عرفت المجتمعات الإنسانية خلال تطورها الطويل أشكالا متعددة من التمييز فى المعاملة بين الأفراد, فهناك تمييز فى المعاملة بين أبناء العشيرة أو القبيلة وحاليا بين المواطن من ناحية، وبين الغريب أوالأجنبى من ناحية أخرى، وكثيرا ما نجد داخل المجتمع نفسه تمييزا بين المواطنين على أساس اختلاف الدين أو العرق أو اللون أو الجنس أو حتى المهنة فيما بين الطبقات الاجتماعية. وفى جميع هذه الأحوال وأمثالها لا تتوقف معاملة الفرد أو تحديد حقوقه وواجباته على أساس صفاته الشخصية وقدراته وإنجازاته الفردية، وإنما وفقاً لانتماءاته الدينية أو العنصرية أو الطبقة الاجتماعية التى ينتمى إليها، وغير ذلك من الظروف الخارجة عن سيطرته، وهكذا يجازى الفرد إيجابياً بالمزايا أو يعاقب سلبياً بالحرمان منها، لأسباب خارجية ليس له فيها أى دور سواء كان ذلك نتيجة للون بشرته أو للديانة التى ولد بها أو اعتنقها، أو اللغة التى يتحدث بها أو لجنسه ذكرا أو أنثى، أو للظروف الاجتماعية والاقتصادية التى ترعرع خلالها، ولذلك لم يكن غريباً أن يتطور الفكر السياسى لمحاربة كل أشكال التمييز، فالأفراد، أيا كانت إنتماءاتهم أو جذورهم أو ثقافاتهم يتمتعون جميعاً، بلا إستثناء، بنفس الطبيعة البشرية وبالتالى بنفس الحقوق والحريات، وهم مسئولون فقط عن أفعالهم وإنجازاتهم وإخفاقاتهم. فللجميع نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. وهذا هو مفهوم المساواة بين البشر، وأن أى تمييز لسبب أو آخر، هو إعتداء على حرية الإنسان، وبالتالى إعتداء على البشرية جمعاء. فالمساواة حق للجميع، وأى إخلال بهذا هو اعتداء على الجميع. ولكن المساواة فى الحقوق والواجبات بين جميع البشر دون أى تمييز لا تعنى أن الجميع - ورغم انتمائهم جميعاً لنفس الطبيعة البشرية - متساوون فى الإنجاز والأداء وبالتالى فى استحقاق الثواب والعقاب. وهكذا فإن منع "التمييز" بين الأفراد لا يعنى إنعدام "التمايز" بينهم، فإذا كانت الطبيعة البشرية واحدة ويستحق كل فرد أن يعامل مع إحترام حقوقه وحرياته مثل الآخرين دون تمييز أو تفرقة، فإن الأداء يختلف من فرد لآخر. فليس الجميع على نفس القدر من الأمانة أو الذكاء أو حتى القوة العضلية، وما بالك بالقوة العقلية والسلامة النفسية. فالأفراد يختلفون، ليس بسبب اختلافهم فى الجنس أو العرق أو اللون أو الدين والعقيدة، وإنما لأسباب كثيرة موروثة أو بيئية، وبالتالى فإن تحملهم للمسئولية وأداءهم للمجتمع وإنجازاتهم للبشرية تختلف. ولعل من أهم مزايا البشر هى تنوعهم فى الملكات العقلية والعاطفية، وتتعدد المواهب وتختلف فيما بينها، فهذا بالغ الذكاء فى حل المعضلات الرياضية، وذلك نابغة فى الأداء الموسيقى، وثالث أديب، ورابع له قدرة على التحمل والمثابرة.. وهكذا. وإذا كان المتوسط العام للأداء يكون عادة متوافراً لدى الغالبية من الناس، فإن من يصنع التاريخ هم الأقلية ذات النبوغ الطاغى، وإن لم يمنع ذلك من أننا عرفنا فى التاريخ أيضاً، مظاهر للجنون والشر البشرى لدى العديد من الحكام والتى أدت إلى كوارث من حروب وقتل وتدمير. وتظل الاغلبية هى لأواسط الناس العاديين، الذين يتمتعون بقدر كبير من سلامة النية، مع غير قليل من النقائص فى الأنانية حيناً وقصر النظر أحياناً أخرى، ويظل الرجل العادى أو المرأة فى معظم الأحوال أسوياء أقرب إلى الطبيعة وحب الخير بلا ذكاء خارق أو شر عميق مع قليل من المكر وغير قليل من المروءة. وهكذا، فإنه لا مجال لاستمرار البشرية ومن باب أولى تقدمها إذا قام المجتمع على التمييز بين فئاته لأسباب تتعلق باللون أو الجنس أو العقيدة أو غير ذلك من الخصائص البشرية والحضارية. فالجميع سواء فى الحقوق والواجبات. ولكن محاربة "التمييز" بأشكاله المتنوعة لا تعنى عدم الإحتفاء بكل مظاهر "الإمتياز" والتمايز فى الآداء أو الإبتكار والخروج على المألوف، وركوب الصعاب والتحليق فى الآفاق البعيدة، وإن بدت غير واقعية. فأحد أهم خصائص الإنسان هى الفضول والبحث عن المجهول واكتشاف الغريب غير الظاهر. فلولا هذا الفضول لما صدق أحد أن الأرض كروية، وأنه يمكن ركوب الهواء كما سبق ركوب الماء، وما بالنا بالتحليق فى الفضاء. وهذا الفضول تتنوع مجالاته. فقد يكون فى الغور فى أسرار قوانين الطبيعة، ولكنه قد يتعلق بالتطوير التكنولوجى، وربما ينصرف إلى الفنون والإبداع الأدبى، أو حتى بالتميز فى الألعاب الرياضية.. وهكذا. فالمجتمع الناجح هو المجتمع الأكثر تنوعاً فى المواهب والكفاءات والإنجازات. ورغم أن معظم الإنجازات تبدأ بمحاولات فردية هنا وهناك، فإن نجاحها ما يلبث أن يصبح ظاهرة اجتماعية تعم المجتمع بأسره، أو على الأقل تتسع لنسبة معقولة منه، فالتقدم يحدث عادة من خلال جزر صغيرة مبعثرة من المتميزيين هنا وهناك، وذلك حتى تظهر بوادر نجاحها، وحينئذ فإن هذه التجارب ما تلبث أن تعم وتزداد دقة وانتشارا لتصبح ظاهرة اجتماعية. وهكذا، فإن التقدم يبدأ بمغامرة أعداد محدودة من الأفراد المتميزين للخروج عن المألوف، والذين وجدوا الفرصة لاختبار أفكارهم المبتكرة. وهذه القلة من المتميزين هى التى تضع اللبنة الأولى للتقدم، بفتح آفاق جديدة للمجتمع لم تكن معروفة من قبل. ولذلك، فإن الدعوة لمحاربة "التمييز" Discrimination، بالمعنى الذى أشرنا إليه بالتمييز والتفرقة لأسباب لا صلة لها بالفرد وإنما بالظروف التى تحيطه من جنس أو لون أو عقيدة أو طبقة اجتماعية أو غير ذلك من التصنيفات، كل هذا لا شأن له بالاحتفال "بالإمتياز" و"التمايز" الذى يظهره الفرد أى فرد فى فتح أبواب جديدة للمعرفة أو تجارب غير تقليدية. فأساس التقدم هو هذا "الإمتياز" أو التمايز Excellence، وهى صفة - بطبيعتها – استثنائية بين البشر ويجب الاحتفاء بها ودعمها ومساندتها. وهذا الامتياز أو التمايز ليس حكرا على نوع معين من البشر، فقد يظهر بين أصحاب البشرة البيضاء كما قد يظهر بين أصحاب البشرة السمراء، وبالمثل فلا شأن له كذلك بالعقيدة أو المواطنة، فقد يولد هذا النابغة فى الصين، كما يترعرع فى جنوب أفريقيا، وربما فى الولاياتالمتحدة، وكما يحصل على جائزة نوبل يهود فإن هناك أيضاً مسيحيين ومسلمين وبوذيين يحصلون عليها. وإذا كان هذا صحيحاً، فإن الإمتياز أو التمايز ليس له وطن أو عقيدة أو غير ذلك من الصفات، فمما لا شك فيه أن هناك ظروفا اجتماعية تساعد على ازدهار هذه المواهب وتشجيعها والأخذ بيدها. ولذلك لابد من العمل على تهيئة البيئة المناسبة لبزوغ مظاهر التمايز والنبوغ. ومن هنا أهمية أن نعرف أن الحديث عن عدم "التمييز" لا يعنى المساواة المطلقة بين الجميع، بل يعنى ألا يضار أحد لسبب لا دخل له فيه،أو أن يعاقب الفرد على أشياء ليس له فيها يد أو دور، ولكن عدم "التمييز" لا يعنى تجاهل "الامتياز" والتفوق، فلا يمكن أن يتمتع العامل الجاد الأمين ذو الطموح بمعاملة مثل العامل المتكاسل قليل الهمة باسم عدم التمييز، فهذه صفات "للامتياز" ترجع إلى مسئولية الفرد وعليه أن يتحمل نتائجها، وإذا كان رفض "التمييز" فى المعاملة لأسباب متعلقة بالجنس أو اللون أو العقيدة، هو أهم أسباب الشعور بالعدل والإنصاف بين الأفراد والجماعات، فإن المكمل لذلك هو الاحتفال "بالامتياز" من ذوى الأفكار الجديدة والإنجازات المبتكرة، فالتقدم يتم على أيدى أعداد قليلة من المتميزين الذين يقتحمون آفاقاً جديدة فى مختلف المجالات. وبقدر ما يكون المجتمع حاضنا لمراكز الامتياز Centers of Excellence، بقدر ما يكون هذا المجتمع أقدر على التقدم والنهوض. ولكن الاهتمام "بالامتياز" لا يعنى العودة إلى مجتمعات الشلل والأهل والعشيرة، وإنما إلى الاحتفاء بالكفاءة والقدرة والعمل على تشجيعها. وكثيرا ما تكون التفرقة بين "أصحاب الكفاءة" وبين المحاسيب وذوى القربى صعبة فى الحياة اليومية، ولكن مع قدر أكبر من الشفافية، ومع وضوح المعايير ووجود دولة قانون، وتعدد جهات المحاسبة خاصة فى ظل نظم ديمقراطية معقولة، فإن هذه المخاطر تكون أقل بكثير، لا أحد يقبل "التمييز" فى المعاملة والتأكيد على ضرورة المساواة فى الحقوق والواجبات بين الجميع، ولكن ذلك لا يعنى عدم الاحتفاء بمظاهر "الامتياز" والتميز فى الإنجازات للمتميزين من الأفراد أو المؤسسات، وتوفير أكبر قدر من الدعم والمساندة لهم، "الامتياز" هو صفة لرواد التقدم، وينبغى على المجتمعات الواعية أن تحفل بهؤلاء المتميزين وتشجعهم، فهم ملح الحياة وبذور التقدم. التمييز مرض اجتماعى ينبغى محاربته ، أما الامتياز فهو مجهود فردى ينبغى تشجيعه .. والله أعلم لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي