لا يستطيع أحد أن يشكك فى التأثير الكبير لوسائل الاعلام وخاصة المرئية على تشكيل الرأى العام، فقد أصبح ذلك أمرا مفروغا منه خاصة بالنسبة لمجتمعات العالم الثالث التى تنتشر فيها الأمية مع الجهل والفقر والمرض. لذلك تقع مسئولية كبيرة على وسائل الاعلام فى هذا السياق، لأن لها أدوارا ايجابية مهمة وبصفة خاصة فى مراحل التحول السياسى والاجتماعى فى حياة الشعوب، حيث يحتاج الفرد والمجتمع لمن ينير لهم الطريق، والقيام بوظيفة الرقابة والتوعية والإرشاد والتثقيف. لكن ما يحدث فى الاعلام المصرى وخاصة الفضائيات هو عكس ذلك على طول الخط، فالهدف الأساسى لعدد كبير من الاعلاميين الآن هو اجتذاب أكبر قدر ممكن من المتلقين بأى وسيلة وبغض النظر عن المحتوى الاعلامى وتأثيراته أو الهدف منه، حتى لو تسبب ذلك فى بث قيم سلبية للمشاهدين أو أدى الى تغييب الوعى. فبعد أن تسابقت معظم الفضائيات منذ عدة أسابيع فى الاحتفاء ب «مولد سيدى الملحد» وتبارت فى الحديث عن الالحاد، وتقديم نماذج لبعض الملحدين بشكل يعطى انطباعا بأن الالحاد يضرب البلاد من مشرقها الى مغربها، وحولت الأمر من مناقشة فكرية الى جدل عقيم لا يستهدف سوى الشو الاعلامى. انتقلت هذه الفضائيات الى مرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها اعلام الجن والجنس، وخصصت برامج عديدة حلقات بكاملها للحديث عن عالم الجن، وكيف يتعامل الانسان معه ويتجنب شروره ويستفيد من خيراته، ثم انتقلت البرامج نفسها الى حلقات أخرى للكبار فقط عن عالم الجنس وكل ما يتعلق به بشكل واضح وصريح، وكأننا أمام «بورنو سماعى» يستهدف جمهور المراهقين والشباب، والهدف الحقيقى هو جذب أكبر مساحة من الاعلانات. ومنذ عدة سنوات كانت «التابوهات» أى المحرمات الأساسية فى الصحافة تضم الدين والجنس والسياسة، وظهرت مدرسة شهيرة فى الصحافة المصرية تقوم فقط على الخوض فى هذه التابوهات بشكل أو بآخر لرفع نسبة التوزيع. وخلال الفترة الأخيرة تشبع المصريون من الكلام فى السياسة، وأصابهم الملل منها، ولحق الدين بها بفضل ممارسات الاخوان وبعض الجماعات السلفية والتكفيرية، وانهمر سيل من المشاهد الجنسية على الشباب عبر الانترنت أو بفضل جهود اخوان السبكى فى السينما المصرية. لكن بعض الاعلاميين يصر على اعادة انتاج نفس المدرسة مع تطويرها لتشمل مواد أخرى مثيرة مثل عالم الجن، أو الاستعانة بطبيب أو طبيبة فى الحلقات الجنسية لمحاولة إضفاء الصبغة العلمية على الموضوع، رغم أن المضمون واحد. لسنا ضد المناقشة الاعلامية لأى قضية، بشرط أن تكون مناقشة موضوعية تراعى ظروف المجتمع وتستهدف رفع درجة الوعى العام بهذه القضية، وليس فقط من أجل الاثارة طمعا فى المزيد من كعكة الاعلانات. واذا كنا نرغب فى التعامل مع ملف الاعلام فى مصر بشكل علمى فى ظل المرحلة الانتقالية التى نمر بها الآن، فلا بديل عن اللجوء الى مدرسة «الاعلام التنموى»، وقد سمعت عن هذا المصطلح لأول مرة فى منتصف الثمانينيات وأنا طالب فى الدراسات العليا بكلية الاعلام جامعة القاهرة، ولم يكن منتشرا وقتئذ بدرجة كبيرة، رغم أن مصر عرفت مثل هذا النوع من الاعلام فى الخمسينيات والستينيات من خلال الاذاعة بالدرجة الأولى التى كانت تبث محطات متخصصة مثل اذاعة الشعب والبرنامج الثقافى والموسيقى، وايضا بعض الصحف التى كانت تلعب مثل هذا الدور. وعندما تتبعت ملف الاعلام التنموى بعد ذلك وجدت أنه الملاذ الوحيد لنا الآن، خاصة ما يتعلق منه بنظرية التحضر ووسائل الاعلام التى نشأت على يد عالم الاجتماع الأمريكى (دانيال ليرنر) فى دراسته لدور وسائل الاعلام فى كيفية تحقيق تنمية قوية حقيقة لاجتياز المجتمع التقليدى الى مجتمع حديث، وهى الدراسة التى أجراها على بعض دول الشرق الأوسط، ويثبت فيها أن الاتصالات ومعرفة تجارب الآخرين تساعد على تسهيل التغيرات الاجتماعية. ان الاعلام التنموى حسب أحدث الدراسات يستطيع أن يحقق كثيرا من الأهداف التى نحتاج اليها الآن، ومنها تحفيز المواطنين على المشاركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وبث الشعور بالمسئولية الوطنية والاجتماعية لدى القراء والمستمعين والمشاهدين والمسئولين، وتعريف الجمهور وتحديدا الشباب بالفرص الجديدة فى مجالات الاستثمار والعمل والانتاج، ونشر الوعى والثقافة المسئولة والصديقة للتنمية وللتغيير الايجابى في المجتمع وتحديدا وسط الشباب والمساهمة في تغيير الاتجاهات بشكل ايجابى ومحاربة الاتجاهات السلبية فى السلوك العام للأفراد. الى جانب تعزيز مكانة المال العام والمرافق العامة وتنمية شعور ايجابى لدى المواطنين نحوها ينعكس في سلوكهم وحياتهم اليومية، والشعور بالالتزام بالقوانين والأنظمة وتحفيز المواطنين على اتباعها، ونشر الوعى بحقوق الانسان باعتباره أساس المواطنة الصالحة، اضافة الى حقوق الفئات الخاصة، مثل النساء والأطفال، والمعاقين والفئات المهمشة في المجتمع، ونشر ثقافة النجاح وتعميمها وسط المواطنين، من خلال التعريف بقصص النجاح وبنماذج القدوة. لكن نظرية الجن والجنس التى يتبناها بعض الاعلاميين الآن ويصرون على الاستمرار فيها، بسبب تدنى جماهيريتهم بعد أن كشف الجمهور تحولاتهم من نظام لآخر، لن تؤدى الا الى تغييب وعى الأمة، فى وقت نحتاج فيه الى صحوة جماعية للعبور الى المستقبل. # كلمات: لا يمكن أن يكون الحب أعمى لأنه هو الذى يجعلنا نبصر رضوى عاشور لمزيد من مقالات فتحي محمود