ليست المشكلة الجوهرية فى مذبحة شارلى إبدو أن تنظيما ما أمر خلاياه النائمة بارتكابها باسم الإسلام ودفاعا عن نبى الإسلام. المشكلة هى فى تصوُّر كامل روَّجت له الصحوة الإسلامية عبر عقود، يستطيع أن يفرز فى أوقات مختلفة عنفا لا يحد منه سوى القدرات المتاحة له، وفى أن هذا التصور له جذور (مُعاد تأويلها) فى التراث المكتوب الطويل للإسلام السُنِّي. إخفاء الرأس فى التراب وادعاء أن الحركات الإسلامية العنيفة «مدسوسة» على الإسلام، وأنها بالتالى لا تؤمن حقا بأن ما تفعله هو «صحيح الإسلام»، خداع للذات. ولن تُفلِح كل أكاذيب نظريات المؤامرة فى إخفاء الرابطة العميقة بين هذه الأفعال والإسلام السُنِّى المعاصر والتاريخى إلا عن الأعين التى ترفض عمدا أن ترى الواقع الذى يقول إن هذه القوى منغرسة تماما فى التفسير السُنِّى الموروث للإسلام ومدارسه، بل لا تكاد تعرف تراثا غيره. أحكام السبى والاستعباد وفرض الجزية وقهر النساء وقتل الأسرى فى ظروف بعينها، وقتل من يهجون النبى وغير ذلك، موجودة فى الفقه الموروث بلا جدال. أى إصلاح دينى يجب أن يتعامل إذن مع هذه الحقيقة، بأن يدخل فى حوار جدى مع هذا التراث، بغرض تجاوزه. لن يفلح الاكتفاء بترديد شعارات مضادة، أو حتى إصدار فتاوى مضادة. فالفتاوى المضادة كانت موجودة دائما، وقد تُفلِح أحيانا، لكنها لا تقضى على الفتاوى الجهادية والإرهابية؛ فكل هذه الآراء المتضادة ما هى إلا الشبكة التى تنشأ بالضرورة حول مفهوم «صحيح الإسلام»، الذى يقول إن ثمة تفسيراً فقهياً صحيحاً واحداً للإسلام صالحاً لكل زمان ومكان، وأنتج بطبيعته ذاتها الحروب الفقهية بين مختلف الفرق التى تهدف إلى احتكار الكلام باسم هذا الإسلام الصحيح الواحد. النقطة الأولى التى يجب أن تثار فى شأن هذا الحوار المقترح هى طبيعة هذا التراث التاريخية. هذا التراث إمبراطورى أولا وقبل كل شيء. فبعد عقود قليلة من ظهور الإسلام تشكلت إمبراطورية ضخمة، توسعت فى خلال بضعة عقود تالية لتمتد من باكستان شرقا إلى أسبانيا غربا. فى هذه الإمبراطورية لم يكن المسلمون الفاتحون، حتى لو ألحقنا بهم من أسلموا، سوى أقلية، لكنها حاكمة. بعبارة أخري، أصبحت هذه الإمبراطورية إسلامية، ليس لأنها تضم أغلبية معتبرة مسلمة، تُعتَبر السلطة القائمة معبِّرة عنها، بل لأن حكامها مسلمون (أيا كانت درجة التزامهم، من عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن معاوية). باختصار، لا تكون الدولة إسلامية لأن سكانها مسلمون، بل لأن حكامها كذلك. على هذا النحو بُنى الفقه الإسلامى بوصفه فقه الدولة، فقه الأقلية الحاكمة بحق الفتح. لهذا اعتُبرت الشريعة، بوصفها قانون دولة الفاتحين المركزية، محور الإسلام، لتصبح حوالى 500 آية من القرآن، هى آيات الأحكام، ومعها عدد هائل من الأحاديث، معظمها أحاديث آحاد ظنية الثبوت، أساس بناء قانونى هائل، بل تكاد تكون قد استوعبت العقيدة وألحق ما عداها من آيات بها. والأهم أن هذا البناء القانونى كان يكرِّس بطبيعة الحال هذه الفكرة الإمبراطورية عن الدين، حيث يسود الإسلام لأنه دين السلطة، لا لأنه دين السكان، وتسود الشريعة لأنها شريعة الحكام. وبناء على هذا المنطق، تم وضع أحكام الجزية وبناء المعابد للأديان غير الإسلامية وعقوبة الردة وما إلى ذلك من أدوات هيمنة الأقلية - آنذاك - المسلمة. لا يمكن إدانة هذه العملية فى حد ذاتها، أو وصمها بأنها «غير ديمقراطية» مثلا. فمفهوم الديمقراطية نفسه لم يكن له أساس أو معبرون عنه فى هذا العصر القديم، لأن مفهوم الشعب نفسه لم يكن موجودا إلا كمرحلة عابرة فى تاريخ اليونان القديم. بالعكس، يمكن القول إن هذا الطابع الإمبراطورى المبكر للغاية، السابق على أى دعوة بين سكان البلاد المفتوحة، أدى إلى وضع فقه يسمح بحياة مستقرة لمعظم السكان «الأغيار» فى ظل الإمبراطورية، ويمنحهم بعض الحقوق. فبقدر الحرص على وضع معايير تؤكد الدرجة الأدنى وخضوع غير المسلمين، جرى الحرص أيضا على استمرار حياتهم ونشاطاتهم الاقتصادية وغيرها لأنها مورد ثروة وقوة الإمبراطورية. كان مصير الإسلام والإمبراطورية مصيرا واحدا إذن، وهو ما يفسر أن العقيدة الإمبراطورية بكل ما تنطوى عليه من وسائل إخضاع أو تعايش تجد مكانها فى قلب الفقه الموروث، لأنه تشكَّل فى ظلها. ليس المقصود من ذلك أن الفقهاء المؤسسين العظام قد «حادوا» عن «صحيح» آخر للدين يقول به هذا المقال، بل فقط القول بأن الواقع الإمبراطورى - الذى كان كالبداهة نفسها بالنسبة لهم - لعب دورا محوريا فى تشكُّل هذا الفقه. ليست المشكلة إذن فى هذا الفقه أنه »غير صحيح«، بل فى أنه كان الفقه المتاح تاريخيا فى عصر مضي، لم تعد أسسه قائمة. مع إعادة توظيف تيار الإسلام الأصولى لهذا الفقه الإمبراطورى الآن، فى واقع جديد، أصبح يقوم بأدوار مختلفة جوهريا. فسواء كانت منظماته تمارس الإرهاب أو تكتفى بالدعوة له وتبريره على منابر المساجد أو فى تسجيلات صوتية أو قنوات فضائية، فإنها تبدأ فى الحد الأدنى بالتذكير بأمجاد الإمبراطورية والدعوة إلى إعادة بنائها، وتصاغ أحيانا فى شعارات مخففة نسبيا، من قبيل »أستاذية العالم« التى قال بها الإخوان، أو فى شكلها الداعشى الوحشي. وبذلك أصبح الإسلام الإمبراطورى يلعب دور صانع الاضطرابات فى «العالم» (الذى يقتصر عمليا علينا نحن والغرب)، بوصفه مشروعا إمبراطوريا- مضادا، يهدف إلى تقويض العالم الحديث بالعنف أو بالدعوة، بغير أى مشروع يتجاوز ذلك التدمير، سوى الأحلام الإمبراطورية الغامضة. وأصبح بذلك، خصوصا فى شكله الداعشي، نقطة جذب لعناصر مهمشة كثيرة فى العالم، قد لا تفقه شيئا مذكورا عن الإسلام أو تاريخه، لكنها تسعى إلى البحث عن معنى لحياتها فى مشروع تدميرى واسع النطاق. ولأن الفكرة متجذرة فى الفقه القديم، أصبحت إدانة أحداث مثل مذبحة شارلى إبدو تبدو «خروجا» عن «صحيح الإسلام»، أى عن ذلك الفقه الإمبراطوري. أما «المعتدلون»، فإنهم أدانوه إما لأسباب إجرائية، مثلا لأن مرتكبيه لم يرتكبوه بناء على إذن من «إمام» أو حاكم شرعي، أو، فى أخف الأحوال، أدانوه كتنازل تكتيكى تخوُّفا من عواقب استعداء العالم على الإسلام، وفقا لفقه درء الضرر. تكمن المفارقة أو المغالطة التاريخية فى أن إعادة إنتاج الفقه القديم بهذه الطريقة تجعل ما تحقق تاريخيا، أى الإمبراطورية، جزءا لا يتجزأ من الإسلام، من العقيدة ذاتها. بهذا المنطق، يكون إدراك الطابع الإمبراطورى التاريخى للفقه الموروث، ومناقشته، شرطا لأى إصلاح ديني. لمزيد من مقالات شريف يونس