هى تستمد شهرتها من " محمد البوعزيزي" رغم انها الطرف الضد فى رواية انتحاره التى أشعلت ثورة تونس أولى ثورات الربيع العربى . إنها " فادية حمدي" شرطية البلدية التى قيل إنها صفعته على وجهه لأنه رفض الامتثال لتعليمات عدم بيع الفواكه فى المناطق غير المرخص بها . التقيتها فى مكتب المحامى " محمد الجلالى " بقلب مدينة " سيدى بوزيد" .وتحديدا على بعد أمتار قليلة من واقعة "محمد البوعزيزى " يوم 17 ديسمبر 2010 حيث يقع مسجد " الرحمة " فى شارع "الحبيب بورقيبة ". فاجأتنى بأنها امرأة أربعينية مثقفة تعى مكاسب ودور المرأة التونسية . تقرأ الفرنسية حتى إنها غاضبة وعاتبة على الأديب المغربى الأصل " الطاهر بن جلون " لأنه فى رأيها صورها على نحو يسئ لها، و يخالف الحقيقة فى روايته عن الثورة التونسية المعنونة ب" النار" الصادرة باللغة الفرنسية. وعندما بادرتنى فى بداية اللقاء بأن اسمها الأصلى هو " فائدة ". قلت لها لكسر الحاجز بيننا : تقصدين "فائدة بنكية "؟ . فأجابت بسرعة بديهة " لا .. فائدة ثورية . شارع "الحبيب بورقيبة "نفسه وما جوار المسجد يعج بالباعة الجائلين أصحاب عربات بيع الخضار والفاكهة رفاق الشهيد" البوعزيزي" . والصخب الذى يأتى عبر نافذة المكتب يؤكد أن كل شئ فى " سيدى بوزيد" المهمشة وشبابها العاطل عن العمل على حاله .حتى "فائدة " الشهيرة ب " فادية " مازالت تعمل فى المدينة .وتقطع يوميا رحلتها الى العمل من حيث بيتها فى معتمدية ( مركز) " المكناسى " الى عاصمة ولاية "سيدى بوزيد". ولعل الجديد انها ارتدت " الحجاب " بعد الثورة . فبادرتها بالسؤال عن هذا التغيير ، فأجابت : أنا كنت غير محجبة .لكن كنت أتمنى ارتداء الحجاب . الآن أصبح مسموحا لبس الحجاب فى العمل . كما لم أعد ألبس الملابس الرسمية لشرطة البلدية "اليونيفورم ".( وهى الملابس التى تظهر بها فى صور سابقة على شبكة الإنترنت ) ماهى طبيعة عملك حين حدثت واقعة " البوعزيزي"؟ لست شرطية بالمعنى الأمنى . ولم يكن لدى اى سلاح . أنا أعمل فى " سيدى بوزيد" منذ عام 2000 شرطية للتراتيب البلدية . أى أننى مكلفة بمتابعة تنفيذ قرارات وتعليمات وقواعد البلدية . فمثلا نراقب التزام محال الطعام بالشروط الصحية والنظافة ، ونراقب التزام عمليات البناء بالتراخيص . ونكتب تقارير ونرفعها لادارة البلدية . هل تعرضت لمشاكل خلال عملك لواقعة " البوعزيزي"؟ بالطبع . أنا واجهت ما هو أكبر وأخطر . وقبل واقعة "البوعزيزي" ذاتها قام صاحب محل لبيع اللحوم الحمراء برفع السلاح فى وجهى .وفى واقعة سابقة ضربنى بمطرقة احد اصحاب البنايات المخالفة للتراخيص. وهذه القضية متداولة فى المحاكم. هل كنت تعرفين " البوعزيزى " من قبل ؟ أعرفه كسائر الباعة الذين يقفون فى الطرقات. لكن لم يحدث بيننا فى السابق أية مشاكل. وماهى روايتك لما حدث بينكما فى يوم 17 ديسمبر 2010؟ قبل ذلك بيوم واحد أى فى يوم الخميس 16 ديسمبر أبلغته بألا يقف فى هذا المكان ويبيع بضاعته لأن المكان غير قانونى بالنسبة لهؤلاء الباعة .وخصوصا أن هناك سوقا مخصصة لذلك على بعد 150 مترا فقط .وكان الهدف ان ننظم المكان وفق تعليمات البلدية، وأن يجرى احترام القانون . وقتها أجابنى قائلا: "باهي" (أى حسنا). وغادر المكان على الفور . وفى اليوم التالى جاءنا اتصال من البلدية للانتقال الى المكان نفسه . وذهبت فى سيارة البلدية وليس سيارة الشرطة. وعندما شاهد زملاء "البوعزيزى" السيارة أخذوا بضاعتهم وسارعوا بمغادرة المكان، إلا هو. ظل واقفا. وعندما تحدثت اليه صرخ فى وجهى. واتهمنا بأننا نقصده بالذات .وقال ما معناه "لو كنت أرشوكم لسكتم عني". وهنا غادرت السيارة واتجهت الى عربته، وحملت صندوق فاكهة من فوقها . لكنه جذبنى ودفعنى الى ترك الصندوق .أحسست وقتها كأننى جندية اسرائيلية ضد العرب. لكن لما كان علينا ان نقوم بواجبنا فقد اتجهت وزميل لى لأخذ الميزان من فوق العربة . فتصدى لنا وجذبه فجرح أصبعى . وحينها عدنا الى سيارة البلدية وطلبنا تعزيزات . واتجه هو الى مقر الولاية . كانت الساعة الحادية عشرة . وبعدها بنحو ساعة ونصف الساعة أحرق نفسه هناك . ولماذا قيل إنك قمت بالاعتداء عليه بالضرب؟ لم يحدث . البوعزيزى نفسه لم يقل بأننى ضربته . بل ذهب الى مركز الولاية ليشكونى اننى منعته من الاستمرار فى بيع بضاعته .ولأن تعزيزات البلدية التى جاءتنا قامت بالشئ المنطقى، وهو مصادرة بضاعته . كيف عرفت بأن البوعزيزى أحرق نفسه ؟ أبلغنى زميل لى . ولقد تعجبت لأن ما قمنا به لا يتجاوز دورنا فى العمل .وما حدث مع " البوعزيزي" أمر يومى وعادى بالنسبة لنا . ولا مشكلة فيه. ولماذا فى رأيك كان رد فعله والآخرين نحو ما فعلت معه؟ أعتقد لأننى امرأة تصرف معى هكذا . وهذه هى مشكلة النظرة الشرقية الدونية للمرأة . لو كانوا قالوا إن رجلا ضربه لما حدثت كل هذه الضجة . وللتاريخ أقول إنها مشكلة النظرة الشرقية والرجل الشرقى . وكيف تصرفت بعدما حدث معه قرب مسجد " الرحمة "؟ جرى الحجز على بضاعة " البوعزيزي"و كذا الميزان .وأخذنا البضاعة الى مركز الصم والبكم .أما الميزان فتم إيداعه فى مستودع الحجز بالبلدية . وأخذت ما يفيد بذلك . وقمت بتغيير ملابسى العسكرية (الرسمية) و غادرت البلدية . وفى الليل استدعتنى الشرطة لسماع أقوالى فى " بحث إدارى " باعتبارى فى النهاية موظفة فى وزارة الداخلية التى تتبعها بلدية "سيدى بوزيد". وفى يوم الاثنين ذهبنا للنيابة، وقيل لنا ان التهمة جرى حفظها . لكن جرى احتجازى بدون إذن من النيابة العمومية .وبحلول الأربعاء تم الافراج عنى وبقيت فى بيت الأسرة بمعتمدية " منزل بوزيان " التابعة للولاية نفسها حتى الثلاثاء التالى . وفى الثالثة فجر اليوم التالى لقيام " بن على " بزيارة "البوعزيزى " فى مستشفى " بن عروس " للحروق أى فى يوم 28 ديسمبر 2011 جاءت فرقة لمكافحة الإرهاب من العاصمة وأخذتنى بالقوة . وجرى احتجازى فى منطقة الأمن الوطنى ب"سيدى بوزيد" ومعى اثنان من زملائى واتهمونا بصفع " البوعزيزي" و بإهانته بان قلنا له " لست رجلا ". ويبدو أن " بن على " هو الذى أعطى التعليمات باعتقالى . كان يريد ان يجعلنى كبش فداء . وفى 30 ديسمبر أعطوا الصبغة القانونية لاحتجازى بان تم عرضى على النيابة العمومية فى سيدى بوزيد . وقتها وعدونى فى النيابة بإطلاق سراحى . لكن لم أخرج أبدا حتى 19 إبريل . وما حدث بالفعل انه تم احتجازى فى سجن النساء ب " قفصة " اعتبارا من 31 ديسمبر . حقا جعلونى كبش فداء. كيف كنت تتابعين ما يحدث خارج السجن من أحداث الثورة ؟ وكيف تعاملت المسجونات معك وانت المتهمة بدفع "البوعزيزى" الى الانتحار ؟ كنت محتجزة مع متهمات وسجينات حق عام ( جنح وجنايات فى جرائم غير سياسية ) . وكنت أتابع ما يجرى عبر التليفزيون . ويوم 13 يناير تحول السجن الى منطقة عسكرية لأن سجون الرجال وقعت فيها محاولات للتمرد والهرب كى يشاركوا فى الثورة . استمعنا من التليفزيون فى هذا اليوم الى خطاب " بن على " الأخير الذى قال فيه " غلطونى " ( أى ضللونى ) . هو كان يحاول التملص من المسئولية ،كما حدث معى شخصيا . وكان المهم له ان يبقى فى كرسى الحكم ويحافظ على السلطة، أما التوانسة فإلى الجحيم.أما علاقتى مع السجينات فقد أخفيت عليهن شخصيتى الى يوم 31 يناير أى بعد نحو شهر من انضمامى لهن . كنت اقول لهن إننى معلمة ومحتجزة لاتهامى بصفع طفل.حقيقة كنت أخشى فى البداية ردود أفعالهن تجاهى لو عرفوا من أنا . وحقيقة لم أتعرض لاى اعتداء طوال إقامتى معهن . وهل وجدت من المحامين من يدافع عنك حتى حصلت على البراءة ؟ عانيت من رفض المحامين الترافع عنى .لكننى فى النهاية وجدت قريبة لى وهى المحامية "بسمة المناصرى " . وقد ترافعت عنى مجانا . وبرأتنى فى جلسة عامة واحدة من التهم المنسوبة لى . وكان ذلك يوم 19 إبريل 2011. وكانت البراءة لعدم ثبوت الأدلة . كيف شعرت حينها ؟ بأن الناس عرفوا بأننى تعرضت للظلم . و فى جلسة المحاكمة ذاتها جاء مواطنون عاديون من "سيدى بوزيد" والعاصمة وحملوا لافتات تطالب بالافراج عنى . وربما كان هناك احساس بان " فادية حمدى " نفسها شاركت فى الثورة وكانت سببا لها . وعندما جرى الافراج عنى وتبرئتى ، اقترحت الإدراة نقلى الى تونس العاصمة، او أى مكان خارج " سيدى بوزيد". لكننى رفضت . وقررت العودة الى نفس العمل، ونفس المكان لأثبت عمليا براءتى .وحتى لا يقال إننى أخشى الناس أو هربت . إذن أنت تقومين بنفس العمل ؟ أعمل نفس العمل وأذهب الى نفس الأماكن .لكن لم أعد أخرج لأعمال المعاينات البلدية فى الشارع، لأن الحالة الأمنية غير مستتبة . ويمكنك ان تلاحظ أن الباعة زاد وجودهم فى الأماكن غير المرخصة . هل تغيرت حياتك بعد الثورة ؟ اكتسبت شهرة. وهذا لا يضايقنى لأننى أشعر ان الناس فى " سيدى بوزيد" يحبوننى . بالنسبة لهم أنا شاركت فى الثورة .وعلمتنى التجربة قوة الإرادة والايمان . وأشعر الآن أن البلاد بها حرية أكثر مماكانت. لكننى أخشى عليها من الفوضى . وربما أخشى على نفسى من ردود فعل غير متوقعة ممن لا يعرفوننى جيدا. وزملاء "البوعزيزي" من الباعة ؟ ليس بيننا اية مشكلة . لا أشعر بحقد تجاههم. وحتى "البوعزيزى " رحمه الله لا أشعر بأى حقد تجاهه. الرجل كان عليه ضغوطات كبيرة. ولم تكن المسألة أبدا صفعة امرأة . ولأن الصفعة لم تحدث أصلا.