«إنتو جيتو ؟!» كان إستفهاماً غريباً، إذ كنا نقف علي بُعد نصف خطوة من صاحب السؤال .. ولكننا أدركنا خطورة الموقف حين تبين كلانا أن ذلك الإستفهام إقترن بنظرة شذراء تنبئ بليلة ليلاء ! وقفت مع المرحوم إبراهيم نافع الفلاح الشهير (الذي كان يقطن الجيزة وتلاصق أرضه عزبة محمد حسنين هيكل في برقاش). نحار جواباً امام الأستاذ محمود السعدني حين إستقبلنا بتلك الإفتتاحية المثيرة للهواجس والريب علي باب شقته في «ستيوارت تاور» بحي ميد فيل بلندن. علي أي حال .. أفسح لنا السعدني فرجة تسمح بمرور أينا بجنبه، فيما إنصرف كل منا إلي التفكير في الأعذار التي سوف يسوقها للسعدني تبريراً للفعلة التي تورطنا فيها لا نعرف كيف! بدأت القصة حين قرر محمود السعدني أن يصطحب في إحدي زياراته إلي لندن صديقه إبراهيم نافع الفلاح، وهو رجل طيب جميل، مفعم بالجد عنه وبأخلاق الفرسان الفتوات من أولاد البلد، ورافق السعدني لسنوات في ساحات الوغي الإنسانية والسياسية والصحفية، ووسط أحداث 15 مايو 1971 قام الحاج إبراهيم نافع بإحراق وثائق وأوراق التنظيم الطليعي للإتحاد الإشتراكي في حفرة (جورة) ضخمة حفرها بأرضه، إذ كان السعدني نائباً لرئيس التنظيم (شعراوي جمعة) ومسئولاً عن الجيزة. ولعمري لم أر رجلاً أحب صديقه وإرتبط به بمقدار إبراهيم نافع للسعدني، إذ كان بمثابة رواية لطرائف وغرائب ما مر به السعدني من أحداث وأهوال، وكان –كذلك- يهتم بضيوف الكاتب الضاحك في نادي الصحفيين النهري بالجيزة –الذي أسسه السعدني مستخدماً نفوذه المدهش عند كل أجهزة الدولة متحصلاً أفضل ما يسمح به القانون من أوضاع إستثنائية لقبيلة أبناء مهنته -وكثيراً ما رأيت إبراهيم نافع بجلبابه الغامق وجسمه الضخم يحتفل بعمرو موسي ومصطفي الفقي وأسامة الباز وعادل إمام وعلي والي وفؤاد علام، كما لو كانوا ضيوفه شخصياً، ويشمر –علي طريقة الفلاحين- كُم جلبابه الأيمن قبل أن يقوم بنزع نسائر طرية وشهية من سياق جسم خروف مشوي ضخم ويضعها لكل منا في طبقه مطالبه بأن يأكل هذه أو تلك من أجل خاطره. نهايته .. جاء إبراهيم نافع مع محمود السعدني إلي لندن تعصف بوجدانه أماني صاخبه ورائعة عن أجازة ممتعة ليس لها مثيل، سوف يري فيها ما لم تره العيون، وسيصبغ المدينة أحمراً من فرط الفسح التي سينخرط فيها غارقاً حتي شواشيه في الفرجة. ولم يك إبراهيم نافع يعرف ما ينتظره، إذ أن معظم إقامة الأستاذ محمود السعدني في لندن كانت في شقته التي تقع في عمارة شهدت إقامات لعدد كبير من مشاهير المصريين، وأحداثاً عجيبة وبعضها أليم (ألفريد فرج _ بليغ حمدي وقت إقامته في لندن _ سعاد حسني حتي إنتهت حياتها _ والليثي ناصف حتي قضي)، وعادة كان السعدني يقضي أوقاته علي كنبة في منزله يكتب مقاله لمجلة (المصور). ثانياً ساقه تحته ثم يرسله بالفاكس، بعد ما يكون دخن عشرات السجائر، كما يعد الطاجن الشهير الذي يولم فيه لضيوفه عندما يأتي المساء ويتحلقون من حوله وصاحبه ويتمتعون بحديثه الساخر الرائع الذي يتدفق علي نحو حواديتي ليس له نظير، ويرصعه بأوصاف وأسماء مضحكة يطلقها علي أحداث وأشخاص فتلتصق بهم غير قابلة للتآكل أو النسيان عبر السنين. من ذلك مثلاً –اسم «تكتوك» الذي أطلقه علي الدكتور جلال إسماعيل أستاذ الإقتصاد بجامعة لندن، والذي كان منهمكاً في إدارة حملة الدكتور أشرف مروان الإنتخابية في إحدي دورات رئاسة جمعية الجالية المصرية، وهي لم تسفر عن فوز الدكتور أشرف فيما كان يحظي بالمنصب عادة، وعندما دخل جلال إسماعيل علي محمود السعدني بعد النتيجة عاجله الساخر الكبير بقوله: (ضيعته يا خويا بتكتيكاتك ؟!) وصار من وقتها يلقبه: (تكتوك)! أما الأستاذ أمين الغفاري القيادي القديم في الإتحاد الإشتراكي، فقد أسماه: (أمين وحدة ميد فيل) إشارة إلي أنه مازال يعيش في جو التنظيم السياسي لمصرفي الستينيات رغم أنه يقيم في لندن منذ عشرات السنين. وطبعاً لا أغفل –هنا- أوصافه المتكررة والساخرة عن الأستاذ عبد المجيد فريد كأحد قيادات ما أسماه: (الحزب الثوري الكهربائي) الذي ظهر في بغداد حين أنشأت السلطات العراقية شركة أبراج الكهرباء لتمويل مجموعة القيادات الناصرية التي أقامت في بغداد بعد 15 مايو، وقررت أن تناضل ضد حكم السادات في المهجر. كانت حكاية شركة الكهرباء هي إحدي وسائل التمويل غير المباشر لتلك المجموعة، وعلي أية حال فإن الأستاذ محمود السعدني حكي عن ذلك الملف طويلاً في كثير من مؤلفاته ذائعة الصيت والإنتشار، وبالذات حول سلوك بعض تلك القيادات الثورية وبخاصة في المسائل المالية!! أوسع السعدني كل أولئك وغيرهم كثر سخرية ونقداً وهجوماً ولكنه علمني درساً لا ينسي حين شن حملة شرسة ضد ماهر الجندي محافظ الجيزة السابق، ثم توقف عن تلك الجملة –فجأة- بمجرد دخول ذلك المحافظ إلي السجن، فلما سألته:» لماذا لا تواصل كشفك للأوراق التي بنيت عليها حملتك ضده ؟» أجابني:» هذه ليست فروسية .. لقد هاجمته حتي سقط، ولكنني لن أواصل ضد شخص مقيد الحرية». المهم عاش الفلاح إبراهيم نافع مائة يوم من العزلة في شقة السعدني لا يتحرك إلا من علي طرف الكنبة اليمين إلي حدها الشمال، ويشترك في إعداد الطاجن لجحافل الحواريين والمريدين الذين سيتجمعوا حوله عندما تصبح الدنيا ليلاً والنجوم طالعة تنورها! وكنت إعتدت أن أهاتف الأستاذ محمود السعدني في بواكير صباح كل يوم قبل نزولي إلي العمل، فأروي له كل ما أتابعه في لندن أو القاهرة، وأستمع إلي بعض تعليقاته وأستفطر حكمته وآراءه ودروسه المعلمات. وذات مرة لم يك صوت السعدني هو الذي رد علي مكالمتي، وإنما صوت آخر هامس مبحوح، وتبنيت بعد لحظات أن المتحدث هو الحاج إبراهيم نافع الذي راح يخبرني بأن السعدني مازال نائماً، فلما سألته أين ذهبت في لندن، وماذا شاهدت أجابني: (لم أر سوي الكنبة) فقلت له: (لا عليك يا عم إبراهيم ربما كان الأستاذ محمود مشغولاً، وإذا أردت سوف أمر عليك بعد ظهر اليوم وأصحبك في جولة نلف فيها علي كل لندن حتي ترضي). وإستقبل إبراهيم نافع دعوتي بتهلل واضح، وحين مررت عليه –بعد الظهر- بالسيارة، نزل من علي درج البناية إلي ناحيتي وخطواته تسبق ظله من فرط سعادته بالخروج، حتي أنني وصفت هذه الواقعة بعد ذلك في سياقات أخري بأنها: (عملية تحرير سجين ستيوارت تاور)! ورحنا نجتاح المدينة أنا وعم إبراهيم نافع، الذي أخبرني أنه كلما طلب من السعدني أن يفسحه، كان يسأله بإستنكار شديد:» نخرج نعمل إيه؟!» المهم .. مضيت بإبراهيم من شيلسي هاربر (الذي كان ميناء للخشب والبصل يقع في إنعطافه من كينجز رود ثم جري تطويره أيام ثاتشر وصار من أغلي مناطق لندن التي يسكنها –بالذات- الفنانون والإعلاميون) كما رحنا نجوس في بيكاديللي وكوفنت جاردن، وأخيراً لندن تاور وكاترين دوكس. وفي العاشرة مساء راحت السكرة وجاءت الفكرة، وقررنا العودة مسرعين إلي شقة الأستاذ محمود حتي لا يغضب من أننا تركناه وحده، إذ كان السعدني لا يقبل أن يعيش دقيقة واحدة من دون أن يكون الناس حوله يكلمهم، ويسخر منهم ومن نفسه، ويدير حيوات بعضهم ممارساً ما أسميته: ديكتاتورية المحبة. ورجعنا إلي السعدني فإستقبلنا بسؤاله المرعب: (إنتو جيتو) ؟!. وبدا إبراهيم نافع مرتبكاً كما أصبحت أمام ضرورة تقديم تبرير لإقدامي علي تحرير سجين ستيوارت تاور، وتشجيعة علي أفكار هدامة مثل (الخروج) وترك الكنبة. فقلت: (والله يا أستاذ محمود .. كانت خروجة سخيفة زي بعضها وحتي عم إبراهيم ما إنبسطش من حكاية الخروج دي أبداً) .. وأرتاح السعدني لتراجعنا أمامه –ولو علي مستوي رمزي- ولكن الحكاية ظلت تطفو علي سطح مشاعره من آن لآخر فيخاطب الحاج إبراهيم لواماً قائلاً: (خرجت يا خويا وإتفسحت مع الدكتور عمرو) فيطرق إبراهيم نافع متظاهراً بالندم والخجل كونه رجلاً كبيراً في السن، وعمدة قد الدنيا، ومع ذلك وقع في خطيئة الخروج وهاويته كأي شاب صغير نزق غير مسئول. هذه الرواية توثق حقيقة أن محمود السعدني هو مؤسس (حزب الكنبة) تاريخياً، لا بل أنه حين قدم برنامجاً تليفزيونياً بديعاً بعنوان: (إحنا الشعب) وهو في تقديري أول عمل إعلامي يؤسس للتفاعلية بين الناس ومقدمي البرامج، ويعرض مشاكل الجمهور وشكاويه وردود المسئولين كان يجلس طوال الوقت علي كنبة، وربما –للتجديد- يسند أحياناً ذقنه علي ظهر يده الممسكة بعصاه الشهيرة. لا بل ويبدو أن للموضوع رافدا عائليا إذ أن الفنان الكبير صلاح السعدني شقيقه تعود –مؤخراً- تجاهل فروض وإلزامات الميزانسين أو الحركة داخل المشهد، وإخترع نسقاً في التمثيل علي القاعد، وشاع في الوسط الفني بوصفه (أداء الكنبة)، وهو ما لا يصلح إلا لصلاح السعدني الذي تتغلب مواهبه الخارقة وعبقرية أدائه علي ضرورات الإكثار من الحركة، والتي –عموماً- تناقض شكل الحياة الحقيقية في مصر التي تجري وقائعها –في معظمها- علي القاعد كذلك! وربما أفلت صديقي الكاتب الصحفي الجميل أكرم السعدني ابن الأستاذ محمود من مسألة الإرتباط بالكنبة، وإن لاحظت –مؤخراً- إختفاءه لفترات طويلة يقضيها بمنزله ويرجح نزوعه فيها للجلوس علي الكنبة أو علي الأقل التدريب عليه، إذ أنها (مسألة جينات) في نهاية المطاف. .................................. في لندن –كذلك- عاصرت واقعة تاريخية بمعني الكلمة كان السعدني بطلها الذي لا يباري. إذ جاء عمرو موسي (وزير الخارجيةوقتها) إلي لندن عام 1998، وإلتقي رجال (الفورين أوفيس) وعلي رأسهم وزير الخارجية روبين كوك، كما ألقي محاضرة عن الشرق الأوسط وتعرض له بعدها أحد المتطرفين المصريين ودفعة بقوة في ظهره وهو يهم بدخوله سيارته، فيما راح الشرطيون الإنجليز والحرس المصريون يتحركون بعصبية مشكلين جداراً بشرياً يفصل بين الرجلين. وفي الليلة التالية من هذه الزيارة رتب لنا الدكتور أشرف مروان (نسيب عمرو موسي) عشاء في مطعم إيطالي علي مرمي حجر من منزله الذي قضي فيه علي نحو ملتبس. ودعاني الدكتور أشرف مع محمود السعدني إلي ذلك العشاء الرباعي الذي أقيم علي شرف وزير الخارجية المصري. وإندمج محمود السعدني في حديثه الممتع والساخر طارحاً عشرات الموضوعات علي نحو يوصف بلاغياً بأنه (يميت القلب من الضحك) أو (يجعل المرء يضحك حتي يستلقي علي قفاه). ووصل السعدني في حديثه إلي نقطة الكلام عن أحد وزراء خارجية مصر السابقين وكان لا يحبه، فغالي وأوغل في سبابه وإطلاق نعوت وألفاظ مروعة عليه فيما دخل أحد معاوني عمرو موسي –وقتها- وكان قريباً من الدرجة الأولي لذلك الوزير القديم، وقد جاء مع عمرو موسي إلي لندن لإلقاء محاضرة عن نزع السلاح في روسي / Russi (المعهد الملكي المتحد للدراسات الإستراتيجية) المتخصص في شئون الدفاع. ولما كان محمود السعدني لا يعرف مساعد عمرو موسي ولا درجة قرابته للوزير الأسبق، فقد إستمر يغرد في سيمفونية هجومه علي ذلك الوزير مشارفاً ذري لا يتوقعها أحد. وللحقيقة فقد صمد مساعد الوزير، بأعصاب فولاذية ووجه جليدي لم يظهر عليه أي إنفعال (وبالمناسبة فقد إحتل بعد ذلك منصباً مرموقاً في وزارة الخارجية). ولما همس المساعد في أذن عمرو موسي بما كان يرغب في إخباره به، أشار إليه الوزير بالإنصراف فمضي .. وما أن خرج من المطعم حتي إنفجرنا –جميعاً- في الضحك بعد أن كادت وجوهنا تكتسي زرقة غامقة من فرط كتمان رغباتنا العارمة في الضحك الجنوني علي ذلك الموقف العجيب جداً، الذي لا يمكن تكراره. ولما سألنا السعدني: (علام تضحكون؟) وأخبرناه، إنخرط في الضحك من فرط الخجل، وظل يتمتم: (يا نهار أزرق)، وكلما نجحنا في عبور تأثير ذلك الموقف وإنتقلنا إلي ملف آخر، كان أحدنا، يستعيد جملته –التي أصبحت تاريخية- (يا نهار أزرق) بينما نصرخ بالضحك ويتمني أي منا أن يقطع رأسه ويلقيها من الشباك، أو يدخل تحت السجادة من فرط الكسوف، وتمنيت –أنا- التعلق بالنجفة حتي أختفي من الموقف الذي شهد تلك الواقعة من الأصل والأساس! ..................................... ولم تتوقف حكايات السعدني لي عن عدد كبير من المجلات والجرائد التي عمل بها عبر تاريخه المديد، ولكن (صباح الخير) بالذات شهدت قسماً من الذكريات إذ إلتأمت في تلك المجلة كوكبة بديعة من كبار كتاب ورسامي ومثقفي البلد. وصار ما يقدم في (صباح الخير) هو نموذج المجلة (بالألف واللام) حتى أن هيكل حين قرر عمل مجلة تصدر عن «الأهرام» حاول الاستعانة بمحمود السعدني وصلاح جاهين من «صباح الخير» في إصدار تلك المجلة التي كان اسمها المؤقت (أبو الهول) وهو الاسم الذي أوسعه السعدني سخرية. لم يك في «الأهرام» –وقتها- من يمكن تسميتهم خبراء (صناعة المجلة) حتى مع وجود الصلاحات الثلاثة الذين اصطحبهم أو جاء بهم هيكل من آخر ساعة وكان رئيساً لتحريرها حتى عام 1957 قبل أن يأتي إلي الأهرام –(وأعني بهم الأساتذة صلاح هلال وصلاح هلال وصلاح منتصر)، إذ أن هيكل اعتمد علي الصلاحات الثلاثة في الجريدة ولم يك في مقدوره الاستغناء عنهم لصالح مشروع المجلة الذي لم يكتمل. وبمناسبة هيكل رتبت عام 1998 غذاء جمعنا والأستاذ محمود السعدني في مطعم إيطالي اسمه (توتوز) ويقع خلف متجر هارودز في «نايتسبريدج»، وهو مطعم مهم أعتبره من المطاعم الإيطالية الأربعة الزعيمة التي تقع جميعها داخل ميل مربع بنفس الحي: (سان لورينزو) و(سكاليني) و(مونتبليانو) وأخيراً (توتوز) .. والأخير يحتوي حوالي 15 منضدة فقط وتميزه نجفة أثرية عظيمة وقد طبعت إدارة المطعم صورتها علي غلاف قائمة الطعام احتفالا بأهميتها وقيمتها. وفي هذا الغذاء تبادل محمود السعدني ومحمد حسنين هيكل دعابات من كل لون، إلي أن حدث ما أكد ظنوني التي لطالما راودتني، إذ دائماً ما نظرت إلي أن الوجيعة الشخصية والنفسية التي سببها هيكل لما سمي: (مجموعة 15 مايو) لا يمكن أن تزول، وبالطبع يزوره بعضهم ويلتقون ويتعاملون بمودة إلي أن يتذكر أحدهم اتفاقه مع السادات ضدهم وربما تحريضه عليهم في تلك الواقعة الفارقة التي ألقت ببعض من أفضل رجال عبد الناصر إلي غياهب السجون وحينها يسقط الجميع في بئر مرارة عكر ومظلم. وعند نقطة معينة في الحوار تتعلق بأحداث مايو 1971 وبترتيب بعض الوقائع ومدي دقتها، اعترض محمود السعدني علي كلام هيكل وسخر منه علي نحو تكهرب فيه الجو، وبدت علي هيكل الرغبة في الانصراف وأخذ يدفع حذائي بحذائه تحت المنضدة لينبهني إلي ضرورة إنهاء الموقف، فيما استغربت من رد فعل الرجل العجوز (كان وقتها في السادسة والسبعين) إذ بدا لي وكأنه لا يقبل من أحد تصحيحاً، ولا يستمع إلي ملامة وتثريب حتى من الذين تسبب لهم في الحبس وراء القضبان. المهم أن السعدني عاد إلي القاهرة فكتب عن موضوع الخلاف مهاجماً هيكل في مقال بالمصور أفضل أن يعود إليه من يريد، لأنني أحكي هذه الحكاية لسبب آخر، وهو أن هيكل اتصل بي هاتفياً وكنت وقتها رجعت إلي القاهرة في أجازتي السنوية وسألني إذا كنت قرأت مقال السعدني، ورددت بالإيجاب، فإذا به يقول: (وهل أوحيت له بذلك؟)، ولأنني لا أحب أن يضعني أحد في موقف الدفاع عن النفس، فقد أنهيت ذلك الحوار بطريقة حازمة وباترة، حين قلت لهيكل: إن السعدني لا يكتب بتحريض من أحد أياً كان، وأنا لا أقبل ممارسة مثل تلك الأدوار حتي إن كنت أقدر .. ولم أفهم أبداً تبرير الرجل:» أصلكوا إنتو الإتنين Cynical .. Cynical ساخرين علي الآخر» .. وهو ما أتبعه بضحكة واسعة !! ............................... ولا أظن أن الخلاف السياسي –فقط- هو الذي كان يفصل بين السعدني وهيكل وإنما كانت الهوة بين المزاج المهني لمدرسة روزاليوسف ومدرسة الأهرام التي قام هيكل بتصنيعها بعد إنسلاخه عن مدرسة أخبار اليوم. وعلي كل حال فقد لاحظت علي كل أبناء روزاليوسف الكبار، مواقفهم غير الودية من الأستاذ هيكل وبمناسبة الحديث عن ذلك الاختلاف المزاجي أتذكر إن بهجت عثمان رسام الكاريكاتير الشهير بروزاليوسف ودار الهلال جاء إلي لندن في محاولة متأخرة لإنقاذ بعض إبصاره الذي تضرر كثيراً تحت وطأة إصابته بمرض السكري .. وأهداني بهجت عثمان –فور وصوله- شريطاً صوتياً من مجموعته النادرة، للشيخ إمام عيسي يغني من الحانة وكلمات أحمد فؤاد نجم: (بصراحة يا أستاذ ميكي .. إنك رجعي وأمريكي) وهي الأغنية التي هاجم فيها ذلك الثنائي اليساري الأستاذ هيكل علي نحو عنيف! وقد اصطحب بهجت عثمان معه في زيارته عدداً من أعماله للرسم علي الكليم وعنونها: (أندلسيات) إذ استلهمت جو الأندلس وراقصاته وجواريه وملوكه،وكلمات أشعار ذلك الزمان في تكوينات بديعة، وطلبت من الفنان المصري المبدع بهجت أن أقيم معرضاً لأكلمته تلك في دار الأهرام (AL Ahram – House) وهي المبني الذي كنت إشتريته لمكتب جريدتنا في الهلال المجاور لمحطة قطار كينجز كروس بالقرب من ماريلبون ومتحف مدام تيسو. ووافق بهجت بفرحة وتقدير، مقرراً أن جميع اللوحات للبيع ما عدا إثنتين إهدي أولاهما إلي سعاد حسني التي كانت وصلت لندن وقتها في إقامتها الأخيرة، وثانيتهما لي شخصياً، وفي الكليم البديع (الذي مازلت أحتفظ به)كتب الرسام تحت رسمه لجاريتين ترقصان: (ياليل الصب متي غده .. أقيام الساعة موعده). وحين أعددنا المعرض للإفتتاح في قاعة مبني الأهرام، طلبت من السفير المصري أن يقوم بإفتتاحه ولكنه تأخر علي الموعد فيما تكأكأ زوار القاعة علي نحو شديد الإزدحام وكان بينهم الأستاذ محمود السعدني الذي طلبت منه –إنقاذاً للموقف- أن يفتح معرض رفيقه القديم في (صباح الخير) بهجت عثمان فقبل السعدني –كريماً- وإفتتح المعرض، وبعد عشر دقائق وقعنا في حرج آخر حين وصل السفير، فإقترحت مساعدتي أن نضع الشريط مرة أخري ليقصه السفير! وقد فعلنا ثم عالجنا الموقف حين النشر بصورة السفير يقص الشريط مذيلة بتعليق: (الإفتتاح الرسمي) وصورة للسعدني يقص الشريط وتحتها تعليق: (الإفتتاح الشعبي)!! .............................. وعلي إمتداد علاقتي بالأستاذ محمود السعدني أجريت معه عدداً كبيراً من الحوارات المنشورة، أقتطع منها هنا هذه الشذرات: «أي أزمة لها مسببات لخصها عمنا –خالد الذكر- جورج برناردشو قائلاً: إنها مثل شعري غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع، فهكذا كان حال رأسه كثيفة الشعر في الفودين بينما لا توجد شعرة واحدة أعلاها .. الأزمة جاءت لأن شريحة من المجتمع المصري (هبرت) مصر، وهذه الشريحة –للأسف الشديد أيضاً- ليس فيها أحد من الذين خدموا مصر .. ليت الذي هبر يكون واحداً من هؤلاء الذين خدموا مصر، فالشعب المصري كله ليس عنده مانع أن يكون الذين فعلوا هذا هم المقاتلون الذين عبروا يوم 6 أكتوبر، إذ أن ذلك كان سيصبح من حقهم، لكننا نري أولئك الذين فقدوا أجزاء من أجسادهم في سبيل الوطن يطلبون أشياء متواضعة للغاية عبر التليفزيون وأبواب بريد القراء في الصحف .. أي منطق هذا الذي يقول أن من فقد بعضه من أجلنا يتسول دراجة بخارية بينما توفيق عبد الحي في الخارج ومعه 30 مليون دولار من أموال الشعب المصري، لقد رفضت محكمة أثينا أن تسلمنا توفيق عبد الحي لأنه خرج من مطار القاهرة كرئيس لبعثة رسمية مصرية اسمها (التايكوندو) وبالمناسبة أنا –حتي الآن- لا أعرف ما هو التايكوندو فهل يعني النشل مثلاً؟ .. الله أعلم!» وحين سألته عن الفارق بين رؤي رجال الأعمال والمثقفين للأزمة الإقتصادية قال:» رجل الأعمال هذا يبدو كفرقة جيش تقاتل، فالمقاتل عنده هدف لابد أن يصل إليه ولو إضطر لأن يدمر كل شئ في طريقه .. فلو كان أمامه (تبة) ويريد الوصول إليها، حاول ذلك بالإلتفاف عليها، أو حصارها أو السقوط فوقها من الجو، أو بالوصول إليها عبر نفق يخترق باطن الأرض، مدمراً كل شئ في طريقه .. هذا إعمال لعقل الحرب وهو ليس من حق رجل الأعمال، فرجل الأعمال يشتغل في مجتمع مع بشر ليسوا مدججين بالسلاح .. إنهم شعب، وشعب طيب أيضاً .. فلسفة الحرب أن تدمر عدوك، ولكن إذا إستخدمت فلسفة وعقل الحرب في تحقيق المكسب الإقتصادي فأنت تقتل شعبك وأهلك وناسك وبلدك .. المجتمع الرأسمالي ينبغي أن يحترم القانون ويحافظ عليه ولكي يستمر يجب ألا يتجاوز رأسمالي حدوده وإلا يكون قد أفسد خطط اللعب وقوانين اللعبة نفسها .. ياليتنا كنا نجتمعاً رأسمالياً ياليتنا كنا مجتمعاً إشتراكياً وياليتنا كنا مجتمعاً من الأصل والأساس». وأضاف:» لم تستبح البنوك في أي مكان –منذ بدء الخليقة- كما أستبيحت في مصر، ولقد ذهبت عام 1983 لأسهر عند بعض الناس، وتعشينا في عزبتهم التي أعتقد أنهم هبروها بلوشي، وبعد العشاء ذهبت لأغسل يدي في حوض حجمه 2×3 متراً، وفؤجئت بأحدهم يصرخ: لا تضع الصابونة عند الحوض وإلا قتلت السمك .. وفغرت فمي مندهشاً وسألته: أين هذا السمك؟ فأجابني –باعتزاز- : هذه مزرعة سمكية أخذت عليها قرضاً من البنك، ونظرت إلي المزرعة السمكية فلم أجد سوي قرموطين يسبحان في الحوض ويرجح أن صاحب العزبة أتي بهما من الترعة القريبة وألقاهما في الحوض لحين الحصول علي القرض ثم يرميهما بعد انتهاء وظيفتهما .. النصابون من رجال الأعمال عاملوا مصر بأقسي مما عاملها به المستعمر الأجنبي .. لقد طبقوا ما يعرف باسم النظرية الهبراوية التي يستهدف فيها رجل الأعمال أن (يهبر) ثم (يهرب)!! .. أما المثقفون فهم أحد أسباب الأزمة في مصر، مشاكلهم محلولة ومن لا يكتب منهم بحثاً لجهة خارجية، يكتبه لجهة داخلية ويتحركون ويتحركون في مناطق خفية يعرفونها جيداً، وأعرفها –أنا- أيضاً ..تشابكت الأمور في البلد بسبب النظريات المسطورة علي الورق وليس الحقائق النابضة بالحياة في قلب الشارع المصري .. وعندما أقرأ مقالاً بقلم شخص يدعي مثلاً (الداكتور) سعفان أبو النصر ولا أفهم منه حرفاً واحداً، فإن ذلك يعني أنه غير فاهم، ولو كان فاهماً لفهمني .. المواطن لا يريد خطباً وكلاماً وتحليلات إستراتيجية، ولكنه يريد أن تكفي النقود التي يحصل عليها لأن تكفل له الستر بأبسط معانية». ولما سألته أي الأحزاب الحالية أقرب إلي فكرة هل الليبرالية أو الشيوعية أو الناصرية أجاب:» الموجود من أحزاب وتشكيلات ناصرية هو مجرد جيوب ناصرية وهي لا تمثل التيار الناصري أو النهر الناصري .. عبد الناصر كان أعرض وأعظم وأطول قامة من كل الجيوب الناصرية .. وأن يدعي أي هذه الجيوب أنه يمثل عبد الناصر فهذا تقزيم وإختصار للظاهرة الوطنية التي يمثلها ناصر، وهو أشبه بأن تضع علي المسرح عبد السلام محمد ليمثل دور يوسف وهبي «!! ............................ وفي حوارات أخري مع السعدني قال لي :» إن أحد مشاكل المصريين اليوم أنهم انقسموا إلي ستين مليون مصري، وكل واحد فيهم بات شعباً بأسره، وقد أصبحت تلك الفردية هي السبب الأساسي وراء خصوماتهم لأن المصالح الفردية تتصادم، والمصالح القومية تؤدي إلي الالتئام .. وفي مثل المناخات التي نعيش فيها تتواضع الاهتمامات العامة جداً، ولقد تدحرجت أشياء كثيرة في مصر، فلو نظرت للحياة الثقافية زمان ستجد أنها كانت مليئة بندوات لكامل الشناوي وطه حسين وعباس العقاد وأحمد بهاء الدين ومحمد زكي عبد القادر ولويس عوض وأمين يوسف غراب، وتجد النقاش يدور حول رواية جديدة لنجيب محفوظ أو مقال مهم لمحمد حسنين هيكل .. أما اليوم فستجد الندوات والمحاضرات مشغولة جداً بمناقشة مسلسل (المال والبنون) والأبعاد الخفية لشخصية فوزية فراويللا !! من هي فراويللا هذه؟! ، هي مدام بوفاري مثلاً؟! ، أهذا عمل يناقش في نقابة المحامين أو في محاضرة بكلية الآداب .. هذا –بالكثير- عمل يناقش في الساحة الشعبية بزينهم أو في قهوة بالجيزة .. اليوم أنت تقرأ أخباراً عجباً يقول أحدها –مثلاً- عقد المنتدي الثقافي الفكري بنقابة كذا ندوة كبري لمناقشة مسلسل كذا أو كيت وحضر اللقاء سعد برعي الذي قام بدوره عبده السحت .. ثم تندمج مصر كلها في مناقشة المدلول الرمزي لشخصية عبده السحت .. هل هذا كلام ؟!» وقال أيضاً:» أشياء كثيرة فقدت قواعدها التي تعارف عليها الناس علي مر الزمان .. وبالمناسبة –يا دكتور عمرو- لماذا تشتغل بالصحافة؟ .. لماذا لا تغني؟!» وأجبت:» ربما لأن أحداً لم يكتشفني بعد»، فعاد يصر علي اقتراحه قائلاً:» لا المسألة –الآن- لا تحتاج إلي اكتشاف، أنت –فقط- تطلع علي الناس وتقول : يا عين يا زين وتقبض فلوس كثيرة، وتذهب إلي دبي، وتعبئ شريطاً وتعيش حياتك في انبساط شديد .. الذين يغنون ليسوا أحسن منك، وصوتهم ليس أحلي من صوتك، وعليه الطلاق إذا لم تغن أنت فسوف أغني أنا .. إذ أفكر جدياً في احتراف الغناء» وسألت الأستاذ السعدني:» وما هو - يا تري مطلع الأغنية الذي سوف تشدو به مفتتحاً احترافك الوشيك للغناء؟» .. وقال فوراً:» كوز المحبة إتخرم». وعن الجيزة معشوقة السعدني قال لي: «اختفت الخضرة في الجيزة تحت وطأة قلاع الأسمنت، وأنشئت قلاعا ليس لها مثيل في الكون، فمثلاً بدا شارع فيصل –وهو أحدث شارع في مصر- وكأنه أنشئ أيام الفاطميين، فعرضه عشرين متراً، وأصبح كمزراب ضيق يعبره الخلق والسيارات وعربات الكارو بشق الأنفس، وبعد أن تبلغ القلوب الحناجر .. واختفي من الجيزة صنف من الرجال الجدعان كانوا كأشجار الجميز التي تذهب إليها فتستريح في ظلالها الوارفة وتشعر بالاطمئنان .. اختفت المقاهي التي كانت الحياة الاجتماعية تدور فيها وحولها .. وعندما أري ميدان الجيزة في شكله الجديد أصاب بهم حقيقي .. علي أية حال نحن –الآن- عواجيز، وربما أي جديد لا يكون مقبولا لأمثالنا، وربما كان الجيل الجديد فرحاناً بهذه الأشياء الجديدة، ولكنني توقفت –نتيجة كل ذلك- عن الخروج، ولا أبارح بيتي .. وحتى مقالاتي يرسلون لي لستلمها فأين أذهب؟ .. حقيقة أين أذهب ؟!» ............................... صدي صوت السعدني منذ ستة وعشرين عاماً مازال يتردد في أذني .. أين أذهب؟» عاكساً حيرة وصدمة هذا المبدع الكبير أمام الحالة المصرية في واحد ليس من أجمل سياقاتها.