لم يكن الانتصار المصرى المجيد فى أكتوبر 1973م انتصارا فارغا من المعنى، بل كان تعبيرا عن أمة تستعيد عافيتها وتكسر شوكة عدوها التاريخى فى المنطقة (العدو الصهيوني) ، وتثبت أن بإمكان الأمم عبور هزائمها وإخفاقاتها، وتحويل بوصلة الحياة صوب انتصار حقيقى يعيد لها كرامتها التى سلبت بفعل هزيمة الصيف السابع والستين. لكن الإنجاز المصرى الذى تحقق عبر دماء شهدائنا وجرحانا من القوات المسلحة المصرية الباسلة، لم يوظف لاستعادة مجد مصرى غابر، ولا حتى البناء على المشروع الناصرى الوطنى ، الذى منح المصريين أملا فى غد أكثر عدلا، لكن بدا واقع الحال المصرى عقب انتصار أكتوبر المجيد 1973م، مسكونا بالعقبات والأخطاء الكارثية التى حالت واستثمار حالة الانتصار وتحويلها إلى طاقة دفع للأمة المصرية والعربية من جهة، والتكريس للدور المصرى المركزى فى المنطقة والعالم من جهة ثانية، وربما بدأت الأخطاء مبكرا، منذ اتفاقية فصل القوات بين مصر وإسرائيل يناير 1974م ، والتى تبعها فى العام نفسه أول قرارات الانفتاح الاقتصادى 1974م، هذا الانفتاح الذى استكمل بناه الاستهلاكية الفارغة، واستثماراته الواهية التى خلقت طبقة جديدة من الطفيليين، بلا وازع من قيمة أو وطنية، وصنعت سياقا جديدا من تغليب قيم الأنانية والانتهازية، بحيث بدا الانفتاح الاقتصادى فى جوهره ضربا لجملة من القيم المصرية الراسخة، واستبدالها بأخرى، تعد تعبيرا عن عالم استهلاكى الطابع، مشغول بتلك القشرة الخارجية للأشياء، دون الغوص فى جوهرها والوصول إلى كنهها، والتحقت الرأسمالية المصرية السبعينية الجديدة بالرأسمالية العالمية، أمريكية الطابع والروح، وبدا القرار المصرى تابعا للقرار الأمريكى بحكم علاقات الاقتصاد، وبدأنا ندخل فى حالة مريعة من التبعية المقيتة التى تجاوزت حالة التبعية السياسية لتصل فى ذروتها إلى حالة من التبعية الذهنية، والتى أنتجت كمًّا من المحسوبين على الثقافة والسياسة ليسوا أكثر من أذناب للسيد الأمريكى المتربع على عرش منطقة آخذة فى التشكل، تعد مطمعا سرمديا لكل قوى الاستعمار قديمه وحديثه فى آن. وكان قبلها حرب النظام الساداتى ضد التيارات الناصرية واليسارية بتنويعاتها المختلفة، وإفساح المجال فى الآن نفسه للجماعات الإسلامية التى بدأت تتعاطى مع اللحظة السياسية بوصفها لحظتها المواتية تاريخيا، ونشطت التيارت الدينية المتشددة داخل الجامعات المصرية، فأطلت سنوات السبعينيات بجحيمها، ورأينا عنف الحركات الرجعية داخل المؤسسات الجامعية، ومحاولتها الدائمة لمواجهة التيارات الطليعية، فتمزق مجلات الحائط، وتحمل السلاسل الحديدية والجنازير، وتشتبك مع الاتجاهات التقدمية بتنويعاتها، وقد سعت السردية المصرية لرصد ذلك الواقع المثقل بالأسى والقسوة على نحو ما نرى فى رواية الإسكندرية فى غيمة للروائى الكبير إبراهيم عبدالمجيد، والذى ينحو فى نصه هنا أحيانا صوب وجهة توثيقية لواقع كابوسي، تزاوج فيه الفساد الرأسمالى بالرجعية المتأسلمة، فمثلا جناحين لتحالف بغيض ومشبوه يسعى للوجود دوماً، وربما تكشف المشاهد السردية المتتالية داخل هذه الرواية عن ذلك الوعى الماضوي/ الدموى الذى ينطلق منه الأصوليون، والذى يتجلى فى نهجهم فى تبنى خيار العنف، وما آلت إليه الأحداث فى السبعينيات داخل المؤسسات التعليمية جراء هيمنة الجماعات المتشددة ودعم النظام لها خلاصا من معارضيه الناصريين واليساريين. ثم كان للهجرة فى بلاد النفط أثر بالغ السلبية على الروح المصرية، والتى بدت فى التخلى عن سماحتها المعتادة لمصلحة قيم بدوية بنت سياقا مختلفا، وغزا النمط الوهابى فى التفكير الواقع المصري، وبدأت موجات عارمة من التدين الشكلى الذى لا قيمة له سوى تغليب المظهر وتغييب الجوهر، وبما سمح لحواة لتصدر المشهد المصرى العام تحت لافتة دعاة وشيوخ وأئمة فى سياق انحسرت فيه القيم الإنسانية الكبرى( الحق/ الخير/الجمال)، وحلت محلها قيم شكلية عن زى البشر وملابسهم وأشكالهم، مع أن الله تعالى لا ينظرلوجوه الناس ولا إلى ألوانهم ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم. ولجملة من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التى توحدت فيما بينها كانت انتفاضة الخبز فى يناير 1977، بوصفها تعبيرا عن قدرة فريدة للشعب المصرى على التعبير عن آماله فى غد أجمل، وقدرته على التنفيس عن إحباطاته فى هبة جماعية. استمر السياق السبعينى العاصف والذى تلا حرب أكتوبر المجيدة، غارقا فى تحولاته غير المبررة، فكانت اتفاقية كامب ديفيد عام 1977، والتى تلتها توقيع معاهدة السلام فى مارس من العام التالى 1979، وبما أدى إل تهميش الدور المصرى فيما بعد وتقزيمه لمصلحة قوى أخرى فى المنطقة، ثم كانت السنوات المباركية والتى كانت أشبه بالجرى فى المكان، فبقى كل شيء على حاله، فقر وتبعية واقتصاد لصالح قوى الرأسمالية التسعينية فيما بعد، وصولا إلى لحظات الغرق الفعلى على يد العصابة الإخوانية ومكتب إرشادها الفاشى والبليد. إن استعادة الدور المصرى الآن تتمة حقيقية لما حدث فى حرب أكتوبر المجيدة، وتلبية لنداء الدم الذكى الذى روى الأرض فى سيناء من قبل أمام العدو الصهيوني، ويرويها الآن أمام جماعات التكفير والإرهاب، يرافقه حتمية إفساح المجال أمام الحريات العامة تلبية لنداء آخر روت خلاله دماء المصريين الذكية الميادين المختلفة بحثا عن الحرية والكرامة، والعدالة الاجتماعية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله