في مهد الطفولة، ترعرعت ببيت قروي فريد من نوعه... لم يكن بيتاً.. لم يكن كوخاً.. كان منزلة بين المنزلتين.. أرضية من الطين الرطب... سقف من القش والحطب المفرود على عروق من الخشب الذي أصبح شديد السواد بفعل تراكم أدخنة الموقد حتى أصبح مثل وجوه الكفار فى المسلسلات الدينية. وطبعاً لا أنا ولا الجن الأزرق نفسه كان يعرف ماذا يدور فى خلد أحدهم حين كتب على جدران البيت من الخارج بخط بدائي: «ومن شر حاسد إذا حسد»، إذ ما الذي يمكن أن يحسدنا عليه الآخرون حقاً؟ الباب الرئيسي ضاع لونه الأصلي منذ زمن بعيد بفعل عوامل التعرية وأصبح فى أمس الحاجة إلى لمسة حنان وأنت تفتحه وإلا أنَّ أنيناً موجعاً يثير التعاطف.. تدخل البيت فيقابلك ما كنا نسميه «الحوش»، المرادف الريفي للصالة، غرفة أبى وأمي على يمينك تليها غرفتنا أنا وإخوتي نهلة وعزة وطارق، أما غرفة جدى وزوجتيه فعلى شمالك، تليها غرفة عمتي تركية وعمتي حبشية. بعد ذلك، تلتقى وجهاً لوجه مع: «باب الوِسط»... هكذا كان يسميه جميع من فى البيت. كان ناعم الحواف وكأنه استهلك طناً من مساحيق البشرة، حالك السواد ولا لون شعر أنجلينا جولى فى فيلم Salt. أى مزاج رائق هذا الذى لاحظ صاحبه أن الباب يتوسط بالفعل الحوش والدوار فأطلق عليه هذا الاسم؟ تفتحه فيصبح منك للسماء مباشرة، فالدوار ما هو إلا قطعة من الأرض الفضاء المحددة بسور يستطيع أى حرامى تحت التمرين تسلقه بسهولة.. استخدام الحمام كان امتيازاً خاصاً ينعم به الكبار وحدهم... وكل أفراد الأسرة كبار، أما أنا فلى رب اسمه الكريم وشاطئ يا ما شاف منى،. أذكر أنى رأيت ذات مرة فيما يرى الصاحى تواً من أحلاها نومة ثعبان «شراقى» يطل من بين أكوام الطين الذي تستخرجه كراكات وزارة الري لتعميق وتوسيع مجرى الترعة وتتركه كماً مهملاً على الطريق فيجف ويتحول سريعاً إلى ملاذ آمن لمتشردى الزواحف. كان الثعبان يتمطع فى كسل، كمن يتساءل لماذا استيقظ فى هذا الصباح الباكر، وكأنه لا يكفى أن تتحول أشد لحظات البشر خصوصية إلى عرض مجانى على المسرح المكشوف من طفل أعطى ظهره للترعة، فإذا بنجم الزواحف السامة يقرؤه السلام... لم أُكمل نداء الطبيعة ذلك الصباح ولا الصباحات التالية، فربك والحق لم أكن بطل عرض مسرحي بل بطل فيلم رعب جعلني أفكر – لاحقاً – ألف مرة قبل أن أستجيب للنداء. الآن يمكنني أن أقسم لك أنه لازال يحضرني ذلك المشهد كلما جلست إلى قاعدة فخيمة فى حمام واسع، أرضيته من البورسلين، وتفوح منه رائحة الفل والياسمين، وتكسو جدرانه لوحات عالمية لموج ازرق و غابات مطيرة ..