اختلطت الأوراق بشدة فى منطقة الشرق الأوسط فى الأعوام الثلاثة الماضية من ثورات شعبية, حيث خرجت عامة الناس طلبا للتغيير والتخلص من أنظمة فاسدة إلى اختطاف تلك الثورات لمصلحة جماعات دينية وميلشيات مسلحة لعبت على وتر الوازع الدينى والإحباط من تجارب سابقة, وهو ما استدعى تدخلا من القوى الشعبية فى دولة كبرى مثل مصر وبدعم من الجيش للتخلص من سرطان التطرف والإرهاب البغيض ووصول قيادة جديدة إلى السلطة بانتخابات حرة نزيهة شهد لها العالم وبدء مسيرة إصلاح طال انتظارها، بينما تصارع دول أخرى (العراقوسوريا واليمن وليبيا) لبقاء الدولة على قيد الحياة، بعد أن تفشى الوباء السرطانى وباتت تلك الدول مسرحاً لألاعيب دول كبرى وأخرى إقليمية تغذى تيارات متطرفة مسلحة على حساب الاستقرار والوحدة فى تلك المجتمعات المنكوبة.. وسط تلك الغيوم الكثيفة، بلورت مصر فى عهدها الجديد رؤية متماسكة لما يتعين عليها أن تقف من أجله وما ينبغى عليها الوقوف ضده، وكانت مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسى فى أعمال الجمعية العامة، وطلبات من عشرات الرؤساء فى دول العالم للقائه برهانا ساطعا على سلامة موقفنا، ووقوفنا فى صف الأشقاء دون متاجرة بشعوب شقيقة، ودون أن نهتز فى مواجهة جرائم الإرهابيين ومسانديهم وأقول هنا إن الرئيس الأمريكى باراك أوباما خلال لقائه الرئيس السيسى اعترف بارتكاب أخطاء فى العراق... ووصف السيسى بأنه زعيم وقائد لدولة عظيمة وأن شعبيته بين شعبه أكبر من شعبية الرئيس الأمريكى بين شعبه. لقد كانت كلمات الرئيس، أمام الجمعية العامة، معبرة عن الموقف المصرى الصلب، رغم مكائد الصغار والمراهقين فى الداخل والخارج ووقف العالم احتراما للرجل، الذى صاغ رؤية متماسكة فى الحرب على الإرهاب ووضع العالم أمام مسئولياته فى سورياوالعراق وليبيا، وهى الرؤية التى وجدت تجاوبا من دول كثيرة اعترفت بعدم قدرتها على الرؤية السليمة للوضع الإقليمى وخطورة اللعبة الأمريكيةوالغربية التى دعمت تيارات الإسلام السياسى لسنوات طويلة، واليوم تدعى أنها تشن حربا لوقف جماعات دموية متوحشة مثل داعش وجبهة النصرة فى العراقوسوريا. الرؤية المصرية تنطلق من ضرورة تخلص المجتمع الدولى من مرض قصر النظر فى تعامله مع داعش وغيرها، حيث تكمن الخطورة فى محاربة جماعة بعينها وبعد انقشاع الغبار نجد أنفسنا فى متوالية من الأحداث الجديدة وخروج أكثر من داعش فى المنطقة العربية مادامت الدول الغربية لم تعلن صراحة عن امتناعها عن مساندة تيارات تنتهج العنف وسيلة للوصول إلى الحكم وتشوه الدين من أجل إقصاء الآخر وفرض رؤية واحدة على المجتمع. مصر تنطلق أيضا من نقطة أن بلدا مثل سوريا هو عمق إستراتيجي لمصر على الجبهة الشرقية وهى اليوم تتعرض للهدم بعد أن تعرضت للانكشاف بسبب تدمير العراق. لذا ووفقا للتجارب السابقة فى التعامل مع تنظيم القاعدة فإن الحرب الأمريكية ضد داعش لن يكتب لها النجاح فى الغالب، ما لم تنتهج واشنطن سياسة تعالج القضية من جذورها وتتوقف عن الاستغلال لجماعات الإسلام السياسى لتحقيق مصالحها وهى التى وضعت تلك السياسة البغيضة عندما وظفت كل قدرتها لهزيمة السوفيت فى أفغانستان اعتبارا من عام 1978 باستخدام الدين فى السياسة تحت شعار محاربة الإلحاد!! وظنت أن اللعبة قابلة للتكرار فى سائر الشرق الأوسط فى ملابسات مختلفة فكانت النتيجة الصارخة هى ما يجرى اليوم من تدمير للدولة ولم تفلت مصر من تلك اللعبة إلا عندما استيقظ الشعب العظيم لفتنة كبرى من صنع القوى المستغلة للمنطقة وأدواتها الصغيرة التى تمثل رأس الحربة فى تمويل جماعات القتل والخراب. وحتى لو افترضنا نجاح الحرب ضد داعش.. فماذا بعد داعش؟ فطالما استمرت أسباب المرض ستظهر داعش أخري..فالحرب الأمريكية ضد القاعدة بعد إرهاب 11 سبتمبر وغزو أفغانستان ثم غزو العراق لم تنجح وظهرت داعش!! وقد دعت مصر إلى ضرورة اللجوء إلى الحل السياسى فى سورياوالعراق وليبيا واليمن من أجل الحفاظ على بقاء وتماسك ووحدة الدول وهو الحد الأدنى المرجو لتجاوز المحنة القاسية فى مجتمعات شقيقة، فيما يمكن الاعتماد على الدول العربية المعتدلة وعلى رأسها السعودية ومعها دول مجلس التعاون الخليجى باستثناء قطر بالطبع - والجزائر والمغرب والأردن من أجل إيجاد نواة لكتلة عربية تواجه بحزم مخططات هدم الدول والمؤسسات. ويجب الانتباه هنا إلى أنه لايزال هناك أصوات فى بعض مراكز البحوث والدراسات الأمريكية لايروق لها نجاح المصريين وجيشهم العظيم فى إجهاض هذه المخططات، ويحاولون إعادة عجلة الزمن إلى الوراء, وذلك بترديد مقولات فاسدة يجرى الترويج لها تزعم أن الصراع فى منطقتنا هو صراع بين الإسلاميين وغير الإسلاميين وهو ما يجافى المنطق والواقع ويؤكد سوء النية فى الطرح. ومن المقالات التى لاقت رواجا فى الآونة الأخيرة ما كتبه دنيس روس المبعوث الأمريكى السابق لعملية السلام وأحد رجال اللوبى الموالى لإسرائيل فى واشنطن عن الصراع بين الإسلاميين وغير الإسلاميين وهو كلام غير صحيح، حيث الصراع الحقيقى بين أنصار الدولة المدنية الحديثة وأنصار دولة الظلام والقتل، صراع بين نموذج دولة محمد على وجمال عبد الناصر وكمال أتاتورك والحبيب بورقيبة وبين داعش والقاعدة والجهاد وكل التنظيمات المتطرفة. وفقا لرؤية مصر، يبدو أن طرح دنيس روس يميل إلى الخداع والتضليل لتأجيج الصراع وليس إخماده، ومحاولة لمد أمد الصراع دون إنهائه أصلا واستمرار الصراع لمصلحة إسرائيل واستمرار مخطط الفوضى حتى يصل إلى الدول المحورية وهى فى تلك الحالة مصر والسعودية تحديداً. وقد فطنت مصر إلى أن دورها اليوم هو تحديد أهدافها وطبيعة مهمتها الثقيلة التى يأتى على قمتها استعادة التوازن والخروج من دائرة بؤر التوتر الكثيرة فى المنطقة. ---- فى إطار عملية خلط الأوراق فى المنطقة يظهر الرئيس التركى رجب طيب أردوغان معاديا للمسلك المصرى الواضح من جماعات الإرهاب، فهو لا يعادى السيسى فقط ولكنه يحمل فكرا وعقيدة فاسدة على نسق الجماعة الارهابية التى يستميت فى الدفاع عنها اليوم بعد أن هزمها الشعب المصرى فى 30 يونيو ولم يبق للرجل سوى التمسك بخيارات خاطئة تزيد من عزلة بلاده فى المنطقة والعالم. وفى حالة الترنح التى تشوب سلوك أردوغان درس مهما للقوى الغربية التى راهنت طويلا على تقديمه مثالا للشعوب العربية لكنه كشف بعد سقوط جماعة الإخوان الإرهابية فى مصر عن وجه قبيح تمثل فى شعوره بسقوط مشروع دولة الخلافة التى حلم بها والتى كانت مصر هى نقطة الانطلاق وفى سقوطه المدوى كشف أيضا عن قيامه باستضافة عناصر داعش فى معسكرات على الحدود مع سوريا ويسمح لهم بدخول الأراضى السورية ثم يواصل الترنح بإعلانه المشاركة فى الحرب على الجماعات التى يحتضنها. والرؤية المصرية تؤكد أيضا التفرقة بين أردوغان وشعب تركيا العظيم حيث يمثل الرجل جملة اعتراضية فنحن مازلنا نذكر لتركيا مثلا تقديم الوثيقة الأصلية بين الدولة العثمانية وبريطانيا عام 1906 بشأن الحدود بين مصر وفلسطين وهى الوثيقة التى دعمت موقف مصر فى قضية التحكيم الدولى حول منطقة طابا. وتعى القيادة السياسية فى مصر اليوم أن السلوك السياسى التركى سيعود إلى رشده فى نهاية المطاف ويغلب العلاقات التاريخية بين الشعبين على المصالح الحزبية والأيديولجية الضيقة. فلا مجال لعبث الأشقياء على اختلاف توجهاتهم أو مصالحهم ولن ننجر إلى تلك اللعبة البغيضة.. ----- لم تنجر مصر إلى التصريحات الرخيصة التى صدرت من هنا ومن هناك فى الفترة الماضية وهو مبدأ ثابت للقيادة السياسية عبر عنه الرئيس السيسى فى لقائه الوفد الصحفى والإعلامى المصرى فى نيويورك وعاد مجددا ليؤكد عليه فى خطابه بالكلية الحربية أمس الأول عندما تحدث عن مسئولية الإعلام عندما طالب بالتوقف عن الإساءة للغير فى الخطاب الإعلامى المصرى رغم التطاول الكريه فى الخارج ومن بعض العناصر فى الداخل، فالإعلام من وجهة نظره يجب أن يبتعد عن الإسفاف ويعلى من أهمية دوره فى ترسيخ القيم التى تبنى المجتمع ويمتد إلى بناء مدرسة مصرية متفردة فى الدقة والموضوعية. فقد كانت هناك منابر إعلامية ومواقع التواصل الاجتماعى أسهمت للأسف فى تخبط الجبهة الداخلية بعد رحيل حسنى مبارك عن الحكم واشتركت، بقصد أو بدون قصد، فى مخطط واضح لهدم الدولة وهدم مؤسساتها ولم تكتف برحيل رئيس أو منع التوريث. ومن الإسهامات المشينة للبعض الترويج لشعارات رديئة ضد جيش مصر العظيم الذى أنقذ الشعب من براثن جماعة إرهابية وبعض نخب سياسية متواطئة أو حمقاء.. ويكفى أن نهمس فى أذن من طالبوا بإلغاء وزارة الإعلام: ماذا فعلتم بعد الإلغاء بخلاف الضجيج وافتعال المعارك الوهمية؟ ماذا فعلتم لوقف الشائعات وترويج الأكاذيب والطعن فى شرف ونزاهة الناس بالباطل؟ ولماذا تملؤون الدنيا صراخا عندما تضعكم الدولة أمام مسئولياتكم؟ وأين هى منظومة القيم التى تبنى مجتمعا ولا تساعد فى هدمه؟ ---- قبل ثلاثة أيام، حاولت الأهرام أن تضع معياراً مهماً للممارسة الصحفية وهو إعادة قيمة الوفاء والانتماء إلى الحقل الإعلامى عندما دعت كاتبنا الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل لحفل تكريم بمناسبة يوم ميلاده عرفانا بما قدمه للمؤسسة العريقة على مدى سنوات رئاسته للتحرير، وهى دعوة جاءت لترسخ قيمة مفقودة بعد أن ضربت الفوضى الساحة الصحفية وأصبح التطاول على الكبار ورموز العمل العام أمرا معتادا وسلوكا يوميا، ورسالة الأهرام اليوم أنها تحاول استعادة القيم فى مجتمعها الصغير على أمل أن تصل بالرسالة إلى المجتمع الكبير. وكان الأستاذ هيكل كعادته متألقا فى طرحه لتصوراته عن الأوضاع الحالية وتحدث فى الأهرام فى أجواء تظللها احتفالات مصر بنصر أكتوبر العظيم عن ضرورة استعادة وحدة العالم العربى وتقديم رؤى نافعة للمستقبل حتى نصمد أمام مخططات تمزيق المنطقة إلى أشلاء.. ------ وبعد ثلاثة أيام، تحتفل مصر بنصر أكتوبر وهو مناسبة رائعة لتذكير الجميع بأن النصر الكبير لم يتحقق إلا بسواعد الشباب من ضباط وجنود جيشنا وبعزيمة لا تلين لجيل من أبناء الوطن لم ينتظر كثيرا على كبوة الهزيمة فانطلق يعد العدة لحرب ضد عدو اغتصب الأرض وحاول كسر عزيمة الأمة إلا أن رد المصريين جاء حاسما وكان للشباب منهم الدور الأهم فى التحضير والتخطيط وصناعة أسطورة عسكرية غيرت كثيرا فى الإستراتيجيات والأساليب القتالية.. كان الشباب من الجنود والضباط عنصرا رئيسا فى تحقيق النصر فى 1973 وهو اليوم يصنع بسواعده ملحمة بناء جديدة على أرض سيناء بالعمل ليل نهار لإنجاز مشروع قناة السويس الجديدة التى ستفتح الطريق أمام مشروع عملاق هو تنمية محور القناة من خلال استثمارات مصرية وعربية وأجنبية ستغير من وجه الحياة فى المنطقة المحيطة وتوفر فرص عمل لقطاعات واسعة من الشباب. ------ معركة البناء لا تقل أهمية عن معركة تحرير العقول من غول التطرف والإرهاب فى مصر والشرق الأوسط وكل ما سبق يتقاطع مع الرؤية المصرية الصافية التى تبتغى الإصلاح والتقدم على أسس واضحة المعالم وتبتعد عن المراوغة والعبث وهى رؤية متزنة عاقلة لا تستسلم لتصفية الحسابات أو أجواء المؤامرة.. رؤية مخلصة تضع الإنسان وحريته وكرامته فى الصدارة ولا تؤجل المواجهة أو ترحلها لتكون عبئا على الأجيال القادمة.. فهل وصلت الرسالة؟! لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام