يفرض التساؤل عن الفلسفة والأهداف الحاكمة لعملية التعليم والتعلم فى مصر، الانتقال لتحليل ركائز السياسة التعليمية، وعلاقاتها باللحظة الراهنة وما تفرضه من تحديات خاصة بقدرتها على بناء إنسان مصرى عصرى يمتلك من الرؤية والأدوات ما يدعم بناء دولة ديمقراطية حديثة. التساؤل بدوره يعكس حجم الفجوة بين المستهدف والواقع، ويمثل خطوة أساسية ومبدئية نحو إصلاح شامل لمنظومة التعليم، فمتطلبات الإصلاح لا تقتصر فقط على مواجهة القصور القائم أو معالجة أوجه الخلل، ولكن يجب أن ترتبط بالرؤية الكلية للدولة المصرية وجملة السياسات الحاكمة لعملية تفعيل مقومات النهوض المصرية، وألا تقتصر فقط على تلبية الاحتياجات الأساسية من التعليم. التساؤل كذلك يشير إلى أن مشكلة التعليم فى مصر لا ترتبط بالتشخيص أو غياب الحلول، بقدر ما ترتبط بالرؤية الحاكمة للسياسة التعليمية وفلسفتها، ومواطن الضعف التى تكتنفها، ولذا يبدو أن المشكلة الأساسية ترتبط بالحاجة لصياغة رؤية تكاملية تحكم السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحدد التوجهات الحاكمة للدول المصرية ورؤيتها وموقعها فى المستقبل. فالحديث عن السياسية التعليمية لا يجب أن يكون بمعزل عن السياسة العامة للدولة، بل يجب أن تتكامل مع باقى تلك السياسات من أجل تحقيق الأهداف التنموية للدولة، وضمان التنمية المستدامة للمواطنين، وأن توفر قيمة مضافة لصالح المجتمع. وهو ما يقودنا إلى التساؤل حول التعليم ومحاور الفلسفة والأهداف المطلوبة: التعليم كمدخل للنهوض والتنوير يفترض التحول من أسلوب التعليم إلى أسلوب التعلم حيث الاهتمام بالبحث وتكوين مهارات التعلم الذاتى وليس التلقين والحفظ، كما يفترض مراجعة العديد من الأنساق الفكرية الاقتصادية والاجتماعية بالقدر الذى يسهم فى صهر كل أطياف المجتمع فى مشروع حضارى مستند إلى العلم والمعرفة، فالحديث عن النهضة والتنوير يتطلب رؤية ومؤسسات داعمة للتواصل للحضارى ومنتجة للمعرفة وقادرة على توليدها ونشرها. التعليم كمدخل لبناء مجتمع المعرفة يعنى أن تشكل المعرفة قيمة أساسية فى المجتمع ومحددًا لأنشطته وسبيلاً للإبداع والابتكار، وأن توظف المعرفة التكنولوجيا وتوافر المعلومات وتداولها من أجل تحقيق التنمية البشرية المستدامة، وهو ما يتطلب بالتبعية أدوارًا جديدة للمدارس والجامعات فى إنتاج المعرفة وتنميتها بالقدر الذى يسهم فى زيادة قدرات الطلاب على التعلم، ويوفر فرص مسايرة الثورة المعرفية وجنى ثمارها، والحد من تأثيراتها السلبية. فالحق فى المعرفة يشير إلى القدرة على توليد المعرفة من خلال تنمية القدرة على قراءة وتحليل البيانات والمعلومات، كمرحلة تالية لإتاحة المعلومات والبيانات والإحصائيات كحق للمواطنين، لما يوفره هذا الحق من وعى بعملية صنع القرار، وقدره على تفعيل آليات المحاسبية والرقابة، وتوفير القدرة على التخطيط السليم وتحقيق النزاهة والشفافية. إلى جانب محاربة الفساد، وإعطاء مساحات أكبر للحرية والنقد الذاتي. التعليم كمدخل لترسيخ القيم ودعم التنمية يمثل التعليم أحد السبل لتفعيل آلية بناء القدرات الخاصة بالمواطنين، وسبيلاً لتعزيز قيم المواطنة والمشاركة والمسئولية الجماعية تجاه المجتمع والدولة، شريطة أن تضمن منظومة التعليم عبر مكوناتها المختلفة فرصًا متساوية لبناء إنسان متمكن من المهارات الداعمة لتحسن مستوى معيشته، وتبنى مواطن ينتمى لثقافة بيئته ومجتمعه ودولته، ويدرك أهمية ماضيه ومتطلبات بناء المستقبل. فكثير من المظاهر السلبية والخطرة التى يشهدها المجتمع المصرى تشير إلى تغيرات كبيرة فى السلوك وتقلبات فى منظومة القيم، رغم كون هذه المظاهر ليست بالجديدة ولكن يبقى حجم انتشارها ومدى تحولها لواقع مجتمعي، مثل: نمو العنف، وتراجع قيم التسامح، وتزايد التعصب الدينى التى تترجمها حالة من الغضب والسيولة السياسية والاستقطاب المجتمعي، فضلاً عن تفشى ظاهرة الإرهاب، وتصاعد العديد من المظاهر الاجتماعية السلبية مثل الإدمان واللامبالاة، كمظاهر مباشرة لمجموعة من الأسباب يأتى فى مقدمتها انخفاض معدلات التنمية البشرية، وضعف كفاءة إدارة الموارد، وتنامى قضية الفقر وتزايد حالة الضعف الاجتماعى والإنسانى فى المجتمع، وهو ما يعنى حرمان الناس من حقوقهم كمواطنين بكل ما تنطوى عليه من مؤشرات تتعلق بحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. التعليم كمدخل للرقى والصعود الاجتماعى يعنى ذلك ربط المنظومة التعليمية بالعدالة الاجتماعية، فتوفير فرص التعليم للجميع والحديث عن المجانية تجاوز الجودة ولم يرتبط بالمساواة فى الفرص، فقد أسهمت مخرجات المنظومة التعليمية بتعدد أنماطها "ما بين حكومى وتجريبى وخاص ولغات ودولية" فى ترسيخ التميز الاجتماعى والاقتصادى عبر تعدد تلك الأنماط من مستوى الحضانة وحتى الجامعة. التعليم كمدخل للتنمية المستدامة إذا كانت عدم ملاءمة المناهج التعليمية والمقررات الدراسية للتطور العلمى المعاصر، وانخفاض جودة الخدمات التعليمية وغيرها من عوامل الضعف الناتجة عن مخرجات العملية التعليمية تسهم فى زيادة نسبة الأمية والفقر والبطالة فى المجتمع، فإن مدخل النهوض بالتعليم يتطلب التغلب على فشل النظام التعليمي، والاهتمام بالجودة والبحث العلمى والقضاء على الأمية الهجائية والرقمية بين المواطنين فى جميع الأعمار، لا سيما فى المناطق النائية والفقيرة. وتتجلى هذه التحديات مع تطور مفهوم التنمية من التركيز على النمو الاقتصادى إلى التنمية الاقتصادية إلى التنمية البشرية إلى التنمية المستدامة، بما يعنى الانتقال من مفهوم رأس المال البشرى إلى رأس المال الاجتماعي، بمعنى أدق؛ إن التنمية أصبحت تقاس بحجم الاستثمار فى البشر. تقودنا المداخل والسبل السابقة إلى منطق غياب الرؤية الإستراتيجية الحاكمة للكثير من مدخلات التعليم، فالعلاقة التشاركية بين الحكومة والقطاع الخاص والقطاع الأهلى غائبة على سبيل المثال، رغم مساهمة القطاعين الخاص والأهلى بوتيرة متزايدة خلال العشرين سنة الماضية، فلا مجال هنا للحديث عن قدسية التعليم وأهمية الاهتمام بالجودة وتجاوز متطلبات الربحية، والالتزام بنظام تعليمى واضح الأسس والأهداف، فالسلبيات فى القطاعات الثلاثة كثيرة والأدوار والمسئوليات تحتاج إلى إعادة نظر بالقدر الذى يحدث تكاملاً ويعزز العلاقة التشاركية. ولذا يجب أن تستند العلاقة التشاركية إلى حوار مجتمعى وإطار قانونى وتشريعى ضامن وحاكم للأدوار والمسئوليات، تشاركية تبدأ من مرحلة تحديد إطار صنع السياسة التعليمية مروًا بتنفيذ تلك السياسة، وانتهاء بالمتابعة والتقييم. لمزيد من مقالات أيمن السيد عبد الوهاب