البحث فى خلفيات القضايا المطروحة على الساحات العربية، لايمثل ضرورة بحثية أو حالة معرفية فقط لرفضها أو قبولها، خاصة حين تتحول إلى فعل إجرامي، وإنما يتجاوز كل ذلك ليغدو مطلبا مجتمعا وموقفا سياسيا وحلا أمنيا وعسكريا وطرحا ثقافيا، وهذا ما ينطبق على الإرهاب الذى اجتاح الدول العربية بأشكال مختلفة، إذ أسقط الدولة فى الصومال، ويكاد اليوم أن يحول سوريا إلى دولة فاشلة أو اللادولة، وطوّر من الصراع فى العراق حتى تمكّنت قوى ظلامية من إقامة دويلة داخل الدولة اقتضت مواجهة دولية لا نعلم متى ستنتصر، ويكاد أن يختطف منا ليبيا واليمن، واختطف من عمر الجزائر أكثر من عشر سنوات، وهو اليوم يظهر بمبررات واهية فى مصر. الإرهاب فى دولنا كما هو فى العالم كله ابن شرعى للتطرف والغلو، ونتيجة حتمية لضعف التعليم وزيف الإعلام، والفهم غير الصحيح وغير الواعى أيضا للدين، ناهيك عن مشكلات حياتية من فقر وجهل وبطالة، لم تعد دافعا أساسيا كما كانت فى السابق، حيث نجد اليوم المنخرطين فى الأعمال الإرهابية من أبناء الطبقات الغنية ومن خريجى الجامعات. ولأن الإرهاب على النحو السابق وأكثر، فقد أصبح من الضرورى السعى من منطلق الدفاع عن الوجود وعن الهوية والإنتماء، بل وحتى من أجل الإسلام فى بعده الإيماني، أن نسعى عربيا من أجل" إعداد استراتيجية شاملة لمواجهة التطرف"، وهو ما قامت به مكتبة الإسكندرية فى مؤتمر عقدته تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسى وبالتنسيق مع وزارة الخارجية المصرية، جمعت قيه نخبة من المثقفين والإعلاميين والقيادات الدينية الإسلامية والمسيحية من معظم الدول العربية. عمليًّا، لهذا المؤتمر أهمية خاصة تتعدّى طرح الموضوع للنقاش والخروج برؤية عربية شاملة لمواجهة التطرف، وعدم الوقوع فى فخ الإرهاب من حيث اعتباره واقعا علينا التعايش معه، إلى توظيف الفكر والثقاقة، من منطلق أن التطرف يبدأ ذهنيا وينتهى إلى فعل إجرامى يهلك النسل والحرث والعمران، ويُدمر منظومة القيم والأمان العام والسلم الإجتماعي، مستندا فى كل ذلك إلى قناعات تستقى شرعية وجودها فى أحيان كثيرة من نفس التراث الديني، بما فيه جانبه المظلم، الذى تعتبره غالبية المسلمين مرجعية لها. هنا يأتى دور مصر الثقافي، وقد سبق لها أن نجحت فى حوار مع الجماعات المتشددة والإرهابية أدى إلى مراجعات فكرية، ناهيك على أنها إذا اتّخذت من الثقافة مدخلا لمواجهة التطرف انطلاقا من أن المعركة الكبرى مع التطرف هى معركة الفكر والتجديد والإحياء، سارت على خطاها الدول العربية الأخرى، حيث لا خلاف فى هذه الحالة بين العرب، بدليل أن المشاركين فى مؤتمر مكتبة الإسكندرية ركزوا على تجارب دولهم لكن جاء ذلك ضمن رؤية عربية شاملة، ما يعنى أن هذا المؤتمر يعدًّ مدخلا لاستنهاض علاقات عربية واعية وحضارية، تتجاورز تناقضات السياسة وخلافاتها وضيقها، إلى تقارب واتفاقات وسِعَة الثقافة، وتلك فى حد ذاتها تمثل هدفا أسمى، علينا أن نسعى لتحقيقه، لأننا لا نملك اليوم رفاهية التنظير، خصوصا بعد أن اتّسعت مساحة الإرهاب وأصبحت حدثا يوميا مُدمرا ومُخربا وقَاتلا. هنا تبدو الصورة أكثر وضوحا، وهي: أن مواجهة الإرهاب عربيا لن تكتفى بالحل الأمنى والاقتصادي، وهما بلا شك مهمان وإنما تقتضى تطوير أسلوب الحرب لاقتلاع جذور الإرهاب عبر المواجهة الفكرية، خاصة بعد أن أصبح مشكلة دولية، تفاصيلها واستمراريتها تقع على الأرض العربية، بل إن دولا غربية مع ادعائها رفض الإرهاب ومراقبة عناصره تصدّر لنا أبناءها للمشاركة فى الأعمال الإجرامية داخل الدول العربية. اليوم، وبعد اتساع رقعة الإرهاب، لم يعد مقبولا الفصل بين التجارب العربية بحجة أنه لكل دولة خصوصيتها، كما لم تعد مسألة حماية الدولة القطرية بشريَّا وجغرافيا هى القضية الكبرى، وإن كان لابد منها.. الأمر أكبر من ذلك بكثير، فالهجمةشاملةللأمةبأكمها، وهى الآن وقود لحرب يقودها ابناؤها، ستُعمر طويلا ما لم يتم الحسم بجدٍّ فى قضايانا المشتركة، ومن أهمها مواجهة التطرف بكل أنواعه. هكذا يتم استعادة دور النُّخب العربية، التى أقصت نفسها أو أقصتها الأنظمة من المشاركة، فى إدارة الصراع مع عدو يستقى شرعية وجوده وإجرامه من فكر متطرف، تطور نتيجة الغفلة أو الخوف أو الانتقام، غير أن الدور مصحوب بمسؤولية ومشاركة فى الأعباء والتكاليف، حيث لم تعد مهمة مواجهة الإرهاب مهمة الحكومات وحدها، وهو بذلك يمثل امتحانا للنُّخب العربية لتخرج فيه من دور الضحية، والشكوى من الغاء دورها من طرف الأنظمة، ومن البكاء على الواقع، ومن تصورها لوقوع مزيد من المصائب، وأحيانا قيامها بدور المتفرج على ما يحدث فى مسرح الوطن، مع أنها ستكون ضحية لحرب لم تضع أوزارها بعد. على العموم، فإن مؤتمر مكتبة الإسكندرية يمثل بداية تأسيسية لعمل عربى وحدوى غاب أو غيّب سنوات طويلة لأسباب كثيرة، وهذا الشعور العربي، والمصرى تحديدا، بضروة التلاقى والتباحث عبر فضاء الفكر والمعرفة والثقافة لمواجهة التطرف يمثل لحظة فاصلة فى الوعى العربى علينا التمسك بها، بعيدا عن اللقاءات العابرة والمؤتمرات القائمة على التنظير، خصوصا وأن نتائج هذا المؤتمر ستعرض على القمة العريية فى شهر مارس المقبل. كاتب وصحفى جزائري لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه