مدت ذراعها الواسعة تلملم أبناءها في صدرها المتشح بالآمان كبداية للدنيا.. رائحة الأمومة الطازجة كانت تفوح منها أناء الليل وأطراف النهار.. انكمشت سنوات في برودة الفقر وقلة الحيلة تحصي لحظات العمر وسارت سنوات عمرها وشبابها في مماشي الزمن السحيق. كانت تنطلق كرمح غادر في قلب الدروب وتتسابق مع نسائم الزمن الجاهل كي تحمي أبناءها الستة من تقلباته وغدره ويتنازعها الخوف من المجهول والإصرار علي الوصول بفلذات الأكباد لبر الامان، ولكن تاهت أحلامها علي الدروب البليدة، ودمر الابناء قلاع فرحتها، وغرسوا في آدميتها نصل الجحود والعقوق، وضاقت بها الدنيا وقررت التخلص من حياتها. هي عجوز تجاوزت السبعين من العمر لم تكفها الدنيا الفسيحة عن صور وكلمات أبنائها عن أعينهم ورائحة أنفاسهم ولون ضحكاتهم وتشبثهم بذيل جلبابها وهم صغار كانت تشتم رائحتهم عندما تهل عليها نسائمهم من بعيد وتعفر أقدامها البريئة بأحلام عمرهم المضيئة وببهجة المجهول ولم يدر بخلدها ان الصيحات الشيطانية سوف تدق اعماق قلوبهم ويتوهون عنها علي الدروب البعيدة وانها سوف تبكي قسوة قلوبهم وتحجر مشاعرهم وسوف يدفعها عقوق فلذات الأكباد إلي الانتحار. تناثرت دموعها في منديل ورقي رطبته الدموع بالألم وبللت الدموع أحلامها المنكسرة وفي نظرات الحسرة واللوعة روت حكايتها الحزينة وقالت إن أبناءها الستة صاروا الألم المنقوش في أعماق آدميتها، وأنهم وأدوا الفرحة بداخلها وكانوا الجلاد الذي توحد مع سنوات الألم والشقاء.. وتنكروا لسنوات عمرها التي وهبتها لهم حتي أنهكها المرض ونخر في عظامها. وقالت العجوز إنها تزوجت من ابن عمها المزارع وكان الفقر أنيسهما ويلاحقهما مثل الظل، ومع ذلك تحديا الجوع والعطش وأنجبا ستة من البنين والبنات ليكونوا لهما السند والحماية عند الكبر ومرت السنون وطرق المرض باب الاب المزارع وعجز عن العمل في الحقول ولم تجد الاسرة الفقيرة ما يسد جوعهم ويستر أجسادهم وزاد علي كاهلهم مصاريف علاج الأب المريض وباتت الحياة أمام الزوجة من ثقب إبره بعد أن ضاقت بها أسرتها وسئموا الإنفاق عليها وعلي أبنائها وزوجها المريض ولم تجد أمامها طريقا سوي الخروج للعمل. جابت الزوجة الشابة الحقول رامحة مثل سهم تجرد من قيود القوس المشدود وكانت تعمل في الزراعات في النهار وتفرح لخدمة أبنائها وزوجها المريض ليلا حتي طرق ملك الموت بابه وتركها ورحل بعد ان أثقل كاهلها بستة من البنين والبنات ويحاصرهم الفقر من كل جانب خشيت الزوجة علي مصير أبنائها واقسمت ألا يسيروا في الدروب التي مشي فيها والدهم الراحل وانها ستكون القنديل الذي يضئ لهم الطرقات العتمة حتي يحصلوا علي أعلي الشهادات ويعتلوا المناصب المهمة وواصلت العمل ليلا ونهارا لتوفير المال لهم لاستكمال دراستهم. رمحت الزوجة بأحلامهم بعيدا لتري الابناء وهم أطباء ومهندسين ومعلمين وابتسامة محفوفة بالخوف من المجهول ارتسمت علي شفاهها حتي أيقظها من أحلامها الألم الذي سكن عمودها الفقري. ابتلع الفقر سنوات صبا الزوجة وارقدها في تابوت العمل والصراع مع الحياة حتي تحقق الحلم الجميل والتحق الابن الأكبر بكلية الآداب والثاني بكلية التجارة والثالثة بكلية الحقوق والرابعة بكلية الزراعة والخامسة بكية الآداب والابن السادس التحق بكلية الهندسة، واستضاءت الأم بأبنائها وكانوا لها الظل الذي غطي علي كل حيطان العمر وأضاءوا لها قنديلا للأمل حتي انتهوا من دراستهم الجامعية وشق كل منهم طريقه في الحياة إلا أن الزوجة لم تسترح من عنائها فهي مقيدة بثلاث فتيات بلغن سن الزواج وفي انتظار من يطرق عليهن الباب وخاصم النوم جفون الام البائسة فمن أين تأتي بالمال لتجهيز بناتها واعتقدت أن في الابناء الذكور السلوي والحل وكانت البداية لرحلة الجحود ونكران الجميل. رفض الابناء مساعدة أمهم في تجهيز شقيقاتهم الثلاث وتفرغ كل واحد منهم لنفسه حتي بدأت الأم المريضة رحلة جديدة من الشقاء والتعب لتوفير المال كي تستر بناتها الثلاث ووقفت الاقدار بجانبها ورزقتها بأزواج أثرياء للشقيقات الثلاث وبعدها طرق المرض باب الام الصبور بعد أن أعتلي أبناؤها المناصب المهمة في مدينة الأقصر وتزوجوا من كبار العائلات واقاموا في الشقق الفاخرة وركبوا السيارات الفارهة، واعتقدت الأم أن أبناءها سوف يكونوا تحت أقدامها، فهي قد دفعت سنوات شبابها لخدمتهم وحان الوقت لرد الجميل. اشتد المرض بالأم وامتنع الابناء عن زيارتها بزعم الانشغال في العمل ودوامة حياة الأزواج والزوجات والأولاد واكتفوا بارسال مبلغ شهري لوالدتهم حتي بناتها الثلاث كن يترددن عليها مرة كل ستة أشهر لزيارتها ثم امتنعن عن زيارتها عدة أعوام وفتكت الحسرة بقلب العجوز عندما انفض عنها أبناؤها الستة وأحفادها العشرون وكادت الوحدة تفتك بها لولا الجيران واصحاب القلوب الرحيمة الذين كانوا يترددون عليها لخدمتها وتلبية طلباتها. استثمرت العجوز أيامها في البكاء والحسرة علي فلذات الاكباد وأفقدها جحود أبنائها إحساسها بالزمن وعاشت مثل عصفور انطوت بين جناحيه السماء فلم يجد سوي أحلام للبقاء ورفعت رأسها تستوقف اسفها علي ابنائها الذين تساقطوا في عتبات الأنانية والنذالة وانكمشت بداخلها السنين معلنة الانقلاب علي الحياة والبقاء وقررت ان تسطر بيدها شهادة وفاتها. في انحناءة العجز والكبر شقت العجوز الدروب وهي تتوكأ علي عصاها حتي وصلت إلي نهر النيل بالأقصر وسوس إليها الشيطان ان تلقي بنفسها داخل مياه النيل لتستريح من عناء انتظار أبنائها والشوق لرؤيتهم وسماع اصواتهم وشم رائحتهم ولو من بعيد ونظرت إلي الدنيا الفسيحة حولها نظرة المسافر وألقت بنفسها في النيل ولأن الاقدار لم ترتضي للأم البائسة أن تموت منتحرة وتخرج من رحمة الله ويكون مصيرها الهلاك في النار فقد جندت لها الاقدار «شرطيا» شاهدها وهي تقفز في النيل أثناء تأديته الخدمة في مكان قريب منها فقفز خلفها وتمكن من إنقاذها من الغرق وحملها علي ظهره حتي وصل إلي البر. تم نقل الام المكلومة إلي المستشفي وسردت تفاصيل حكايتها الحزينة لعل أبناءها يرق قلبهم لها بعد أن فضلت الموت عن الحياة بدونهم.