ترددت كثيرا فى أن أبعث إليك رسالتي، وكنت فى كل مرة أنوى كتابتها ينتابنى شيء من الخوف. ثم استجمعت قواي، ووجدتنى أرويها لك بعد أن شدتنى ردودك الحكيمة، ودروسك التى استقيتها من خبرتك فى الحياة، فأنا فتاة فى الرابعة والعشرين من عمري، تخرجت فى إحدى الكليات الجامعية، وترتيبى الثانية بين أخوتي، حيث تكبرنى شقيقة واحدة، ويصغرنى شقيقان لي، وعشنا حياة مرفهة مع أبى وأمى لسنوات عديدة، وتطلعت إلى أبى دائما على أنه القدوة الصالحة التى أحتذى بها، والحقيقة أنه تعامل معنا أنا وأخوتى بكل سهولة ويسر، ووفر كل ما تمنيناه، وعمّ حياتنا الهدوء، لكنه على جانب آخر كان دائم الشجار مع أمي، وامتلأت حياتهما معا بالمشاجرات، ومع ذلك كانا يتداركانها سريعا، ويصلان إلى حل لمشكلاتهما، وتوقفت أمام الطريقة الغريبة التى يتعامل بها معها، فهو خارج المنزل يظهر بأسلوب جميل مع جميع الناس، أما داخله فيتحول إلى شخص صامت لا يتكلم، وبرغم هذا الجو المضطرب تواصلت حياتنا على نحو مستقر. وكان أبى يعمل بالتجارة، وتحسنت أحواله المادية كثيرا، فانتقلنا إلى بيت أوسع بكثير من بيتنا الذى نسكن فيه، بيت به خدم يساعدون أمى فى شئوننا، وكل المستلزمات المطلوبة للعزومات التى يقيمها أبي، وكان من بينهم شاب عمره عشرون عاما، كانت أمى تتركه معنا، فنلعب سويا، وذات يوم اقترب مني، ولمسنى بطريقة استفزازية، وكان عمرى وقتها تسع سنوات، ولم أدرك ما فعله، ولما كررها ابتعدت عنه، وتحاشيت الجلوس معه فى مكان واحد واستغربت أن تتركه أمى معنا ولا أدرى ما الذى جعلها ترى أنه ولدها الذى لم تلده!
وكتمت هذا الأمر فى نفسي، ولم أحدث به أحدا، لكنه ترك أثرا نفسيا سيئا عليّ. وكلما تذكرته أشعر بالضيق، وأتحسس جسمي، وشغلتنى هذه المسألة إلى حد المرض. وقد أقمنا فى هذا البيت أربع سنوات.
ثم سرعان ما تغيرت الحال، ووجدت أبى يتفق مع أمى على بيعه لكى يسدد بثمنه الديون التى تراكمت عليه، بعد فشل أكثر من مشروع تجارى له، ولم يكن هناك حل آخر لكى تستمر عجلة الحياة، وهكذا رجعنا إلى بيتنا القديم، وكان عمرى وقتها ثلاثة عشر عاما، ورحل بعيدا عنا كل من كانوا يساعدون أمى فى أعمال المنزل بمن فيهم هذا الشخص، وجاءت عودتنا إلى البيت القديم مختلفة تماما إذ تتالت المصاعب فى حياتنا، وعجز أبى عن تسديد ديونه للآخرين، فلجأوا إلى المحاكم وصدرت أحكام عديدة ضده، وبعد عام واحد تم تنفيذ بعضها، ودخل السجن وسط دموعنا وصرخاتنا، وانتابتنا حالة نفسية لا أستطيع أن أصفها لك، وخيم السكون على حياتنا، وانسحبت بعيدا عن كل الناس، وتغيرت طباعي، وصرت كتومة جدا، ولا أكاد أنطق بأى كلمات بين صديقاتى وأقاربي، وحتى أمى لم أبح لها بما يضيق به صدري، ولم يفارقنى المشهد المؤلم لحركة الشاب الاستفزازية معى وأنا صغيرة، وعندما كبرت أدركت كل شيء، وذات يوم سردت على أمى حكاية هذا الخادم، وصعقت من رد فعلها. إذ أخذت كلامى على محمل «الهزار»، وقالت: «انها تخيلات... لا تأخذى فى بالك هذه الأشياء».. فلم أصدق أن يكون هذا موقفها، فهى لا تدرك ما تركه فعله السييء من آلام لم تمحها الأيام، بل إنه دفعنى إلى التفكير فى هذه المسألة، وظللت على هذه الحال إلى أن بلغ عمرى تسعة عشر عاما، ولك يا سيدى أن تتخيل حال طفلة فى مرحلة التكوين ثم فى مرحلة البلوغ، وقد سيطر عليها هاجس كهذا سنوات طويلة،.. فلقد كرهت الدنيا بما فيها، ووجدتنى أزداد عزلة بعد موقف أمى التى لم تلق بالا لما فعله هذا الشخص لدرجة أنه تصادفت زيارته لنا، فى اليوم الذى حدثتها فيه عما فعله معي، فإذا بها تستقبله بترحاب شديد، وتتحدث معه بطريقة عفوية، وقد عاتبتها على ذلك، وبكيت أمامها من موقفها الغريب مع شخص لا ضمير له ولا أخلاق ولا دين، فقالت: «يا بنتى إحنا أكلنا معاه عيش وملح».. أى عيش هذا الذى تتحدث عنه؟.. أليست القطيعة هى الواجبة فى مثل هذه المواقف لكى يعرف خطأه، ولا يكرره مع أخريات، أو حتى يشعر بمجرد تأنيب الضمير على تصرف غير أخلاقى كان من الممكن أن يجر أى بنت إلى ما لا تحمد عقباه.
وحمدت الله أننى تخلصت من هذا الكابوس، وعاهدت ربى ألا تشغلنى هذه المسألة بعد اليوم، فلولا وجوده سبحانه وتعالى فى حياتى لانتحرت بالفعل، فلقد كرهت كل الرجال وكرهت جسمي، حتى أننى لا أطيق الحديث مع أى شاب.
ولقد مرت الأيام بحلوها ومرها، وجعلت الكتاب رفيقي، واجتهدت فى مذاكرتى وحصلت فى الثانوية العامة على مجموع كبير أهلنى لدخول الكلية التى كنت أرغب فيها، وفرحت أمى بتفوقى فرحا عارما، وهى ترانى البنت الجدعة التى لديها طموح، وقد حققت لها ما كانت تأمله فيّ، وحصلت فى الجامعة على تقديرات عالية، ولم أهتم بشيء سوى الدراسة، ورفضت كل من تقدموا للزواج منى دون مناقشة، وكان مبررى هو أننى لن أوافق على الخطبة أو الارتباط إلا فى وجود أبي، وقد ظل مسجونا عشر سنوات، ثم أفرج عنه وبدأ فى التصالح مع البنوك المدين لها. وتصورت أن تفكيرى سيتغير بعد عودته إلينا، ولكنى وجدت أن الحياة بالنسبة لى قد توقفت تماما، وأصبح لسان حالى «محلك سر»، ولا أعلم كيف أصبحت بهذه الحال، فأنا الآن أشعر بالخوف الشديد عندما أسمع كلمة «عريس» أو «شغل»، ووجدتنى أسيرة لعالم جديد اسمه «النوم والفيس بوك».. وأكون طبيعية تماما، وأنا بمفردي، حتى إذا جاءتنى أمي، وقالت لى «جايلك عريس كويس».. أتغير فجأة وأبكي، وإذا جلست معه بضغط من أمى أرفضه تلقائيا بلا مبرر، وأحس بالخوف من مجرد الجلوس أو الحديث معه، وتعبت أمى مني، وتسألنى وهى حزينة «ما الذى يحدث لك عندما أقول لك، فيه عريس كويس؟، وعندما تتكلمين مع أقاربك أو جيرانك تكونين هادئة، وتتحدثين معهم بطريقة كلها ذوق ورقة»؟.. وأما عن العرسان فتسألني: «لماذا تخافين الغريب، ولا تخشين القريب الذى لا يريدك»؟.. فهى تتصور أننى أحب أحد أقاربي؟.. مع أننى والله العظيم لا أميل إلى أى أحد منهم على الاطلاق، وكل كلامى معهم سطحي، وأتعامل بشكل عادى مع كل من هو بعيد عن حياتي، ولكن من يحاول منهم أن يتقرب لي، أخاف منه، وأنسحب بسرعة من أمامه.. وتتغير حالى عند سماعى بوجود عريس حيث يحمر وجهي، وأصاب بالهلع، وينبض قلبى نبضات سريعة، ولا أستطيع الكلام، وأجبرتنى والدتى على أن أجلس مع شاب تقدم لى أخيرا، فجلست معه مرغمة، وقد كست وجهى علامات الحزن. ولم يكن فيه عيب لكى أرفضه، وقال لى أخوتي، وكل من حولى «أنه عريس ممتاز ولا يعيبه شيء».. وقرأنا الفاتحة، وسط سعادة الجميع إلا أنا، فبرغم أننى أراه مناسبا لى بالمقاييس المتعارف عليها إلا أن قلبى وعقلى يرفضانه، وبالفعل ظلمته وظلمت نفسي، وقلت له إننى سوف أتزوجه رغما عني، فأهلى هم الذين أجبرونى على قبوله، فلم ينطق ببنت شفة، وانسحب من حياتى بهدوء، واحترمته على هذا الانسحاب، ووبخت نفسى على طريقتى التى تعاملت معه بها خلافا لطبيعتى وتربيتى وطريقة كلامي،.. هذا ما حدث ولم أندم عليه ولو للحظة واحدة، ولم أجد تفسيرا لشعورى بالرضا والسعادة لرحيله بهدوء!!
إن حياتى مليئة بالخوف والوحدة، وأصبح كل أقاربى لا يثقون بي، ويظنون أننى على علاقة بشخص معين، أو أننى أحب شابا لم يتقدم لي، وتبكى أمى على حالي، وتدعو لى الله أن يهديني، أما أبى فهو يعيش «حالة صمت»، ومازال يعيش «دوامة المخالصات»، وباقى ما عليه من ديون، ولا يكلمنى فى موضوع خطبتى ورفضى العرسان، وإذا فتحت أمى معه الموضوع يقول «كله رزق». ويسكت وأنا لا أريد غير رضا ربنا، ولكن كيف أغيرّ نظرتى إلى الزواج، وكيف أتغلب على خوفى من الطرف الثاني؟ إننى متوسطة الجمال، ويستغرب الكثيرون أننى أرفض كل من تقدموا لى ويروننى متكبرة، لكن ربى أعلم بحالى وأدعوه ليلا ونهارا ألا يحمّلنى ما لا طاقة لى به، وأنى أسألك: هل تجد سبيلا إلى طمأنة قلبى وهدوء نفسى وسكينة روحي، فأبدأ حياة جديدة خالية من الخوف ومشرقة بالأمل؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
يبدأ الطريق الى تجاوز المحن والآلام بمواجهتها، فالاستسلام لليأس والصمت يقودان الإنسان الى طريق مسدود، ويجعله أسيراً لهواجس قاتلة تزداد ضراوتها بمرور الأيام، فإذا أطبقت عليه، لن يستطيع الخروج منها، ولن يفلح أعظم الأطباء النفسيين فى اعادته الى سيرته الأولي، ولذلك فإن الوسيلة المثلى للخلاص مما تعانينه، هو نسيان الماضى الذى لا يرضيك، فلقد مضى وانتهي، وعليك باتخاذ منهج جديد فى حياتك تؤمنين به وتبنين عليه جسرا للتواصل يمكنك الابحار من خلاله فى نهر الحياة. والحقيقة ان حالة «الصمت الحزين» التى تعيشينها هى قمة الانفعال، ولكنه انفعال داخلى لا يشعر ببركانه إلا أنت وحدك. فأكثر اللحظات إثارة للانفعال هى التى يصل بنا الأمر فيها الى حد أن نلتزم الصمت، وهنا أسألك: ما الذى يدفعك الى كل هذا الحزن، ولم يحدث لك مكروه يجعلك أسيرة للأوهام؟ فى تصورى أن كتمانك عن أمك «السر الكبير» الذى احتفظت به لنفسك وأيضا غياب أبيك فى العمل، ثم الظروف التى تعرض لها بسجنه، وانصراف كل منكم الى نفسه، هذه العوامل هى التى جعلت القلق والاضطراب ينمو فى داخلك، ولو انك بحت لأمك منذ البداية بالحركة الاستفزازية التى فعلها معك هذا الشاب المستهتر لطمأنتك الى أن الأمر بسيط، ولساعدتك على تجاوز الأثر النفسى الذى خلفه عليك، وليس معنى أن يواجه المرء موقفا ما مهما بلغت قسوته. أن يستسلم له، فالفشل هو أن يبقى فى مكانه، ولا يحاول أن يتحرك إلى الأمام فى كل الظروف والأحوال، فإذا أخذ زمام المبادرة ولو بخطوة واحدة، فإن آلامه تنكشف واحدا بعد الآخر، وتتجلى رحمة الله به فى أوسع صورها وأسمى معانيها. نعم لقد ساهمت أمك دون وعى أو ادراك فى الإساءة الجسدية التى تعرضت لها على يد الشاب الذى كان يعمل لديكم فى «الأيام الموسرة» وقبل أن تحل الأزمة المادية بأبيك، فمن البديهيات أن الأم تحظر على بناتها الوجود مع أولاد كبار فى مثل عمرها، أو أكبر منها خلال فترة المراهقة وتكون دائما حريصة على متابعة تحركاتهن، ليس من باب الرقابة فحسب، وإنما أيضا وقبل كل شيء لكى تتمكن من توجيههن نحو السلوك السليم، وانتشالهن من الأخطار فى الوقت المناسب، فنفسية الطفلة أو حتى الفتاة التى تتعرض للتحرش غالبا ما تكون مرتعا للاضطرابات العاطفية، كما أنها تشعر بنقص الثقة فى النفس، ويسيطر عليها الإحباط، والخوف، والعجز عن التعبير، والإفصاح عن المشاعر، وفات أمك أيضا أن تتخذ منك صديقة لكى تروى لها ما تتعرضين له أولا بأول، فالأم الواعية هى التى تصاحب ابنتها. وتلازمها فى كل خطواتها، لأنها إذا شبت على الصمت وكتمان ما تعانيه، فإنها عندما تكبر سوف تميل إلى الكآبة، وتقل ثقتها بنفسها، وتنتابها حالة خوف لا تغادرها أبدا. ومن المهم أن نشير فى هذا الصدد إلى ضرورة ألا يترك الآباء والأمهات التربية الجنسية لأولادهم وبناتهم للصدفة، فالأطفال يسعون إلى معرفتها إذا أخفيت عنهم، من الخدم والزملاء وأقران السوء. الذين قد يقدمون لهم معلومات خاطئة ملونة بلون مثير على غير الصورة التى نتوخاها، ويمهد بعض الأطفال المراهقين أحيانا لبعضهم فرصة الحصول على خبرة جنسية تحت ظروف تترك عادة أسوأ الآثار النفسية، ويعتبرونها سرا عظيما، يكتمونه خوفا من رد الفعل، أو إساءة الظن بهم، ولذلك فإنه من الضرورى إعطاء المعلومات للأبناء بطريقة صحيحة فى المنزل فى إطار أحاديث عادية، ولا تكون كأنها سر أو لغز عظيم الشأن. وهنا أقول إن على الوالدين مسئولية كبرى فى تثقيف أولادهم بطريقة تتناسب مع المرحلة العمرية التى يمرون بها، وللأسف فإن كثيرات من الأمهات لا يتحدثن مع بناتهن حول التغيرات التى تحدث لهن سواء جسمية أو نفسية فى فترة ما قبل البلوغ، فتجد البنت قد بلغت سن النضج، وليس لديها أدنى معرفة بهذه الأمور، وهنا تلجأ إلى صديقاتها وقد يحدث الخطأ الذى لا يمكن علاجه. فالواجب تثقيف الأبناء من السنوات الأولى بالتدرج فى إعطاء المعلومات لهم، وتهيئتهم بصورة صحيحة، وتصاحب الأم ابنتها وتشرح ما يستعصى عليها فهمه بطريقة مبسطة فتعطيها بذلك الأمان والثقة بالنفس لكى تفضى إليها بما تشعر به أولا بأول. ويجب أيضا أن تكون تربية الأبناء مشمولة بالحياء، وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحياء شعبة من الإيمان» وكان النبى أشد حياء من البكر العذراء فى خدرها. وكانت السيدة عائشة رضى الله عنها إذا أرادت أن تقسم تقول «والذى زين الرجال باللحي، والنساء بالحياء»، ومن الكلام المأثور «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» أى أن الشخص الذى ليس فى وجهه نزعة لحم من الحياء، توقع منه أى شيء جيد أو غير جيد وتوقع أنه ربما يأتى بأى سلوك فى أى وقت، وأمام أى أحد بلا مبالاة أو حياء. انك الآن أيتها الفتاة العاقلة الناضجة مطالبة بأمرين مهمين نحو استعادة نفسك: الأول هو البحث عن عمل مناسب لك، واثبات ذاتك فيه، وسوف يكلل الله خطواتك نحوه بالنجاح بكل ما تتصفين به من تفوق وحضور، ومرح، وهى صفات متأصلة فيك، والثانى قبول العريس المناسب ممن يتقدمون لك، ولا تلقى بالا لمن يستغربون أن يأتيك عرسان كثيرون مع أنك متوسطة الجمال، فمسألة الجمال نسبية، ولا تخلو امرأة من لمحة جمال، فالمرأة كيان متكامل ثقافيا واجتماعيا وحضورا لدى الرجل، وليست لوحة صماء بلا روح، وعليك أن تنسى الواقعة التى تعرضت لها وأنت طفلة، فليس كل الرجال على شاكلة هذا الصبى المستهتر الذى لم يجد من يربيه التربية السليمة. فانفضى عنك غبار الأحزان. وودعى الصمت إلى الأبد، ولعل أباك يكون قد تعلم الدرس فلا ينجرف نحو مشروعات غير مدروسة، ويخصص لكم وقتا فيلتئم شمل الأسرة، وتعود إليك ابتسامتك المفقودة، والله المستعان.