- بتخليق الاساطير وتحريكها من حولنا.. رأيت محمود فوزى رجلاً أجاد (بلاغيات) السياسة الخارجية لا (فنياتها)، وضمن القرائن التى تصادق على ذلك المعنى نص خطابه فى مجلس الامن بعيد حرب 1967 مباشرة، وكان مبعوثاً من الرئيس عبد الناصر، إذ ظل الرجل العجوز يتحدث عن امريكا بوصفها الثور الذى دخل يعربد فى محل للبورسلين (الصيني) فيما كان وضع مصر بعد انتهاء العمليات يفرض لوناً اخر من الحديث.
وقد ظهر محمود رياض ليشغل منصب وزير الخارجية عام 1964 فى وقت شديد الصعوبة على المستويات الداخلية حين بلغ الصراع بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ذروته، ثم حدثت مؤامرة سيد قطب عام 1965، وعلى المستوى الخارجى طلبت امريكا التفتيش على المفاعل النووى المصرى فى أنشاص، ومنعت إمداد مصر بالمعونة فضلا عن انكشاف قضية جاسوسية مصطفى أمين لأمريكا وتوالت فصول صدام القاهرة مع الرياض على الأرض اليمن.
وهكذا ظهر محمود رياض فى خضم تلك الأعاصير، ولكنه كان مظللاً بالأسطورة التى أحكم هيكل صياغتها عن محمود فوزي، وبالمناسبة فإن الأساطير التى تعود الأستاذ هيكل مراكمتها وتلقينها و»تزغيطها» للناس، إرتبطت – دائماً – بمواقف أشخاص بعينهم من هيكل ذاته، أو تفضيله لهم بسبب أو آخر، وقد إستحقوا – جراء ذلك التفضيل – أن يبيتوا أساطيراً أو مشروعات لأساطير عند هيكل ثم إستخدم قوة تأثير وضعه السياسى وحجم المؤسسة الصحفية التى رأسها فى ذيوعها وإنتشارها .. على أية حال مازلت أتذكر أحمد أبو الغيط وهو يصف لى محمود رياض قائلاً:»بعد هزيمة 1967 أصدرت هيئة البحوث بالقوات المسلحة كتاباً لتقييم الأداء العسكرى للجيش خلال تلك الأزمة، ولكن ذلك الكتاب تم سحبه – فوراً – من أيادى الضباط والجنود حتى لا يؤثر فى معنويات أفراد القوات المسلحة.. ومن ناحية أخرى فقد طلبت جهات سيادية من محمود رياض، عمل تقييم لأداء مصر السياسى فى الأيام التى أفضت إلى الهزيمة، ولكن الرجل كان متردداً إذ أمضت فرنسا 60 عاماً حتى يظهر من يكتب عن هزيمة نابليون الثالث وتنازله عن العرش، وبالتالى فإن تناول الأخطاء التى دفعت مصر إلى هاوية الهزيمة لم يك ممكناً.
فى عام 1989 صرت مديراً لمكتب جريدة الحياة الدولية فى القاهرة وكان رئيس تحريرها الأستاذ جهاد الخازن (وهو صديق عزيز عملت معه لسنوات طويلة فى جريدتى الشرق الأوسط والحياة وأعتبره كلمة متطورة جداً فى صناعة الصحافة العربية وتعلمت منه الكثير) وقد بدأ جهاد فى ترشيح من ستستكتبهم الجريدة من القاهرة، وكان إسم محمود رياض على رأس القائمة، ولما أبديت إندهاشاً كون المجتمع الصحفى لم يعرف محمود رياض كاتباً من قبل قال لى جهاد: «إسمع منه ورتب المادة للنشر فهو كنز معلومات ما فينا نضحى به».
وعلما أنى أستثقل هذا اللون من المهام فإن فضولى لمعرفة محمود رياض دفعنى إلى التحمس لمهمة لا أحبها ولكنى أديتها فى بعض حالات سوف أحكى عنها فى مناسبات أخري.
وحين ذهبت لألتقى محمود رياض للمرة الأولى فى منزله بشارع العزيز عثمان فى الزمالك، وجدتنى أمام مفاجأة حقيقية، فيض من الأوراق والمعلومات، ورجل مدقق فى كل حرف أو رقم، وصاحب قدرة على السخرية غير الصاخبة، ولكن النافذة جداً والمؤثرة كذلك.
وضمن الأوراق التى جهزها قبل لقائنا الأول وجدت كومة من الصور رغم معرفته أن مقاله لا تصاحبه صور ولكنه أراد التدليل على بعض ما يقول، والتقطت واحدة من تلك الصور هى الأشهر – تاريخياً – بالنسبة لي، وقد ظهر فيها صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة فى زيارة للسودان يرقص مع رجال القبائل عند مناقشته المسألة السودانية – بعد الثورة المصرية، ووجدتنى أسأله مباشرة – وحتى قبل أن نجلس - :»هل تعتقد يا أستاذ محمود أن تلك الرقصة كانت لها أى فائدة سياسية؟»
فأجابني- بنصف ابتسامة- :» رقصة صلاح سالم كانت مجاملة لطيفة ، ولكن المراسلين الغربيين وبعض الكتاب حاولوا استغلالها ضد الرجل، بخاصة بعدما نشرت آخر ساعة تحقيقاً صحفياً وصورة للرقصة التقطها الاستاذ صلاح هلال (الذى اصبح – فيما بعد- عملاق التحقيقات الصحفية فى «الأهرام»)، وأرى أن هذا كان عملاً سياسياً ممتازاً، وهو أمر كثيراً ما يتكرر، فقد شاهدت الانجليز العسكريين يشاركون القطريين رقصة (العرضة) عام 1961 (بالمانكى درس) وهى الحلة العسكرية للسهرة ذات الجاكيت القصير ذى الذيل الطويل، وكذلك يأكلون المنسف بالطريقة التقليدية (يضحك) .. على ايه حال كان زمان صلاح سالم يحتمل الرقص، اما الان فلا أظن أن أحداً من السودانيين (فيه حيل) ليرقص»!!
ربما لم تسمح ضرورات مهنته الإفصاح عن اهتمامات أخرى غير السياسة فى كل ما يقول ويفعل، ولكننى كنت أمام فرصة حقيقية لاستقطار أرائه فى امور لا تدخل بأى حال فى ذلك المجال الذى عرفتموه فيه.
وسواء فى بيته بالزمالك أو فى شقته البسيطة على البحر فى جليم بالأسكندرية وقتما لم يك هناك ساحل شمالي، أو قصور منيفة يحتلها كل مسئولى الدولة السابقين والحاليين لا نعرف كيف، كان محمود رياض يستقبلني- احياناً- أثناء اداء مهمتى التى تحولت إلى امتع جزء فى عملى كون الأحاديث الجانبية التى تحوطها مسلية ومثيرة بما لا يقاس، بخاصة أن محمود رياض بدا وكأنه اكتشف شهوة الكلام متأخراً فأوسع الحكايا حكيا، وكنت الفائز على أى حال وعن السينما- مثلاً- أكد لى محمود رياض أنها كانت- فى زمن شبابه- سيدة الموقف فى ليالى القاهرة، فلم يك هناك تليفزيون ولا وسيلة للإتصال بما يدور فى ساحة الفن الدولية سواها.
وقال:»كنت أقطن حى عابدين، وإلى جوار حينا تتناثر مجموعة من دور السينما الشهيرة ضمنها (أوليمبيا) وإيديال (التى أصبحت أوريال فيما بعد)، وفى فترة لاحقة كنا- كشباب – نستطيع توسيع دائرة تحركنا قليلاً، لنذهب إلى حى هليوبوليس (مصر الجديدة) ونتردد على دار سينما روكسي، ولكى توسع الشركة التى أنشأت حى مصر الجديدة من فرص تردد الجمهور عليه- باعتباره ضاحية بعيدة- كانت تسمح لحامل تذكرة المترو (الذى يربط هذه الضاحيةبوسط المدينة) باستعمال التذكرة فى دخول سينما روكسى مجاناً، ولم تك هذه ظاهرة وحيدة، فقد كانت سينما الأزبكية- أيضاً- تشجع الجمهور على دخولها بأن تقدم لكل متفرج طبق من الخشاف مجاناً أثناء مشاهدة الفيلم»!
وأضاف رياض:»الفيلم الذى لا أنساه من هذه الفترة هو (لص بغداد) وبطله كان دوجلاس فيربانكس، وشاهدته زمان فى دار سينما (متروبول) فى وسط المدينة قرب شارع فؤاد الأول، وهذا الفيلم له علاقة بحادثة جرت لى فى العشرينيات، فقد درج أبناء الطبقة الوسطى من القاهريين فى هذا الوقت على قضاء فترة الصيف فى العوامات التى كانت ترسو على إمتداد مجرى النيل، ولم يكن الذهاب إلى الأسكندرية وغيرها من الشواطئ البحرية معروفاً إلا لطبقة اجتماعية معينة .. كنا نصيف فى النيل حتى أن محمد على باشا الكبير حين كان يريد التصييف، يمضى أشهر الصيف فى بيته المطل على نيل شبرا فى مدخل القاهرة الشمالي.
المقصود .. على سبيل شقاوة الأطفال كنت مولعاً بالمشى على العمود الخشبى الذى تستند إليه العوامة كى لا تدفعها الأمواج إلى الإرتطام بصخور الشاطئ، وذات مرة سقطت فى الماء، ولم أك تعلمت السباحة بعد، ووسط مياه النيل تذكرت مشهداً من فيلم (لص بغداد) أخرج فيه البطل كنزاً من أعماق الماء، وبدأت- دون وعي- أقوم بنفس الحركات التى كان البطل يفعلها، فطفوت على وجه الماء .. وبهذا المعنى كان دوجلاس فيربانكس بالنسبة لي، ليس عامل (إبهار) ولكنه عامل (إنقاذ)!
والغريب أن ذلك الفيلم وبطله ظهرا فى حياتي- مرة أخري- بعد العدوان الثلاثى على مصر 1956، حين كنت ألقى محاضرة فى مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة والمكون من مجموعة من كبار الشخصيات الأمريكية، أذكر منهم جون ماكلورى المندوب السامى الأمريكى فى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وقد كان الحاكم الفعلى لألمانيا وقتها.
وبعد المحاضرة إقترب منى شاب وسيم وسألنى عن الصهيونية، فأجبته بأن سؤاله يحتاج إلى ساعتين للرد، وأضفت أنه إذا كان مهتماً جداً بالموضوع فسأرسل له كتاباً إسمه (سلام المراوغ) لمؤلف إسمه جون دايفيز، وكان وكيلاً لوزارة الزراعة الأمريكية، ثم بات مديراً لوكالة إغاثة اللاجئين، وقبل الشاب مبادرتى شاكراً، فأرسلت له الكتاب، ورد بخطاب شكر بعدما قرأه وإتضح من خطابه وبطاقته أنه دوجلاس فيربانكس الصغير إبن بطل فيلم (لص بغداد)!!
.........................................
ولأننى أعرف أن موقع محمود رياض فى تراتبية النظام السياسى أيام جمال عبد الناصر كان يسمح له بأن يري، ربما مالا يراه غيره، فقد انتهزت فرصة مناقشتى بعض أفكار سلسلة من مقالاته فى جريدة «الحياة» معه، ورحت أهندس ما أسميته (النص البديل) لجلساتى مع محمود رياض، أعنى أفكاراً وأسراراً لم تك داخله- بحال- فى عظم ولحم سلسلة المقالات التى سوف ننشرها، ولكنها ترتبط برؤيته السياسية والدرامية لشخصية جمال عبد الناصر.
ووسط حديث محمود رياض عن موضوعات سلسلة مقالاته، وفيما ينهمك فى القراءة والتخطيط بقلم فلوماستر تحت بعض سطور وثيقة هنا أو هناك، وقد أنزل قنطرة نظارته على مقدمة أنفه أردت أن أحول مجرى تلك الجلسة إلى ما أريد وأبغي، فقاطعت الرجل:»أستاذ محمود .. هوه إنتوا بتصرفوا فنجان قهوة واحد للضيف فى القعدة واللا ممكن أطلب واحد كمان؟»
فضحك رياض ونادى أحد العاملين بمنزله وطلب منه ما أطلق عليه: (قهوة الدكتور عمرو)!
وانتهزت فرصة الإنقطاع لأبدأ فى كتابة (النص البديل) لجلستى مع الأستاذ محمود رياض، وسألته: هل كانت رؤية عبد الناصر الثقافية والمزاجية تتسع إلى أشياء تقع خارج حدود السياسة المباشرة؟
ولدهشتى فإن شيئاً من عدم التوقع لم يكتس ملامح محمود رياض، وبدا وكأنه فكر فى ذلك الأمر من قبل. وقال:»قبل الثورة وعند بداياتها كان عبد الناصر يحب الذهاب إلى دور السينما كثيراً، ولكن وضعه كرئيس للجمهورية منعه- أمنياً وجماهيرياً- من الإستمرارفى مزاولة هوايته، إلا أنه ظل مولعاً بمشاهدة الأفلام، واقتنى آلة عرض فى منزله وإذا سمح وقته كان يشاهد فيلماً كل ليلة .. وإضافة إلى ذلك كان قارئاً بدرجة أصفها بأنها (أكثر مما يجب) ومتابعاً لما يعرضه المسرح، وبهذا المعنى أعتقد أن انطباعات ما تولدت لديه نتيجة كل تلك المتابعات وحينما يظهر تأثير لها بتلك الإنطباعات على رجل سياسى فإنه ينعكس فى موقف سياسى أيضاً وليس فى موقف نقدى أو فنى .. كان المسرح المصري- فى تلك الفترة- يعرض (الفتى مهران) لعبد الرحمن الشرقاوى وفيها كم كبير من الإسقاط السياسي، وأيضاً (سكة السلامة) لسعد الدين وهبة، وكذلك (إنت اللى قتلت الوحش) لعلى سالم التى منعتها الرقابة بعد 28 يوماً من العرض .. وقد كنت فى زيارة سريعة إلى باريس، واصطحبنى بعض الأصدقاء إلى مسرح صغير يقدم مسرحية كلها انتقاد وهجاء لديجول، وبصرف النظر عن موافقتى أو عدم موافقتى على ما جاء فى المسرحية، إلا أنني- كمواطن غير فرنسي- احترمت شجاعة المؤلف، وقدرت سماح ديجول.
وفى مسرحية (إنت اللى قتلت الوحش) كان بطلها يصرخ بأنه لم يقتل الوحش، ولكن الناس صمموا على أنه قتل الوحش، وإعتبروه بطلاً، وعاملوه على أنه بطل، أى أن الجماهير تختار القيادة السياسية وتلقى فوق رأسها بأعباء بطولية لم تقم بها .. الشعب يلقى بكل المسئولية على شخص واحد، وإنسان فرد لا يمكن عملياً أن يتحمل كل المسئولية فيفشل، وهنا يوجه الجميع له الإتهام، وهذا هو مبرر الحديث عن أهمية الديمقراطية كمفهوم،والتى يمكن أن تعكسها مثل تلك الأعمال على ذهن الحاكم، وتولد عنده من الإنطباعات والتأثيرات ما قد يظهر- كما قلت- فى موقف سياسى وليس كرد فعل فنى أو نقدي.
لم يك أحد يستطيع الإدعاء بأنه يعرف ما يدور فى ذهن عبد الناصر، ولكننى أعتقد أن قراراته الهائلة ومتابعاته المتنوعة أثرت فى آرائه كثيراً، وبالذات بعد الهزيمة، حين طالب- فى أحد المحاضر الرسمية- بقيام حزب معارض يراقب أعمال الحكومة، بعد ما تبين- على حد تعبيره- أن أحداً لم يك يرفض، وأن أحداً لم يك ينبه، وأن أحداً لم يك يطالب .. ومسجل فى محاضر هذا الإجتماع- أيضاً- أن أنور السادات رفض ذلك الاقتراح قائلاً:«مش عاوزين الكلاب تنهش فينا يا ريس»!!
نعم تغير فكر عبد الناصر السياسى جداً بعد الهزيمة، وأظن أن لقراءاته ومتابعاته دوراً فى ذلك.
.........................................
وفى أحايين كثر لامست ذلك المعنى من زوايا ومقاربات متنوعة، وكانت الفكرة التى حومت حولها هى نموذج ضابط الجيش (عبد الناصر نموذجاً وكذلك محمود رياض) وعلاقة الضباط برومانسية الفكرة الوطنية، وكذلك رومانسيةالحلم العاطفى والإنساني، ورحت فى أحد لقاءاتى مع محمود رياض أحكى عن أن معظم أفراد عائلتى ضباط فى الجيش وعلى نحو عزز رابطتى مبكراً بذلك الدور- بالذات- الذى يلعبه الجيش فى حياة البلد، لابل وبحت لمحمود رياض بأمنيتى المحبطة الكبرى فى أن أكون ضابطاً بحاراً، الأمر الذى حال دونه- مبكراً جداً- إستخدامى نظارة طبية فضلاً عن وضعى الجسمانى فى ذلك الوقت (وبالمناسبة .. وبعد حواراتى مع رياض بسنوات وحين ذهبت للعمل مديراً لمكتب الأهرام فى بريطانيا كنت فى كل عطلة نهاية الأسبوع أقطع الطريق إلى مدينة بورتسموث جنوب لندن وهى إحدى النقاط التى إنطلق منها غزو نورماندى فى نهايات الحرب العالمية الثانية، وهناك أسوح وأجوس فى متحف البحرية الملكية البريطانية، وأطيل الفرجة- مرة بعد مرة بعد مرة- على مقدمة سفينة الأدميرال نلسون قائد الأسطول الإنجليزى فى موقعة أبى قير البحرية والذى ينتصب تمثاله الشهير فى ميدان ترافلجار وسط مدينة لندن وتحته تماثيل لأربعة أسود ينظر كل منها إلى واحدة من الجهات الأصلية فى إشارة إلى الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس .. وقد فعلت شيئاً مشابهاً حين صرت مديراً لمكاتب الأهرام فى أمريكا، فقد كنت أقوم بمشوار إسبوعى كذلك إلى مدينة أنابوليس فى ولاية ميريلاند المطلة على خليج شيسابيك على بعد مائة ميل جنوب العاصمة واشنطن دى سى حيث كنت أقطن، وذلك لأشاهد منظر طلاب الأكاديمية البحرية ولهم يخرجون فى أجازتهم الأسبوعية بملابسهم البيضاء الرائعة .. هى على أية حال عقدة كبرى جعلت من كتب المعارك البحرية مكوناً أساسياً فى مكتبتى الشخصية عبرالسنين طالما لم أفلح فى تحقيق ما كنت أصبو إليه)
نهايته .. كان حديثى عن الضباط إلى محمود رياض فرصة لتبين بعض جذور الرومانسية عند أرباب العسكرية المصرية منذ فجر التاريخ وحتى الآن.
وقال محمود رياض:»العاطفية والرومانسية- تماماً- مثل الضحك، يتوقف قدرها أو أرجحيتها على السياق الإجتماعى والتاريخى الذى ظهرت فيه .. نعم كان عصرنا رومانسياً ومفعماً بالأحلام، ولكنها كانت- فى معظمها- أحلاماً ذات طابع وطني، ولم يك سبب رومانسيتنا هو قسوة الحياة العسكرية، فتلك الحياة العسكرية لم تك بالقسوة التى تؤدى إلى الإستغراق فى التصورات الحالمة، وإنما كان فيها- فقط- لون من الإنضباط.
أما الحلم الذى كان يداعبنا- دوماً- فهو الإستقلال، إذ مازال مشهد العلم البريطانى فوق ثكنات قصر النيل (المنطقة الواقعة الآن بجوار فندق النيل هيلتون ومبنى جامعة الدول العربية- فى ميدان التحرير بوسط القاهرة) ماثلاً فى ذاكرتي، وكذلك مشهد الجنود الإنجليز يدلون سيقانهم من بين القضبان الحديدية لنوافذ ثكناتهم، يتفرجون على الرائح والغادى .. كان الحلم هو الاستقلال، وهو حلم سيطر على مشاعرى حتى قبل دخولى الكلية الحربية .. كنا طلبة فى المدرسة معناها التوفيقية الثانوية فى 1928، وكنا نخرج فى التظاهرات لنهتف مع الهاتفين Give-Liberty دون أن نعلم عن معنى تلك الكلمة- بالضبط- سوى أنها مرادف للجلاء، ثم تعلمنا فى المدرسة معناها، وأذكر- للمفارقة- أن الذى علمنى معنى الكلمة الإنجليزية هو مدرس اللغة الفرنسية وهو فرنسى أيضاً.
ولم يفتنى فى حواراتى مع الأستاذ محمود رياض الحديث عن القوة الثقافية لمصر أو (القوة الناعمة) وهو ملف كثر فيه اللت والعجن فى هذه الأيام التى نعيش على نحو يكاد يفرغ الكلمة من أى مضمون لها.
فنحن نتكلم عن (القوة الناعمة) من دون أن يكون لدينا إنتاج ثقافى .. لم تعد لدينا جهات منتجة للأغنية سوى الشئون المعنوية بالجيش المصري، ولم يعد لدينا سينما حقيقية فيما انشغلت بعض شركات الإنتاج الخاصة بتقديم نماذج بشرية مشوهة فى أعمالها السينمائية يمثل تأثيرها (الضعف الثقافى المصري) وليس (القوة الثقافية المصرية)
وانكفأت وزارة الثقافة على الشللية التى غرق فيها وزيرها حتى شواشيه.
فقدت مصر التنوع والقدرة على احتضان كل الاتجاهات المتعارضة ففقدت النموذج الذى يستطيع به عبور حدودها والتأثير فى الآخرين (بالنفوذ) الثقافى الرمزى وليس (بالوجود) المادى على الأرض.
وقد سألت الأستاذ محمود رياض فى إحدى جلساتنا : ( إلى أى مدى لمست- أثناء عملك وزيراً للخارجية- صدقية فكرة أن القوة الثقافية والفنية للدولة هى عنصر من عناصر قوتها السياسية؟) فأجاب: «القوة السياسية ترتكز على عناصر كثيرة جداً من ضمنها القوة الثقافية والثقل الحضاري، فقوة أى دولة ترتكز على نقطتين مهمتين جداً، أولاهما هى أمن البلد بمعنى قدرته على حماية حدوده، وثانيتهما رفاهية الشعب .. والإدراك الثقافى هو عنصر من العناصر النوعية الأساسية لتربية فهم المواطن عن أمته وعن حقوقه السياسية.
ولم يك ثقل الوزن النسبى للثقافة المصرية عاملاً مؤثراً عليَ شخصياً، وإنما كان مؤثراً على جيلى كله الذى تربى وعيه من خلال المشاهدة والقراءة والإستماع .. لم أخرج وحدى فى التظاهرات، ولم أشارك وحدى فى مشروع القرش لأحمد حسين لإقامة صناعة بسيطة أولية فى مصر، ولم أغنى وحدى أغانى سيد درويش، ولم أنشد وحدى (الله أكبر) وقت العدوان 1956.
برنامج يوم الجمعة كان حافلاً بالفقرات فى حياتنا، مثل الالتقاء بالأصدقاء فى حديقة «جروبي» قبل الذهاب إلى مكتبة المعارف فى شارع عدلى لمطالعة الكتب .. كنا نقرأ فى كل المجالات، ونستوعب طه حسين والعقاد وسلامة موسى، وقد مثلت ثقافة ذلك الجيل ووعيه بالفنون الثقل السياسى لمصر فترات تالية.
هذا الثقل بدأه محمد على باشا الكبير مؤسس مصر الحديثة عام 1805، والذى مزج فيه بين عناصر القوة السياسية والإقتصادية والثقافية للدولة.
وأذكر أن جواهر لآل نهرو فى كتابه (نظرات إلى التاريخ)- وهو عبارة عن مجموعة من الرسائل وجهها من سجنه إلى إبنته أنديرا- قال إن علاقاته وإتصالاته مع رجال الحركة الوطنية فى مصر، إنما هو من أجل المحافظة على خط المواصلات مع الهند، وكان يشعر بشئ من العلاقة بين تحرر الهند، وتحرر مصر، وقد كتب نهرو (نقلاً عن التيمز فى عدد صدر عام 1876 أى قبل الإحتلال بخمس سنوات) أن مصر حققت تقدماً خلال السبعين سنة الماضية بما لا يمكن أن تحققه دولة أخرى فى أقل من خمسة قرون، هذا هو حجم القوة السياسية والثقافية والحضارية التى حققها محمد على.
ولهذا يوم توليت وزارة الخارجية طلبت أن يكون الإشراف على العلاقات المصرية الثقافية الخارجية جزءاً من عمل وزارة الخارجية، وتولى ذلك الملف الدكتور حسين خلاف، ووجدنا أن هناك- وقتها-42 ألف طالب عربى فى مصر، وآلاف من المدرسين المصريين فى العالم العربي، وهذا هو معنى القوة الثقافية للدولة، حتى أن الإكونوميست كتبت- ذات مرة- تقول إن عبد الناصر يود إقامة إمبراطورية عربية تحت زعامته بإستخدام المدرسين، ولنضف على ذلك تأثير ووزن الرواد مثل المازنى وطه حسين والعقاد .. وقد كان العقاد أقربهم- بالمناسبة- إلى ذوقى الشخصى لأنه كان معلماً فى شتى فروع المعرفة، ولكننى لم التقى به أبداً»
وأضاف محمود رياض:
«وفى إطار حديثى عن القوة الثقافية لمصر، قابلت أم كلثوم التى ربطتنى بها صداقة وإحترام، وحرصنا دوماً على اللقاء حين كانت تجىء إلى نيويورك وقت عملى هناك، والأثر الذى كانت تلك الفنانة قادرة على إحداثه تعجز مؤسسة كاملة عن تحقيقه، وأذكر- مثلاً- رحلاتهاإلى دمشق وقتما كنت سفيراً هناك، وحجم الإهتمام الشعبى بها الذى فاق التصور، وكذلك حفلاتها الشهيرة فى باريس التى غنت فيها (الأطلال) كما لم تغنها من قبل، وردد العرب معها- فى نفس واحد- «وعدونا فسبقنا ظلنا»
.....................................
ودونت- ذات مرة بعض نصوص أراء محمود رياض عن الموسيقى التى أخبرنى فيها أنه يحب عبد الوهاب كمطرب فى أغنياته القديمة ولكنه يحبه كموسيقار فى أغانيه الجديدة، وقال إن جيله تذوق النقلة التى أحدثها عبد الوهاب بمزج الموسيقى الشرقية التقليدية بالإيقاعات والميلوديهات الغربية، فقد كنا جيلاً وثيق العلاقة بالموسيقى الغربية وبالرومبا والفالس والتانجو، ولم نجد صعوبة فى تقبل الشكل الجديد».
وفى نسق فرعى من حديثه عن ملف الغناء كلمنى الأستاذ محمود رياض عن الأصوات العربية التى يحبها فقال:»على قائمتها- بالنسبة لي- فريد الأطرش وفيروز وصباح فخرى .. وأرى أن فيروز وصباح فخرى هما صوتان نادران فى القدرة والإحساس، وبما يدفعنى إلى الحديث عن سوريا مرة أخري، لأننى عشت فيها فترة وتشبعت بجوها .. وحلب- بالذات- هى مخزن التراث الموسيقى العربي، وأعتقد أن زيارة سيد درويش إليها- التى إستمرت عاماً بغض النظر عن مدى النجاح الذى حققه هناك- أفاده كثيراً .. أهل سوريا هم من (السميعة) الكبار جداً»
..............................
ولما كنت أعرف أن محمود رياض جاوز مرحلة الحديث عن الإبداع إلى مزاولة الإبداع فعلاً، وأنه يرسم لوحات بألوان الزيت كلما تيسرت الظروف فقد سألته: (أعرف أنك تزاول الرسم .. فكيف زاولت هذه الهواية؟) وأجابني:»بدأتها وأنا تلميذ حيث رسمت بالقلم الرصاص، ثم بالفحم واستمرت الهواية وتطورت لأستعمل الألوان المائية، ولكن عند إستخدامى لألوان الزيت واجهت مأزقاً حقيقياً .. إذ لم يعلمنى أحد كيف أرسم بالزيت، فذهبت لأحد محلات أدوات الرسم، وحينما سألنى البائع عما أريد، وقعت فى حيص وبيص، ولم أك أعرف ماذا أريد بالضبط، فقلت له: سوف يزورنى صديق فنان، وأحب أن أجهز له أدوات الرسم كمفاجأة ليرسم أثناء إقامته عندي، فأعطانى كل ما يلزم، وعندما بدأت فى خلط الألوان ووضعها على الورق، وجدته يتشرب الألوان، ويعطينى نتيجة رديئة جداً، إلى أن تعلمت أن الرسم على الزيت يكون على توال، وهو نوع من أنواع النسيج .. وأخيراً جداً زاولت الرسم على الزجاج أيضاً بخسائر كبيرة فى الأدوات والخامات»!
وكلما أوغلت مع محمود رياض فى كتابة (النص البديل) بدلاً من العمل الأصلى الذى كنت أزوره من أجله وجدتنى أبحر إلى أفق لم أتصوره أو أتوقعه.
وذات مرة باغته بسؤال عن مصادره للثقافة التاريخية، فأجابنى بأن المصادر كثيرة بالطبع، أهمهما الوثائق، والكتب، وآثار الحياة الإجتماعية ولكن أغربها- بالنسبة لي- هى طوابع البريد وهى هوايتى المحببة وقد بدأتها منذ سن التاسعة، وبلغ حجم مجموعتى حتى الستينيات أربعين ألف طابع. أما الآن فقد تجاوزت هذا الرقم بكثير ولكننى توقفت عن الإحصاء (جرى هذا الجزء من محاورتى مع محمود رياض عام 1994)!
طوابع البوستة هى وثائق للتأريخ السياسى والإجتماعي، وهى هوايتى التى أحزن- كثيراً- لأننى لم أتفرغ لها .. كنت- دائماً- أقول لنفسي: غداً أخرج إلى المعاش وأجلس إلى هذه الهواية لأنظم مجموعتى الهائلة، ولكننى على المعاش أكثر مشغولية من وجودى فى الخدمة، إذ أرد- طيلة اليوم- على مكالمات من محطات تليفزيون ومراسلين من أمريكا وأوروبا واليابان .. إحتلال كامل لم يمكننى من مزاولة الهواية.
وفى حديث النشاط غير المهنى لوزير خارجية مصر الأسبق، كلمني- لمرات- عن القراءة التى كانت رقم واحد على قائمة أولوياته، والتى كانت بالنسبة له هواية إجبارية، فلم تك الحياة الإجتماعية فى مصر فيها ما يفسح أمامك مجالات كثيرة للإختيار.
أما- الآن- فتضيق النفس بالإستمرار فى القراءة، لوجود وسائل كثيرة لصرف الوقت ، وأيضاً لأن كل حياتى صرفتها فى القراءة (المهنية) سواء كانت كتباً أو تقاريرً، أو وثائقً .. ولكن فى إطار ما تسألنى عنه فقد زاولت عملاً يدوياً له سمت الهواية هو صيد الأسماك فى البحر الأحمر، والذى كان متيسراً بالنسبة لى قبل عدوان 1967.
وهنا سألت محمود رياض: (هل يمكن أن تعطينى فكرة عن حجم الأسماك التى كنت تصطادها؟)
فضحك الرجل قائلاً:»هذا سؤال خبيث مثلك .. ولكن يقال أن من حق الصياد أن يبالغ كثيراً فى حجم السمكة، فإذا كان وزنها كيلو لا بأس فى أن يقول عشرة!
وقد جربت- أيضاً- تجربة صيد البط.
فقلت له: (هل نفهم من هذا تجربتك فى صيد السمك فشلت؟)
وضحك الأستاذ رياض قائلاً:»لا- ياسيدي- لم تفشل، وعاود الضحك»
وقلت: (حدثنا- إذن- عن تجربتك فى صيد البط؟)
فقال:»لم أحبها ولم أجد فيها أى متعة أو رياضة .. كانوا يجلسونى فى حفرة ممسكاً ببندقية لأطلق الخراطيش .. وعند شروق الشمس نرحل»!!
ووجدتنى فى حالة شقاوة كثيراً مارستها مع الأستاذ رياض فعاودت سؤاله:
فلنعد إلى صيد السمك .. يبدو- يا أستاذ رياض- أنك خجول- قليلاً- من أحجام السمك الذى كنت تصطاده .. إذ أنك لم تقل لي- أبداً- شيئاً عن حجمه) وقال رياض:»ذات مرة ذهبت للصيد ولم أصطد شيئاً بعد ساعات، وكنت خجولاً- بالفعل- بخاصة أن أحداً من أصدقائنا كان يعود كل يوم وقد إصطاد كمية هائلة من السمك، وبأحجام عملاقة، فقررت أن أذهب إلى الثلاجة الكبيرة الموجودة فى الغردقة، وأشترى بعض الأسماك التى أراها مناسبة كى تبدو وكأنها حصيلة إنفاقى لساعات طويلة فى عملية الصيد، ولما ذهبت إلى الثلاجة وجدت صديقنا الصائد الماهر يقف فى أول الطابور لشراء حصته اليومية التى يدعى أنه إصطادها»
وأضاف وزير الخارجية الأسبق:»يذكرنى هذا بوقت كنت سفيراً لمصر فى دمشق فى الخمسينيات، ووقتها دعانى أحد أصدقائى السوريين إلى مزاولة صيد السمان، وأحببت هذه الرياضة جداً لأن فيها حركة ومشياً، إلا أن صديقنا خرج ذات يوم للصيد بمفرده، وأخبر زوجته أنه سيصطاد السمان اللازم لإقامة وليمة عشاء كانوا جهزوا لها فى هذا اليوم، وعاد ليلقى بعشرين سمانة دفعة واحدة على أرض المنزل، إلا أن زوجته رأت أن ذلك السمان لن يكفى أعداد المدعوين الكبيرة، فنادت على أحد بائعى السمان لشراء عشرة طيور، فأجابها بأن ما لديه من طيور نفذ لأن زوجها إشترى منه عشرين سمانة منذ دقائق»!!
.................................
أما الأمر الطريف الآخر الذى ربطنى بالأستاذ محمود رياض فهو شطرة من بيت شعر لطالما تبادلنا ترديدها فى كل مرة نلتقى فيها.
وكان الأستاذ رياض أخبرنى بها وحكى لى عنها، إذ أنها من بيت فى قصيدة للمجاهد الجزائرى العظيم الشيخ بشير الإبراهيمى والد أبى طالب الإبراهيمى وزير خارجية الجزائر الأسبق، وقد طرد الفرنسيون الشيخ بشير ولجأ إلى السعودية، ثم اليمن، ثم جاء إلى سوريا عام 1955، وهناك إلتقاه محمود رياض كسفير لمصر فى دمشق على مائدة غذاء، فإذا به ينشد قصيدة طويلة وصادمة عن أحوال العالم العربي، ورأى محمود رياض أنها تتضمن أصدق المقولات فى التعبير عن حال بلادنا وهي: (ودستورهن .. لاتقرأن .. لا تكتبن .. لا تفهمن)!
نعم يا أستاذ رياض :
ودستورهن .. لا تقرأن .. لا تكتبن .. لا تفهمن!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.