يخطئ كثيرا من يظن أن الديمقراطية بسبب التسمية اليونانية القديمة- نظام سياسي غربي; إذا الواقع أن الديمقراطية تجربة إنسانية يفرضها العقل البشري, وتحتمها الأخلاق لتحافظ علي كرامة الإنسان وقيمته. وهكذا نستطيع أن نكشف بسهولة خطأ الأفكار المتداولة عن الديمقراطية لا سيما في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد...إلخ وأود أن أسأل أصحاب هذا الرأي: ما رأيك إذا قلنا لكم أن الثلاثة الكبار في العصر الذهبي للفلسفة اليونانية. سقراط ذ! الديمقراطية كانت شكلا من أشكال الحكم, ظهرت معه وقبله وبعده أشكال أخري كثيرة سقطت في مسار التاريخ الإنساني, وأخفقت علي محك التجربة البشرية, فقد مرت أثينا نفسها بحكم الطغاة, ومر علي غيرها من المدن النظام الأرستقراطي والأوليجاركي.. إلخ أشكال مختلفة ومتنوعة سقطت كلها وبقيت التجربة الديمقراطية التي أثبتت جدارتها وقيمتها حتي أصبحت اليوم الشكل السياسي النموذجي من أشكال الحكم, واكتسب المصطلح شحنات انفعالية سامية في السنين المائة الأخيرة حتي راحت الأنظمة الاستبدادية نفسها تتمسح في الديمقراطية فها هو سوكارنو في أندونيسيا يطلق علي نظامه الديكتاتوري اسم الديمقراطية الموجهة! ووجد النظام الناصري من المنظرين من يبتكر له اسما جديدا هو الديمقراطية بالتحسس!! فالقائد يتحسس مطالب الجماهير ويصدر بها قانون: أي استخفاف بعقول الناس!! حتي النظام الشيوعي( أيام الاتحاد السوفيات) أطلق علي نفسه لقب الديمقراطية الشعبية وقالوا لنا ان هذه هي الديمقراطية الحقيقية!! ومن يقول غير ذلك فسوف ندق عنقه!! يا أيها السادة هذا كله كذب وزيف سوف يكتشفه الشعب يوما, وليكن شعارنا جميعا عبارة هيجل الجميلة: أن الخنجر لا يقتل الأفكار!! وإذا تساءلنا وما الذي يقتل الفكرة إذن؟! كان الجواب هو فكرة مثلها؟!. والديمقراطية لا تعني برلمانا صوريا يحكمه الحكام الطغاة ويكون في النهاية بوقا لهم; يأتمر بأمرهم ويصدر قرارتهم تحت شعار الموافقة وليس المناقشة!!. أن الديمقراطية الحقيقية تعني حرية الرأي بالفعل( وليس الكلام عن حرية الرأي فحسب)!. الديمقراطية لا تعيش إلا مع اختلاف الآراء وتعددها, بينما ينمو التعصب مع الاستبداد وثقافة الرأي الواحد- برجاء التمعن في المثال الآتي:- في عام1972 وهو الذي سمي بعام اللاسلم واللاحرب- قامت مظاهرات تشق عنان السماء تهتف بسقوط نظام الحكم الذي يتلاعب بموضوع الحرب دون أن يبدو في الأفق أنه سيخوضها, وكانت معظم هذه المظاهرات من طلاب الجامعات. وخطب الرئيس السادات في المساء ووصف هؤلاء الطلاب بأنهم قلة منحرفة ضالة ومندسة- أما القاعدة الطلابية العريضة فهي سليمة والحمدلله! وبعدها بأعوام قليلة كان بوش الابن يستعد لغزو العراق(2003) وقامت مظاهرات في طول الولاياتالمتحدة وعرضها تهتف ضد نظام حكمه منددة بنواياه الآثمة وحججه المضللة الذي يبرر بها هذا الغزو, وذات مرة سأل الصحفيون الرئيس بوش وهم يحاورونه:- أرأيت المظاهرات الصاخبة ضدك؟ فأجاب ببساطة شديدة: وماذا في ذلك؟! إنه مظهر من مظاهر الديمقراطية!! وهذا حق ففي النظام الديمقراطي تنمو ثقافة الاختلاف. والتقدم رهن باختلاف الآراء وتعارضها, ومن صدامها تخرج الفكرة السديدة التي تدفع المجتمع إلي الأمام!.. أما الإستبداد فلا رأي فيه سوي الحاكم الذي لا يطيق رأيا آخر, بل يتم استنساخ الرأي الأوحد في جميع المجالات بحيث يصبح الأب في بيته مستبدا, والمثقف مع الأدني منه مستبدا, وكذلك يستبد كل متدين برأيه ويتمسك بصوابه ولا مانع من تكفير الآخر! ويصبح من يخالف النظام السياسي الحاكم ضالا أو منحرفا أو عميلا لدولة أجنبية بل حتي خائنا ويحتاج إلي المقصلة..! مع ملاحظة أنه يكثر تكفير الناس- لاسيما المفكرين بالطبع- ومن يخالف المثقف فهو جاهل وأحمق!- وهذا الجو الفاسد سببه نظام الحكم السياسي الفاسد, الحكم الديكتاتوري القمعي الذي لا يريد سوي رأي واحد! هو رأيه. أنظر في تراثنا إلي الوليد بن عبد الملك ماذا قال في خطبته الأولي بعد توليه الخلافة: أيها الناس عليكم بالطاعة, ولزوم الجماعة, فإن الشيطان مع الفرد, أيها الناس من أبدي ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه. ومن سكت مات بدائه- فقد كان جبارا عنيدا- أليس تاريخنا موصولا؟! ويذهب الفيلسوف الأمريكي جون ديويJ.Dewey(19521859) إلي أن النظام الديمقراطي هو النظام الأمثل والأفضل الذي تحتمه طبيعة الإنسان لكي تنمو وتزدهر, فالطبيعة البشرية إذا ما تركت وشأنها وتحررت من كل قيد عليها من الخارج, إتجهت إلي إنتاج مؤسسات حرة تؤدي عملها علي خير وجه وأفضله. كما أن الديمقراطية تعني الإيمان بأن الثقافة الإنسانية هي التي ينبغي أن تسود وتكون لها الغلبة علي غيرها, بمعني أن الجوانب الإنسانية من هذه الثقافة هي التي ينبغي أن تبقي. وخليق بنا أن نعترف أن القضية هي في النهاية قضية أخلاقية شأنها شأن أية فكرة أخري تتعلق بما ينبغي أن تكون.. إن تأثير وجهة النظر الإنسانية علي ديمقراطية في جمع أشكال الثقافة المختلفة من التربية والعلم والفن والأخلاق والدين.. وكذلك في الصناعة والسياسة هو الذي أيقظها من النقد الذي يوجه إليها. لأن الطريقة الديمقراطية هي من الوجهة النظرية طريقة الإقناع عن طريق المناقشة العامة لا في المجالس الشعبية وحدها بل في الصحف والمجلات, وفي الإذاعة والتليفزيون والمحادثات الشخصية وفي الاجتماعات العامة. وليس من السهل أن نجد طريقة أفضل مما تتميز به الديمقراطية, ولا شكلا من أشكال النظام السياسي يساعد إمكانيات الطبيعة البشرية علي أن تنضج وتؤتي أكلها, ومن أجل ذلك كان طريق الديمقراطية هو الطريق الشاق الوعر الذي علينا أن نسلكه. لكنه سوف يقضي علي الأنظمة العتيقة كلها النظام الدكتاتوري والنظام الأرستقراطي, والنظام الاقطاعي, والنظام الشمولي, وحق الملوك الإلهي, لأنها تتيح المجال الوحيد أمام الطبيعة البشرية, لكي تظهر إمكانية, فتزدهر وتبدع كالنبات الذي ينمو ويؤتي ثمارة إذا توافرت له التربة الصالحة والهواء النقي, أيكون الإنسان أقل احتياجا للهواء النقي من النبات؟! أيمكن له أن ينمو ويتقدم إذا لم يتنفس في حرية؟! وإذا كان ما يميز الإنسان هو الفكر أو العقل فكيف يمكن له أن يفكر بغير حرية في التفكير, وفي التعبير وفي المناقشة والإقناع..؟! ألم يقل جان بول سارترJ.P.Sartre(1905 ذ1980) ذ ز.. س س هي ما هية الإنسان إذا فقدها فقد وجوده معها!. لقد كان الشاعر الأسباني لوركاLorca(19361898).. يقول لحبيبته: ما الإنسان دون حرية ياماريانا..؟ قولي لي كيف: كيف أستطع أن أحبك إذا لم أكن حرا؟! كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟.... ركيزتان أساسيتان للديمقراطية: الأولي: الحرية, والثانية المساواة- وبهما فرض النظام الديمقراطي نفسه علي الأنظمة الأخري وأزاحها من طريقه ليصبح هو النظام الأساسي للإنسان بما هو إنسان لا من حيث هو شرقي ولا غربي ولكن من حيث هو إنسان فحسب ما هيته الحرية ومطمحه أن تتحقق بالفعل في عالم الواقع. ومن هنا, جاءت حتمية الديمقراطية بوصفها تجربة سياسية فريدة علي الرغم من أن فكرة المساواة فكرة حديثة. إلا أنها جاءت قديما عند أرسطو وهو يتحدث عن فكرة العدالة في الكتاب الثالث من كتابه: الأخلاق إلي نيقوما خوس حيث يذهب إلي أنه ينبغي ألا يكون هناك تميز بين الناس المتساوين من جميع الوجوه- وحبذا لو ترجمنا كلمة المتساويين هنا ب النظراء أو الأنداد, فهذا هو بالضبط ما يعنيه المعلم الأول فهو لا يتحدث عن جميع الناس, وإنما هو يقصد فقط المواطنين اليونانيين الذكور ممن لهم حق الاشتغال بالسياسة أو ممن تجاوز سن العشرين, فهؤلاء ينبغي ألا نفرق بينهم في المعاملة أو في الحقوق.. وهكذا يظل القول بأن المساواة فكرة حديثة قولا سليما فما الذي نعنيه بهذه الفكرة؟!. الواقع أن المساواة في الأمور المادية سهلة ميسورة فنحن نفهم معني قولنا أن شيئين متساويان في الحجم أو الوزن أو الكثافة, وقل مثل ذلك لو قلنا ان رجلين متساويان في الطول أو الوزن; فالمساواة تعني هنا أن الطول واحد, أو أن الوزن هو نفسه.. في الحالتين. ولكن ما ان تتحدث عن المساواة بين الموجودات البشرية حتي تبدأ المشكلات في الظهور. فما الذي نعنيه علي وجه الدقة عندما نقول ان المساواة هي الركيزة الثانية للديمقراطية؟ واضح أن الناس لا يمكن أن يتساووا من الناحية البدنية العقلية, وأسوأ فهم للمساواة هو ذلك الذي يجعل الناس جميعا متساوين من جميع الوجوه وهو أقرب إلي التعبير الفلسفي الذي يقول وضع الناس علي سرير بروكرستProcrustes وهو قاطع طريق في الميثولوجيا اليونانية كان يقطن مفترق طرق علي الجبل ويدعو الغرباء لزيارة مسكنه ولم يكن لديه سوي سرير واحد يرغم الزائر علي النوم عليه, فإذا كان أطول من السرير قطع الزيادة, وإن كان أقصر شده حتي الموت- وهو يقضي عليهم في الحالتين لولعه الشديد بالمساواة التامة- كلا! ليست المساواة علي هذا النحو الساذج الفج التي تعني المساواة بين الناس جميع الناس, وإنما هي تعني المساواة بينهم وبين شئ ثالث وهذا شئ الثالث هو القانون أو هو الفرص أو الوظيفة.. إلخ. والمساواة في الديمقراطية مثلها مثل أي فكرة فلسفية أخري لم تظهر دفعة واحدة لكنها كانت تتحدد وتتضح خلال مسيرة الديمقراطية, فعلي الرغم من أن جون لوك مثلا كان يقول ان البشر يتساوون جميعا, فإنه كان يقصد الرجال فحسب فهم وحدهم أطراف العقد الاجتماعي كما ذهب روسو إلي أن النساء غير مؤهلات للأشتراك في العمل الديمقراطي. ولم تظهر فكرة المساواة بين الجنسين إلا مع جون ستيوارت مل في القرن التاسع عشر. وهكذا كافحت البشرية طويلا لكي تحقق الشعار الديمقراطي الرائع: لا تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين! والمساواة في الديمقراطية مثلها مثل أي فكرة فلسفية أخري لم تظهر دفعة واحدة كلنها كانت تتحدد وتتضح خلال مسيرة الديمقراطية, فعلي الرغم من أن جون لوك مثلا كان يقول أن البشر يتساوون جميعا, فإنه كان يقصد الرجال فحسب فهم وحدهم أطراف العقد الاجتماعي كما ذهب روسو إلي أن النساء غير مؤهلات للاشتراك في العمل الديمقراطي. ولم تظهر فكرة المساواة بين الجنسين إلا مع جون ستيوارت مل في القرن التاسع عشر. وهكذا كافحت البشرية طويلا لكي تحقق الشعار الديمقراطي الرائع: لا تمييز بسبب اللون أو الجنس