تمر المنطقة العربية اليوم بواحدة من أصعب حقبها الفكرية والدينية ضبابية وغموضا وخطورة, ومن أعقد فتراتها السياسية والأمنية صراعا واقتتالا وحروبا. فانتشار الأفكار التخريبية، وتصاعد الدعوات التفكيرية، وازدياد الأعمال الإرهابية، وتحولها إلى ما يشبه الممارسة الطبيعية لدى البعض، يمثل خطورة حقيقية على أمن الدولة واستقرارها وعلى تماسك المجتمع وترابطه ووحدة كيانه. بما يفرض ضرورة المعالجة السريعة والناجزة والدقيقة لمثل هذه التهديدات التى تزداد اتساعا وتعمقا وتجذرا فى أعماق المجتمعات، بهدف تفكيكها واعادة رسم حدودها إما على أسس دينية أو فئوية أو مذهبية- طائفية أو عرقية، وهو ما يحقق أهدافا دولية وطموحات إقليمية سعت إلى تفكيك الدول العربية والاسلامية وجعلها فئات وقبائل تقاتل بعضها بعضا، وليس أدل على ذلك مما يجرى اليوم فى اليمن الذى يدخل بصعود الدور القبلى إلى واجهة الصراع، مرحلة جديدة ترسخ لأسس الانفصال ليس على أسس مناطقية أو حتى مذهبية وإنما على أساس قبلى، وهو الأمر الموجود وإن كان بدرجة أقل فى ليبيا. ما نود قوله إن تصاعد الدعوات التجزيئية والتكفيرية التى تواجهها المنطقة تستوجب معالجة غير نمطية، ورؤي غير تقليدية قادرة على التصدى بحزم إلى تهديداتها ومخاطرها وتداعياتها، وإلا نكن شركاء مع هؤلاء فى تحمل المسئولية التى تؤول إليها الاوضاع، مع الأخذ فى الاعتبار أن المواجهة المطلوبة لهذه الأفكار التكفيرية والدعوات التقسيمية لا يمكن أن تتحقق بعقد مؤتمر دولى/ إقليمى أو بتجمع رسمى/غير رسمى يخرج بتصريحات وبيانات لا تغنى ولا تسمن من جوع، وإنما يتطلب الأمر وضع استراتيجية واضحة المعالم ومحددة الآليات والاجراءات كى نستطيع أن نقف فى المواجهة بصلابة وبقوة. وفى محاولة جادة لوضع ملامح لهذه الاستراتيجية التى تتطلب تكاتف الجميع، يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات: الأولى، من المهم أن يفهم الجميع أن طبيعة العقل التكفيرى هو عقل سطحى غير متعمق، فينظر إلى الأشياء والقضايا نظرة سطحية، غير قادر على التمييز الفعلى والحقيقى لبواطن الأمور وجوهرها. كما أنه غير قادر أيضا على التفاعل بايجابية مع المتغيرات والتطورات التى قد تشهدها المجتمعات، حيث يظل واقفا أمام جمود النص، بما يضفيه من قداسة للتفسير والاجتهاد البشرى إلى قداسة النص الالهى، حيث يعتبر أن هذا التفسير جزء من النص وأنه بدونه لا يمكن أن يرى النص تطبيقًا على أرض الواقع. فى حين أن التغيرات والتحولات التى تشهدها البشرية كل يوم تؤكد أن النص القرآنى قادر على التعامل بمرونة عالية مع الوقائع والاحداث المتغيرة دون أن يفقد قدسيته أو دلالته. الثانى، أن الفكر التكفيرى لا علاقة له بالدين والصراع بشأنه، وإنما هو مرتبط ارتباطا كاملا بالصراع السياسى وتحديدا الصراع على السلطة، يدلل على ذلك ان أول ظهور لهذا الفكر ارتبط بالصراع السياسى، حيث خرجت جماعة الخوارج التى أسست لهذا الفكر. وغنى عن القول ان هذه المعلومة من الأهمية بمكان أن تكون واضحة للجميع لأن توظيف الدين واستغلاله من أجل تحقيق مكاسب سياسية يظل أمرًا محكوما عليه بالفشل. فقدسية الدين ومكانته ترتقى به إلى ما فوق مثل هذه الصراعات السياسية. مع ضرورة الأخذ فى الاعتبار أن هذا لا يعنى فصلا للدين عن السياسة وإنما يعنى من وجهة نظرى- أن توظيف الدين واستغلاله فى إدارة معركة سياسية أمر لا يتفق ومكانة الدين الحنيف وقدسيته. وعليه، فيجب أن يكون هناك تمييز واضح بين الدين الاسلامى بوسطيته وبسماحته، وبين بروز هذه التنظيمات الارهابية- التكفيرية مثل داعش وحلفائها التى تتستر بالدين وتتمسح فى مسميات خادعة للبعض حينما تصف نفسها بالدولة الاسلامية أو حينما أعلن قائدها اقامة الخلافة الاسلامية، وهو لا يعلم حقيقة الخلافة وشروطها وكيفية تنظيمها لشئون الدول والمجتمعات. الثالث، ليس صحيحا أن مسئولية مواجهة هذه التنظيمات والجماعات التفكيرية- الارهابية تقتصر على الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية فحسب، وإن كانت المسئولية تقع بصورة أكبر على عاتقها، إلا أنه من المهم التأكيد على دور المجتمعات ومؤسساتها المختلفة فى تحمل المسئولية فى مواجهة مثل هذه التنظيمات، بدءا من الأسرة التى يجب أن تقوم بمسئوليتها فى تحصين أبنائها ضد الفكر المنحرف، ودور المدرسة وخاصة المقررات والمناهج التى يجب أن تظل بعيدة عن جميع صور التطرف والغلو، مرورا بأجهزة الثقافة والاعلام ودورها فى تصحيح المفاهيم واجلاء الحقائق بعيدة عن أي تهويل أو تهوين من حجم المشكلة وتداعياتها، وصولا إلى دور المؤسسات الدينية وعلى رأسها مؤسسة الأزهر الشريف والاوقاف والافتاء فى ضرورة توضيح حقيقة الفكر التفكيرى وجذوره وظروف نشأته وأسباب انتشاره، والرد على شبهاته وافتراءته بالحجة والدليل والبرهان الشرعى والعقلى شريطة أن يتم صياغتها فى أسلوب سهل ميسر يصل الى الكافة ولا يبقى حبيس مستوى النخب والمتخصصين. نهاية القول إن محاربة الفكر التفكيرى والارهابى لا يمكن أن تكون بالآليات الأمنية فحسب، صحيح أنها مطلوبة فى إطار الدستور والقانون، كى تمثل ردعا سواء أكان ردعا خاصا أم عاما، إلا أنه من الصحيح أيضا أن موجبات المواجهة تتطلب وجود معالجات سريعة لعدد من الملفات القومية على رأسها ملف المحاكمات ضد رموز الانظمة السابقة التى فسدت وأهملت ومارست الارهاب فى حق الدولة والمجتمع، ومنها أيضا الملف الاقتصادى المتمثل فى معالجة الاوضاع الاقتصادية التى ترهلت كثيرا خلال الاعوام القليلة الماضية مع سرعة العمل على استعادة الاقتصاد الوطنى لقوته وقدرته على الانطلاق والجذب. ويظل فى النهاية قدرة الدولة وأجهزتها على ترسيخ ثقافة الحوار كوسيلة فاعلة للتغيير، لأن الفكر لا يُحارب إلا بالفكر، والحجة لا تد حضحها إلا حجة أخرى، والدليل لا يُذهبه إلا دليل أقوى منه. لمزيد من مقالات عماد المهدى