مصر أولا لا تعني أبدا الانغلاق علي الذات, ولكن تسخير الداخل والخارج لكي تستغل الطاقات والقدرات المصرية إلي أقصي قدر, وفي الوقت نفسه نتجنب الاستدراج الذي يفرغ ما لدينا فيما لا يفيد. وبصراحة لا نستمع لمن يهمس في آذننا أن بلدا شقيقا علي وشك الوقوع ضحية العدوان, ثم نكتشف أننا دخلنا حربا دون أن تكون هناك دعوة لنجدة. ولا نقبل, كما حدث خلال حرب أكتوبر, من يضغط علينا لكي نطور هجوما تخرج بمقتضاه جيوشنا الظافرة من تحت مظلة الدفاع الجوي لكي تنقذ ذات الشقيق فإذا بها تقع في مصيدة ما لا تقدر وتطيق, وتحدث الثغرة, ولولا حكمة مصر أولا لما جري إنقاذ النصر. ولكن المسألة كلها ليست في التاريخ حيث الأمثلة, ولكنها قابعة في المستقبل. ومن الممكن أن نلعن, أو يلعن بعضنا وهم يلعنون في معظم الأوقات, الأزمنة القديمة; ولكن اللعنة لا يصير لها معني ما لم يكن لدينا طريق آخر إلي المستقبل أفضل في كل المناحي مما اخترناه حتي الآن. وطالما أن الثورة جاءت فلتكن إذن من الثورات التي تبني وتقيم وتشيد وتشمر الأذرع نحو عالم لم تزره مصر من قبل. ولا يجوز أن نرفع الأعلام, ونتحدث عن الأحلام, بينما لا نعرف الطريق الذي نسير فيه, بل إن لدينا القدرة الدائمة علي الاستعراض وطالما حمل الملك التبعة في التخلف, والرئيس السابق تبعة الفساد, فإن البراءة تكفينا لكي تبقي كل الأحوال علي ما هي عليه, بل إنها تزيد سوءا. نعلم أن زمن الثورات له ثمن, واحتاجت الولاياتالمتحدة ثلاثة عقود لكي تعود مرة أخري إلي نفس ناتجها المحلي الإجمالي قبل الثورة الأمريكية. ولكن ذلك لا يعني أن يكون ذلك هو الحال الآن, فأوروبا الشرقية لم تستغرق أكثر من عقد واحد حتي تنتقل من صفوف الدول الراكدة إلي قلب الدول المتقدمة, وفي آسيا فإن مضاعفة الدخل القومي لم يحتج أكثر من خمس سنوات. الوصفة معروفة, ولم تعد هناك حاجة لاختراع العجلة من جديد, فمصر أولا ليست قيدا حديديا, وإنما هي طريق يبذل عليه العرق, وتنظف فيه العقول من خلال تعليم يليق بالقرن الحادي والعشرين, بنفس الدرجة التي تنظف فيها المدن والقري, ويجري بعث الرمال والصحراوات والشطآن والبحار والبحيرات والجزر والسهول. كل ذلك طرقته بلاد سبقتنا من قبل, لم تقف لكي تلطم الخدود, وتلوم العصور, بينما التاريخ القادم يضيع من بين أصابعنا كما ضاع منا تاريخ ذهب. [email protected] المزيد من أعمدة د.عبد المنعم سعيد