بالأمس (4 مايو) مر عام علي رحيل الفيلسوف الساخر محمود السعدني أحد أوضح التعبيرات عن الشخصية المصرية في زمن شديد التعقيد (82 فبراير 8291 4 مايو 0102). عاش الرجل في سياق تاريخي شائك مفعم بالتفاصيل، مكافحا ضد الاستعمار،وثائرا علي الاستبداد والفساد، ومرتبطا بمشروع النهضة المصري والعربي، ومعتقلا في السجون، ومطاردا في المنافي، وخابرا الاحساس المتواصل بالمداهمة، وشاهدا علي الهزيمة والانكسار وخصخصة الوطن لصالح حكم رجال الاعمال وجرائدهم وقنواتهم التي نذرت جل طاقتها لسنادة مشروع التوريث. كان في كثير أحيان تعبيرا عن التمرد والرغبة في التغيير، وفي كثيرها الآخر تعبيرا عن العجز في مواجهة بطش القوة، والذي تجلي في وثائق تسخر مما يعجز عن مواجهته، أو هي حالة كما يصفها فولتير يلهو فيها أصحاب العقول الكبيرة بقيودهم. حائط الصد الأخير الذي يمكن ان يتسلح به المرء في مواجهة القهر هو السخرية، وكان الاستاذ محمود السعدني سلاح المصريين الساخر الماضي لدرء غائلة القهر عبر عهود وعقود، لما عجزوا عن المواجهة، أو تواضعت قدراتهم عن الاشتباك. حين تتأمل بعض تفاصيل أهوال ما مر به السعدني من خلال وثائقه الأدبية ذائعة الصيت (الولد الشقي في السجن) و (الولد الشقي في المنفي) و (الطريق الي زمش) تعرف كم كان ذلك الرجل خطيرا جدا، وقادرا علي استيلاد كل تلك السخرية من قلب مأساة متصلة، قررت فيها الانظمة العربية بأكملها ان تحيل الظلال الداكنة لاخفاقها المتواصل امام العدو وطراوتها واعراضها عن مواجهته، ليلا من البطش يرخي سدوله علي الشعوب.. وبمرافقة القهر كانت رحلة السعدني وسخريته شبيهة الوخز التي قام بتصنيعها من مفردات واقع مرير. ولم تك تلك الكتب الثلاثة التي اشرت اليها هي وحدها التعبير الاكثر وضوحا عن ظاهرة الأستاذ محمود السعدني في السخرية السياسية، وإنما كانت نصوصه الأخري علي هامش السياسة، أو حتي بعيدا عنها تحفل بمشاهد حياة عجيبة مكتظة بالاحداث ومتقلبة، عاشها الرجل بين ظهراني الصحافة، وساحات الفنون وقصور الحكم والسلطنة، وشوارع الغربة، وبرودة الزنازين. كانت السياسة أرضية أو خلفية لكل سطر خطه السعدني في المصري، والكشكول، والجمهور المصري، وروزاليوسف، وصباح الخير، والمصور، واخبار اليوم، والفجر الخليجية، و32 يوليو، وكانت السياسة هاجسا يتلبس أوراق (مسافر علي الرصيف) و(السعلوكي في بلاد الأفريكي) و(الموكوس في بلاد الفلوس) و(وداعا للطواجن) و (رحلات إبن عطوطة) و (مصر من تاني) و(أمريكا ياويكا) و(قهوة كتكوت). أمسكت أيام السعدني بتلابيبه وقبض علي تلابيبها، وكانت تجربته الصعبة والعميقة نتاج ذلك الاشتباك المروع والمتصل، الذي فجر في روحه ينابيع من الضحك والقدرة الاعجازية علي السخرية من كل شيء، ولتصبح تلك السخرية، ما يسمي في علم النفس آلية الدفاع الذاتي عنه وعنا!! ولقد توطدت علاقتي بالاستاذ محمود السعدني بين القاهرةولندن لسنوات طويلة، واتاحت لي فرصا للتعرف علي جوانب من طريقة تفكير وتعبير ذلك الكاتب الفلتة وثيق الارتباط ببسطاء الناس في كتلتهم المكتظة التي تدب علي الارض. كنت أري بيت السعدني في (ستيوارت تاور) بلندن، أو مجلسه في نادي الصحفيين الذي أسسه وأدارة علي نيل الجيزة ملآنا برموز سياسية وفنية كبري مثل عمرو موسي، ومحمد حسنين هيكل واسامة الباز ومصطفي الفقي وكمال الجنزوري وحسب الله الكفراوي وحسن ابوباشا وعادل امام ولبني عبدالعزيز وأحمد جويلي ومحمد هنيدي واحمد السقا وخالد النبوي وحسين كامل بهاء الدين وسعيد صالح. ولكنني ايضا كنت أراه يجالس ألوانا أخري من ابسط البسطاء منهم الصنايعي والسباك، ونقاش الجداريات، ولا أعرف لماذا تخيل الاستاذ محمود أنني أنف لا احب خلطة اولئك أجمعين، فكان دائما يردد هامسا في اذني: (إوع تقرف من الناس) وكنت علي الفور أجيب: (من أين تصورت ذلك يا أستاذ محمود انا فلاح ابن فلاح ومن المنوفية مثلك). وضمن أجمل الشخصيات التي كان للاستاذ السعدني فضل تعريفي بها، الفلاح الرائع ابراهيم نافع ابن عمدة احدي قري الجيزة، وهو الذي قام بحرق وثائق التنظيم السياسي (الاتحاد الاشتراكي العربي) في حفرة بأرضه وقت صراع 51 مايو 1791، حين كان الاستاذ محمود السعدني نائب رئيس التنظيم الطليعي. وذات مرة دعا السعدني صديقه ابراهيم نافع لزيارة لندن، فجاء الرجل بجلبابه الصوفي القشيب وشاله الفاخر علي الكتف، حالما برحلة مفعمة بالخروج والفسح، ولكنه فوجيء بالسعدني يجلس في شقته حيث تفد اليه الجالية العربية بلندن عن بكرة أبيها كل ليلة، لتجالسه وتستمع الي حكيه الخلاب المبهر، فيما هو يتكيء علي عصاه واضعا إحدي راحتية فوق الاخري، ثم ساندا ذقنه علي راحته العليا.. وفي النهار يقعد السعدني علي كرسيه ثانيا ساقه تحت جلسته ليكتب مقال المصور (لوجه الله) وهو وضع أشبه بنصف ما تظهر عليه تماثيل الكاتب المصري. وعادة ما كان يكلف الحاج ابراهيم باعداد الطاجن من اجل الجحافل التي ستملأ جنبات المكان في المساء، وكنت دائما أهاتف الاستاذ محمود حين أدنو من عمارته في (إدجوار رود) سائلا عن أوضاع الطاجن، فيجيبني في خطورة هامسة »كله تمام«. نهايته.. ساءلت ابراهيم نافع في احدي أمسيات الطاجن البديعة تلك: (أين ذهبت في لندن ياحاج ابراهيم؟) فأجابني من فوره: (ذهبت الي الكنبة!)، فلما لاحظ دهشتي أوضح ان السعدني لم يخرج طوال الاسبوع، ومن ثم لم يخرج هو، وظل أسير الكنبة وقعيدها. كان مشهد الرجل يصعب علي الكافر، بجسمه الضخم وجلباب العمدة الفخيم الذي يرتديه ثم بحاجبيه اللذين عقدهما علي شكل رقم (8) من فرط تأثره وكمده. وتقدمت الي الاستاذ محمود راجيا ان يسمح لي بانتزاع الحاج ابراهيم من علي الكنبة، واصطحابه في اليوم التالي الي جولة لندنية، فوافق علي مضض متسائلا في احتجاج: (يعني ح تروحوا فين؟!). المهم صحبت الحاج ابراهيم رحمة الله عليه الي »شيسلي هاربور« و»الهايد بارك« و»نايتسبريدج« فكان كالطفل الفرح المتقلب علي أرض براح. ولما عدنا.. استقبلنا الاستاذ محمود وكأننا أتينا عملة نكراء، وامضي الحاج ابراهيم بقية ايام زيارته جالسا علي الكنبة، فيما الاستاذ محمود يذكره مؤنبا: (إنت مش خرجت مع الدكتور.. عايز تروح فين تاني؟!.. يا للا بينا نعمل الطاجن). كان إحساس السعدني الشعبي هو بوصلته التي تقوده الي تقييم الناس والأفكار، وهو الذي يحدد مواقفه بحسم من كل تطور حدثي يشهده، وتلك مسألة أراها أساسية في تكوين السياسي والكاتب. صاغت فطرة السعدني الشعبية وعيه علي نحو ندر أن يخطيء، وأذكر في احدي المرات القليلة التي التقي فيها مسئولا سابقا بعينه ان قال لنا بحسم: (دانتوح تشوفوا أيام سودة).. ورأيناها بالفعل. الاستاذ محمود السعدني.. عليك رحمة الله