يشير الازدهار الروائي إلي الحاجة إلي الفن الذي يواكب أشواق الحياة ويلبي حركة المجتمع في تطوره وتمدنه وتحديثه, ورصد المردود علي الذات البشرية فكرا, وسلوكا, وقيمة. ولقد بات الاقبال علي الرواية كتابة وقراءة أمرا أدبيا واضح الدلالة, حتي أدي الأمر إلي أن يتخذ بعض الأدباء الكبار موقفا مضادا لهذا الفن المزاحم, وكأنهم يخشون علي الأدب من سطوته المهيمنة... وكان عباس العقاد بحسه النقدي الأصيل, وانحيازه إلي التراث, وحبه للشعر... يدرك أن الفن الروائي بدأ يفرض سيطرته ويجمع قراءه ومح وكان العقاد مع ذلك يري أن الشعر مازالت له السيادة القولية, وأن الاقبال عليه لايزال قويا... لقد كان يتوجس من حركة الحكي المتزايدة, ومن كثرة التفاصيل التي تصيب القاريء بالملل, ويري أنها أشبه بالخرنوب الخروب... قنطار من خشب ودرهم من الحلاوة.. وكان العقاد يري أن الثمار طبقات... فالحديقة التي تنبت التفاح لايلزم أن تكون في خصبها ووفرة ثمارها أو في من الحديقة التي تنبت الجميز أو الكراث, ولكن الجميز والكراث لا يفضلان التفاح, وإن نبتا في أرض أخصب من الأرض التي تنبته. وكان العقاد في هذا المجال يردد أن صفحات كثيرة من رواية ما قد لا تعطي ما يعطيه بيت من الشعر.. ويضرب لذلك مثلا بقول الشاعر... وتلفتت عيني فمذ خفيت... عني الطلول تلفت القلب فالأداة في البيت الشعري موجزة سريعة.. وهكذا الشعر كثافة ومجاز... ولكن الرواية لا تصل إلي مثل هذه الدلالة إلا بعد تمهيد وتشعيب وتفصيل, ويذكر العقاد أن الذين بالغوا في تقدير القصة وبيان قيمتها, وإعلاء مكانتها كانوا متأثرين بالدراسات النفسية وما صحبها من ضجة تري أن القصة هي المعرض الوحيد للكشف عن العقد النفسية, وأنها الوسيلة لفهم العلاقات, وتفسير المواقف, فأثرت بذلك كما يقول في الدهماء وجذبتها إلي صفها وآزر موقفها وجود فن السينما وتزايده. ولقد سجل العقاد رأيه هذا علي صفحات مجلة الرسالة وحاور منتقديه... وكان نجيب محفوظ كما يورد دكتور جابر عصفور يحتشد نفسيا وهو الروائي المهتم بما يثار حول الفن الأثير لديه ليكتب مقالا حول رأي العقاد في الرواية, وسجل رأيه هذا عام1945. يري نجيب محفوظ أنه في الفن الجيد قصة كان أو شعرا ينمحي التنافر بين الأداة والمحصول.. لأن كل فن في ذاته يشترط الانسجام الكلي, وعلي هذا فإن التفاصيل التي يراها العقاد عيبا ليست سوي صورة من الحياة بأبعادها ومواقفها, وكل ما يرد فيها من موقف أو تعبير أو سرد أو حركة إنما يتشارك عضويا في إحداث نغمة عامة لها دلالتها النفسية والإنسانية. فإذا كان للشعر بلاغته فإن للرواية أيضا بلاغتها المتآزرة مع إيقاع العصر.. وهذا ما يجعلها تنتشر في طبقات متعددة لسهولة عرضها وتشويقها. ويري نجيب محفوظ أن السهولة ليست عيبا يجرح الذوق ويقلل من القيمة, ولقد جذبت الرواية لسماء الجمال قوما لم يستطع الشعر علي قدمه ورسوخه أن يرفعهم.. وإذا كان الشعر كما يري قد ساد في عصر القطرة والأساطير فإن عصر العلم والصناعة والحقائق يحتاج إلي فن جديد يوفق بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه القديم إلي الخيال... وهذا الفن هو الرواية.. هذان صوتان أدبيان متباعدان قد رسما لنا جدلا دار حول أزدهار فن الرواية في العصر الحديث حتي أصبحت الرواية علامة علي هذا الزمان... وفي الدلالة العميقة فإن كليهما يتفقان علي أن لكل فن نسقه الخاص وجمالياته... وقراءه المحبين وأن فنون الأدب تتلاقي لمخاطبة الوجدان والقيمة والمدرك الإنساني معا.