.. لم أكن أعرف أن الفيلسوف عاطف العراقي هو ابن من ابناء قرية كفر الدبوسي حتي فاتحني الفنان مسعد غيث في مركز شربين في أمر استضافته ضمن فعاليات ساقية الصاوي في شربين فسألت عن السبب الذي من أجله يدعو الراحل الفيلسوف عاطف العراقي فقال لي: إنه من هذه القرية! وأشهد أن الرجل كان سعيدا, إذ فوجئت به يتصل بي ويعلن لي أنه رغم تعبه العضال إلا أنه سيذهب برفقة أحد أصدقائه الي شربين لتسلم الجائزة بنفسه ثم قال لي: انه سعيد بأن تتذكره بعد كل هذه السنوات قريته وسوف ينتهز الفرصة ويركب سعيدا الحنطور ويمر علي قريته كفر الدبوسي التي كان يعيش فيها صغيرا ثم صبيا وله فيها بعض الأقارب.. وأكد لي أنه رغم حصوله علي جوائز عديدة من دول وهيئات كثيرة إلا أن سعادته بجائزة الابداع من شربين لا حدود لها لأنها مسقط رأسه.! والحق ان الرجل كان سعيدا كطفل عندما ركب الحنطور من ميدان المحطة الي حيث مكان اللقاء في نادي المعلمين, حيث التقي وجها لوجه بأبناء شربين الذين جاءوا من كل فج عميق ليتحدثوا اليه عن ثورة الفكر العقل والنقد التي ظل الراحل وفيا لها طوال حياته وسجلها في اكثر من كتاب مثل: ثورة النقد والعقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر.. والبحث عن المعقول في الثقافة العربية. ولابد أن أتذكر صوته وهو يهدر كالسيل عندما أخبرني قبل وفاته بأيام من شهر فبراير الماضي وبماذا يذكره! وقال إنه الشهر الذي ولد فيه الراحل الدكتور زكي نجيب محمود وقال لي بصوت يتلعثم ربما من شدة الحزن أو التعب أو الاثنين معا ان أحدا لم يتذكر زكي نجيب محمود بعدما أخلص لهذه الأمة ووضع مؤلفاته ودعواته العاقلة للفكر والتأمل! وقال ايضا انني كنت من القلائل الذين يتذكرونه ونشرت كل كتاباتي عنه في كتاب تذكاري يحمل اسم زكي نجيب محمود. ثم بعد يومين اتصل بي ثانية وأخبرني بأن زوجته الراحلة الدكتورة منيرة حلمي أقصد زوجة د. زكي نجيب محمود قد اختارت يوم مولده في شهر فبراير لتودع دنيانا الفانية لتلحق بزوجها في الآخرة. وعلي عهدة الرجل عندما قال ان زكي نجيب محمود وزوجته الدكتورة منيرة حلمي قد اتفقا ألا ينجبا أولادا وكانت قريبة منه ومؤمنة بأفكاره العقلانية لكنها كانت تشعر بالظلم الذي تعرض له زوجها في صدر شبابه ففي مقالتها التي كتبتها خصيصا لعاطف العراقي قالت: إنه أي زوجها يعبر في مقالته الأدبية عن شعوره بظلم الأيام التي لم تعطه ما يستحق وقد عبر عن هذا الشعور في مقالات عديدة كثيرا في نفس المرحلة من حياته في أواخر الاربعينيات. أما عاطف العراقي فقد اعترف بأنه تعلم اكثر من استاذي زكي نجيب محمود فيقول أكثر مواقفي من التراث تعلمتها من زكي نجيب محمود.. وأن يهتم المثقف بقراءة الكتب الأدبية.. أما الآن فقد أصبحت القدوة غير القدوة والريادة غير الريادة, لقد أصبحت القدوة عند فتاة اليوم راقصة.. وأصبحت القدوة عند شباب اليوم لاعبا من لاعبي كرة القدم. ثم ختم عاطف العراقي حديثه بقوله: اقول دوما انني افخر بأنني عشت في عصر زكي نجيب محمود ان هذا من نعم الزمان ومن أسعد الاشياء التي ستظل محفورة في ذاكرتي طوال رحلة العمر. لقد ولد د. زكي نجيب محمود في احدي قري محافظة دمياط وهي قرية كفر العرب وولد الراحل عاطف العراقي كما قلنا سابقا في قرية كفر الدبوسي وعاشا حياة الريف المصري وتشبعا بأريجه الفواح ولم يكن يعرف أحدهما الآخر إلا أن الثاني تتلمذ علي ايدي الأول وتعارفا في القاهرة وظل كلاهما مخلصا للعقل والعقلانية حتي آخر نفس يتردد في صدريهما. وهنا لابد أن اقف عند مرض استاذنا عاطف العراقي, فعندما كتبت في الأهرام أنه اخبرني بوفاة الدكتورة منيرة حلمي زوجة استاذه زكي نجيب محمود في يوم مولده يرحمه الله وسألته عن صحته وكان ذلك قبل وفاته بيوم واحد فقال لي بصوت مفعم بالألم: إنني اعاني يا صديقي حزمة من الأمراض ولعل اكثرها تعاسة أن معدتي ترفض في هذه الأيام امتصاص الغذاء والدواء, قال ذلك ثم سكت الراحل وتخيلته يزم شفتيه ثم يصمت وكان صمتا ابديا لأنه بعد يوم واحد بعثت لي الدكتورة عايدة ناصيف وهي تلميذة نجيبة في قسم الفلسفة تخبرني بأن الدكتور عاطف العراقي قد رحل عن دنيانا! وما آلمني أن الرجل مات وهو يقف أمام تلاميذة محاضرا ويشرح وينتصر للعقل والعقلانية رغم تعبه الممض إلا أنه حاول أن يتغلب علي اوجاعه ليتحدث أمام تلاميذه في أقدس مهنة عرفتها الانسانية وهي التدريس. ولابد أن اذكر أن الاعلامي التليفزيوني خالد الأبرق الذي يقدم علي القناة الأولي المصرية برنامجا شهيرا بعنوان: الرياضة والسياسة قد اتصل بي قبل اسبوعين وكان يريد ان ينتقل الي الراحل عاطف العراقي ليصوره وهو يتحدث الي الشباب ولكن عندما تحدثت مع استاذنا قال لي: إنني احب أن اتحدث الي الشباب لكن عرض صديقك خالد الأبرق جاء متأخرا لانني مريض ولا أقوي علي الحركة.. بلغه سلامي وإذا تعافيت قريبا فسوف اخرج من صومعتي وأزوره في مكانه.. لكن أرجو أن تعلم أنني لا أثق في هذا وستكون نهايتي قريبة. والحق اقول إن الدكتور عاطف العراقي كان سنوات يشعر بدنو الاجل, فلقد كتب أكثر من مرة عن مرضه العضال واخبرني بقلب حزين ان اوجاع الدنيا تلاحقه وان أمراض الدنيا كلها أصبحت تلازمه كظله! الغريب أنه كان يكتب ذلك في مقدمات كتبه التي أهدانيها بخط يده وبعثها لي.. ففي كتابه التذكاري, عن زكي نجيب محمود كتب يقول: إلي روح زكي نجيب محمود اهدي هذا الكتاب ولسان حالي يقول.. اذكريني, فلقد عز اللقاء! وكان الراحل كثير التحدث أيضا عن الظلم ففي كتابه عن التنوير الذي اهداه إلي استاذه طه حسين كان يكتب كما يقول من صومعته الفكرية ناعيا ظلم الإنسان لاخيه الإنسان, لقد رحل فارس الفكر اقصد الدكتور عاطف العراقي, بعد ان وثق كيانة جيدا, ففي كتابه ثورة النقد الذي اهداه إلي مصطفي النحاس باشا ذكر أنه أول معلم للفلسفة تطلبه المحاكم ليقف أمامها مدافعا عن الرشدية الجديدة والعقلانية التي اخلص لها.. والحق ان عاطف العراقي كانت لديه مشاريع فكرية كثيرة لكنه بقدر الإمكان أرخ لكل شاردة وواردة في فكره ولم يترك كبيرة أو صغيرة إلا وذكرها في مؤلفاته. يبقي ان نذكر أن أبناء بلدي يجب ان يتذكروه وان يخصص في فكره الفلسفي بعض أبناء جلدته, وأعترف في هذا الشأن بأن الفنان مسعد غيث اتصل بقصر ثقافة الدقهلية والمسئول عن ثقافة شرق الدلتا كان ذلك قبل أسبوعين وطلب منه توجيه دعوة للفيلسوف عاطف العراقي لتكريمه.. فماطل احدهم وطلب شيئا غريبا ينم عن جهل بالثقافة والمثقفين قاله, علي هذا الرجل عاطف العراقي ان يبعث إليه. الC.V الخاصة به ثم ينتظر دوره! لكن الموت ياصديقي لم ينتظر وضاعت الفرصة علي ثقافة المنصورة للأسف الشديد.. لأن المسئول عن الثقافة لايعرف د. عاطف العراقي وهو مايجعلنا نتحسر علي أيام المثقف الكبير مصطفي السعدني!! الأهم الذي لايعرفه مدير ثقافة شرق الدلتا أننا لايمكن ان ننسي عاطف العراقي, فمؤلفاته في دنيا الفكر ستظل نبراسا لنا في أيام الظلمة والعتمة التي تلفنا خصوصا بعد ان أخرجت مصر من عالم الريادة إلي دنيا التخلف طوال السنوات الماضية. المزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي