قرأت بحثاً لأحد العلماء الفرنسيين المتخصصين فى الطب النفسى (سيرج جنجر Ginger) فى مجال التكوين العصبى والذهنى للرجل والمرأة. وهو يؤكد فى ضوء العديد من الأبحاث أن المرأة أقرب فى طبيعتها إلى ترجيح اعتبار «التعاون» فى علاقاتها الاجتماعية، فى حين الرجل أكثر ميلاً إلى ترجيح اعتبار « المنافسة» فى علاقاته. وهو يفسر هذا التمايز بين الجنسين باختلاف التكوين العصبى والذهنى لكل من الرجل والمرأة. ويضيف إلى ذلك، بأن فترة التكوين الأساسية للإنسان قد تبلورت فى إطار توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة فى بداية التطور البشرى، حيث كان الرجل يسعى للصيد والقنص خارج المنزل فى مساحات شاسعة فى إطار من التنافس مع الآخرين، فى حين ظلت المرأة فى بيتها لتربية الأطفال والتعاون مع الأقارب والجيران فى نفس القبيلة أو العشيرة.. وهكذا يتكامل «التعاون» و»المنافسة» فى توازن معقول داخل الأسرة بين الرجل والمرأة باعتبارها الخلية الأولى لتكوين البشرية. ولست مؤهلاً للحكم على رأى هذا الباحث من الناحية البيولوجية أو السيكولوجية، ولكنى وجدت أن نظريته عن تعايش مفهومى «التعاون» و»المنافسة» ورسوخاهما منذ بداية الخلية الأولى للبشر، يتفق مع ملاحظة أن نجاح الجماعات البشرية المعاصرة يتوقف، إلى حد بعيد، على التوفيق فى توفير درجة من التوازن والتكامل بين عتبارى «التعاون» و»المنافسة». «فبالتعاون» يتحقق تماسك المجتمعات واستقرارها، كما أنه مع توافر درجة من «المنافسة» بين الأفراد، فإنها تنجح فى تحقيق الكفاءة والقدرة على التطور والتقدم. فبدون «تعاون» بين أبناء الجماعة تتحلل أواصر الارتباط بها وينفرط عقدها، بل قد يفنى أفرادها. ولكن، وبالمقابل، فإذا إفتقدت الجماعة القدرة على الابتكار والتجديد، فإنها تضعف أمام الجماعات الأخرى الأكثر قدرة وكفاءة.
فالجماعة بقدر ما هى فى حاجة إلى تعاون أفرادها وتماسكهم لحمايةاستقرارها وبقائها، فإنها أيضاً فى حاجة إلى التجديد والابتكار واكتشاف المجهول للبحث عن الجديد وتحسين قدراتهاالإنتاجية. فالمجتمع كل مجتمع فى حاجة إلى الإستقرار والتماسك، وبالتالى «التعاون» فى إطار مقبول من القيم والتقاليد المستقرة، ولكن المجتمع يتآكل مع الجمود والتحجر وعدم التجديد، وهو كثيراً ما يكون فى «منافسة» مع مجتمعات أخرى بل وبين أفراده، وعليه أن يحتفظ بحيويته وقدرته على التطور والتغيير. وهكذا فإن على المجتمع الصحى السليم أن يحقق درجة من التكامل والتعايش بين إعتبارى «الإستقرار» و»التغيير». وكل منهما يغذى الآخر ويقويه. وقد سبق أن نشرت كتاباً منذ فترة بعنوان « التغيير من أجل الإستقرار» (1992). وقد صدر هذا الكتاب فى وقت كان الخطاب السياسى السائد، يقاوم «التغيير» بحجة أن «التغيير» يمكن أن يعكر أجواء «الإستقرار»، كما لو كان هناك تناقض بين الأمرين. وكانت دعوة الكتاب آنذاك هى التأكيد أن العكس هو الصحيح، وأن ما يهدد «الإستقرار» هو الجمود وليس التغيير. فسنة الحياة هى التغيير وملاحقة التطورات، إن لم يكن العمل على إستباقها. وعبرت عن ذلك، آنذاك، بأن «الإستقرار» يتطلب توازناً مستمراً بين ظروف الحياة المتغيرة من ناحية، والنظم والقواعد المستقرة من ناحية أخرى. وهو توازن لا يتحقق إلا بمتابعة هذه التطورات وأحياناً بالإسراع بها وليس بالوقوف أمامها، فهو «توازن متحرك»، أقرب إلى توازن راكب الدراجة، حيث يستمر توازنه طالما ظل متحركاً إلى الأمام، وفقط يختل توازنه ويسقط من فوق دراجته إذا توقف عن السير..»فالتغيير» هو حقاً من سنن الحياة، ولكن «الإستقرار» هو أيضاً إستجابة لإحتياجاتها.. واليوم أضيف إلى أن التغيير لا يتم فقط إستجابة لضرورات الحياة، وإنما أيضاً إستباقاً لها. وبطبيعة الأحوال، فإننا عندما نقول ان «الإستقرار» يحتاج إلى درجة من قبول «التغيير»، فلا يعنى ذلك أن المطلوب هو قلب الأوضاع رأساً على عقب، وإنما المقصود هو إتاحة المجال للتغيير والتعديل، وفتح الفرص أمام الأفكار الجديدة، وتشجيع المبادرة والإبتكار. وهى كلها خروج على المألوف دون أن تكون انقلاباً عليه، فهى نوع من المرونة التى تسمح بالحركة وإتاحة الفرصة للجديد دون هدم المعبد. فالتكامل والتعايش بين اعتبارى «التعاون» و»المنافسة» بما يتطلبه ذلك من «تجديد» مع «الاستمرار» ودون قطيعة أمر لا غنى عنه. وبذلك، فإن المطلوب هو مزيج من «التعاون» فى إطار من القيم والقواعد المستقرة، مع «المنافسة» للتحسين والاتقان وفتح آفاق جديدة فى ظل المعطيات المتجددة.. وبذلك يتعايش كل من «التعاون» و»المنافسة» فى معظم المجالات.. فالطالب أو التلميذ لابد أن يتعاون مع زملائه ويشاركهم فى أنشطتهم داخل الفصل، كما فى الحوش وخارج المدرسة، ولكنه يتنافس ليحصل على أعلى الدرجات. ونفس الشئ بالنسبة للموظف فهو ليس فى صراع مع زملائه، بل هو يتعاون معهم، ودون ذلك يتوقف سير دولاب العمل، ولكن هذا لا يمنعه من محاولة التميز وإبداء الآراء والإقتراحات التى تحسن سير العمل وتؤدى إلى تقدمه الوظيفى، وهكذا.. بل ان التاجر، وحيث يباشر نشاطه فى مجال يتميز أساساً بالمنافسة، فإن عليه أن يوثق أيضاً علاقاته مع منافسيه، وهو فى حاجة إلى التعاون معهم لضمان استقرار تقاليد المهنة وحرصاً عليها.. وهكذا نجد أن الجميع، يمارس بدرجة أو أخرى أشكالاً للتعاون والمنافسة، وبما يضمن «الاستقرار» من ناحية، ويتيح «التقدم» والتميز من ناحية أخرى. ورغم كل هذا، فإن هناك مجالات يغلب عليها «التعاون» بدرجة أكبر، ومجالات أخرى تتميز «بالمنافسة» والمناورة والتجديد والمبادرة بشكل أوضح.. ويمكن أن نميز هنا بين مجالين، الأول يغلب عليه اعتبارات «التعاون»، والآخر يتميز بحاجته بدرجة أكبر إلى المنافسة والمبادرة.. والمجال الأول هو مجال «العلاقات الاجتماعية»، والمجال الآخر هو مجال «النشاط الاقتصادى»، ففيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية داخل الأسرة، أو مع الجيران، أو فى العمل، أو فى آداب السير فى الطريق، وغيرها من مظاهر التواصل المجتمعى فإننا هنا نكون عادة بصدد مجال تحكمه قواعد وآداب التواصل والنجدة والمجاملة والحرص على شعور الآخرين.. وهكذا. فهذا مجال تغلب عليه اعتبارات «التعاون» واحترام مجموعة مستقرة من القواعد والقيم الأخلاقية والتى تتميز بقدر كبير من الاستقرار والدوام. وإذا كان من الطبيعى أن تعرف هذه المجالات بعض التغيرات، فالغالب عليها الاستقرار أو التطور البطئ.. وإذا انتقلنا إلى المجال الاقتصادى، فإن المحرك الأساسى فيه هو «المنافسة» والقدرة على الابتكار، بل وأحياناً المغامرة، إن لم يكن، المقامرة. فإذا كان الإستقرار والتقاليد هو طابع «العلاقات الإجتماعية»، فإن التجديد والمبادرة والرغبة فى التميز هو أهم ما يميز «النشاط الإقتصادى». وهكذا يتمايز السلوك فى المجالين.. فالعلاقات الاجتماعية تقوم على قيم الإنصاف فى المعاملة والكرم فى التصرفات والتضحية من أجل الغير ومساعدة الضعيف. أما العلاقات الاقتصادية فإنها تستند إلى مفهوم «الانتاجية» وانتهاز الفرص المتاحة واتخاذ المبادرات غير المتوقعة.. وهكذا نجد أنفسنا، بصدد قواعد مختلفة وإن كانت متكاملة للسلوك.. ولكن ذلك لا يعنى أن السلوك الاقتصادى يفتقد الأساس الأخلاقى، بل العكس تماماً، فأهم قيم النشاط الاقتصادى هى الأمانة فى العمل والوفاء بالعهد وأداء الالتزامات فى مواعيدها.. ولكن نظراً لأن النشاط الاقتصادى أكثر ارتباطاً بتطور التكنولوجيا وفتح الأسواق وإقامة العلاقات التجارية، مما يتطلب يقظة وسرعة وبالتالى الحاجة إلى التغيير والتطوير، وليس بغريب أن تجد نفس الشخص يعمل فى إطار نشاطه الاقتصادى فى إطار من المنافسة الحادة، فى حين أنه شخصياً وفى إطار النشاط الاجتماعى يغدق بسخاء للأهداف الاجتماعية من مساعدة الفقراء أو تقديم الدعم للطلبة المتفوقين أو بناء المستشفيات للمحتاجين، وهناك، فى عديد من البلدان، تقاليد مستقرة بقيام كبار الأثرياء بنشاط اجتماعى كبير كنوع من المسئولية الاجتماعية. ويبرز هذا النموذج بشكل خاص فى الولاياتالمتحدة. فأمثلة مثل بافت Buffett أو بيل جيتس Bill Gates من أكبر أثرياء أمريكا، ومن المشهورين بضراوتهما فى المنافسة بلا رحمة مع منافسيهم، ولكنهما مع ذلك أكبر المتبرعين لأعمال البر. وهناك تقاليد قديمة ومستقرة بتنازل كبار الأثرياء عن ثرواتهم أو أجزاء منها لإنشاء مؤسسات علمية أو مجتمعية مثل إنشاء جامعة ستانفورد أو معهد كارنيجى.. ولم تخل مصر من مبادرات مماثلة مثل إنشاء جامعة فؤاد الأول أو مستشفى المواساة بالإسكندرية، فضلاً عن امثلة عديدة من بناء المساجد والكنائس. وهكذا يتضح أن المجتمع السليم هو مجتمع متعدد الأبعاد، فهو مجتمع متماسك تحكمه مجموعة من القواعد والقيم الراسخة والتى توفر لهاالاستقرار والاستمرار خاصة فى إطار العلاقات الاجتماعية، فى نفس الوقت الذى تسوده أخلاقيات المبادرة والابتكار لزيادة القدرات الإنتاجية والتنافسية فى مجال الاقتصاد. ومفهوم «الاستقرار» لا يقتصر على الحاضر، بل ان له بعداً مستقبلياً، فإذا كان المستقبل يتطلب آفاقاً جديدة، فلا بد من سبرها، وإعطاء الفرصة لمن لديهم هذه الرؤية المستقبلية، من اقتناص هذه الفرص، مع تحمل مخاطرها بالكسب أو الخسارة. ومن هنا أيضاً، فإن مفهوم «العدالة» ينبغى أن ينظر إليه من خلال رؤية مستقبلية، وأن زيادة القدرات الإنتاجية الآن، هى ضمانة لإمكانية توفير العدالة غداً. فالعدالة الحقيقية لا تتحقق إلا فى مجتمع يتمتع بالكفاءة والقدرة. ومن هنا فإن تشجيع هذه الكفاءات ليس فقط مكافأة للمخاطرة، بقدر ما هو توفير الظروف المناسبة للعدالة فى المستقبل، لأنه لا عدالة مع الفقر. وزيادة القدرات الإنتاجية اليوم هو ضمان لمزيد من العدالة غداً، وكثيراً ما تناقش قضايا الكفاءة الإنتاجية كما لو كانت منافساً للعدالة، والحقيقة أن الكفاءة هى الضمان الحقيقى للعدالة. فكلما زادت قدرات وكفاءة البلد الإنتاجية زادت إمكانات تحقيق العدالة ودون ذلك ينحصر حديث العدالة على توزيع الفقر وتعميمه..فتقدم الأمم يتوقف فى نهاية الأمر على قدراتها الإنتاجية، مع الأخذ فى الاعتبار أنه يصعب تحقيق هذه الكفاءة طالما إستمر الشعور بانعدام العدالة والانصاف. وهكذا يتضح أن حديث التعاون والمنافسة ليس حديثاً عن أمرين متعارضين، بقدر ما هما جناحاً سياسية واحدة تضمن توفير أكبر قدر من التعاون والاستقرار، فى نفس الوقت الذى توفر فيه الفرص للتغيير من خلال المنافسة المشروعة. ويتضح من حديثنا السابق أن هناك أكثر من لاعب على الساحة.. فهناك ما يمكن أن نطلق عليه «المجتمع المدنى» أو الأهلى وهو الأكثر خضوعاً لاحتياجات «التعاون».. ولكن هناك لاعب آخر لا يقل أهمية وهو «القطاع الإنتاجى أو الاقتصادى» الذى يتطلب أكبر درجة من المنافسة، فاستمرار كفاءة الإنتاج لا تتحمل التراخى بل لابد من اليقظة والانتباه. ولتوفير التوازن بين اعتبارات التعاون وقيم العدالة من ناحية، واعتبارات الكفاءة والمنافسة من ناحية أخرى، فإن السلطة السياسية (الدولة) المدعومة بالتأييد الشعبى هى الحكم بينهما، فالدولة بمسئولياتها السياسية هى الحكم.. وبذلك، فإننا نكون إزاء ثلاثة لاعبين، يتكاملون مع بعضهم البعض.. هناك القطاع الأهلى أو المجتمع المدنى والذى تحكمه عادة قواعد وقيم أخلاقية راسخة، وهناك القطاع الاقتصادى وهو يعمل تحت تهديد المنافسة من الداخل والخارج، وأخيراً هناك الدولة وهى القيم على السلطة والحكم بين الجميع. وبذلك تتكاتف اعتبارات القيم والأخلاق (المجتمع المدنى) واعتبارات الكفاءة والمنافسة (القطاع الاقتصادى)، وإعتبارات سلطة الدولة (الذراع السياسية). والدولة هى الحكم النهائى للتوفيق بين التطلعات القيمية والأخلاقية من ناحية وبين المتطلبات الاقتصادية للكفاءة والمنافسة من ناحية أخرى. وإذا كانت الأسرة هى نواة المجتمع، وقوام هذه الأسرة هو رجل وامرأة، فوفقاً للدراسة التى أشرت إليها فى بداية المقال عن أن الرجل أميل إلى المنافسة فى حين أن المرأة أقرب إلى التعاون.. وقد نجح هذا التوافق الأسرى عند بداية التاريخ البشرى بالتوفيق بين اعتبارى التعاون والمنافسة، فإنه ليس مستغرباً أيضاً أن تنجح المجتمعات الحديثة بقدر نجاحها فى التوفيق بين اعتبارات «التعاون» كما يتطلبها المجتمع المدنى فى تطلعه إلى العدالة، وبين اعتبارات الكفاءة كما يحتاجها القطاع الإنتاجى فى تطلعه نحو الوفرة والرخاء. وعندما نتحدث عن الدولة أو السلطة السياسية، فإننا لا نتحدث عن حكم منفصل عن طرفين، فالدولة هى السلطة العليا وهى التى تضبط الإيقاع لكافة اللاعبين، وعلى هذا الإيقاع يعمل كل من المجتمع المدنى والقطاع الاقتصادى، فالدولة القومية، هى فى نهاية الأمر السلطة العليا ذات الرؤية.. وبطبيعة الأحوال، فإن نجاح هذه الدولة القوية لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستند إلى دعم شعوبها وبحيث تحقق طموحات الناس وتستند إلى دعمهم. والله أعلم. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي