بمجرد ذكر منطقة مصر القديمة أو مصر عتيقة كما يطلق عليها القاهريون يقفز إلى الأذهان أهم معالمها على الإطلاق بل أهم معالم القاهرة بأسرها وهو سور مجرى العيون, ذلك السور السميك المهيب الذى يبدأ من فم الخليج بنهاية شارع قصر العينى محاذيا للجانب الأيمن من شارع صلاح سالم وصولا إلى باب القرافة فى السيدة عائشة على بعد عشرات الأمتار فقط من أسوار قلعة صلاح الدين ويقف فى زهو واستعلاء يشهد بعظمة القاهرة وشموخها ورقى فكر أهلها وذلك رغم عدوان الجهل والتخلف الذى يتعرض له بين الحين والآخر ممن يجهلون، قدره فيلقون تحت أقدامه قمامتهم ومخلفات مبانيهم الزائلة. وعبر التاريخ عرف المصريون سور مجرى العيون باسم قناطر المياه وهى تلك القناطر التى قام بإنشائها السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبى مؤسس الدولة الأيوبية لكى يتم عن طريقها توفير مياه الشرب والرى لسكان القلعة التى تحمل اسمه وكانت مقرا للحكم لعدة قرون ثم جددها السلطان المملوكى العظيم الناصر محمد بن قلاوون تجديدا كاملا بينما أقام لها سلطان مملوكى آخر هو قنصوة الغورى مأخذا للمياه به ست سواق بالقرب من مسجد السيدة عائشة وتحديدا مكان سوق الحمام بمدخل شارع السيدة عائشة ولم يبق من القناطر العتيقة التى أنشأها صلاح الدين شيء غير بقايا قليلة فى بداية المجرى من ناحية القلعة مواجهة لمسجد السيدة عائشة كان قد استغل فيها سور القاهرة الذى عمله وجعل مجرى المياه أعلاه. ومن خلال مرورى اليومى بجوار سور مجرى العيون فى طريقى لمنزلى فى مدينة الفسطاط الجديدة المبنية على أنقاض أول عاصمة لمصر بعد الفتح الإسلامى وهى مدينة الفسطاط التى بناها عمرو بن العاص يلفت نظرى جهل الكثيرين بعظمة هذا السور الفريد فى العالم لدرجة أن مجموعة من سكان منطقة المدابغ المتاخمة له حاولت فى فترة الانفلات الأمنى التى أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير هدم اجزاء منه بحجة فتح طرق للسيارات كما أنه وبرغم الجهود الحكومية لحمايته وبناء سور حديدى قصير متاخم له مازال البعض يلقى بمخلفاته بجواره . ويحكى المؤرخون أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون أعاد بناء القناطر الحالية كاملة على مرحلتين بعد أن تهدمت القناطر التى بناها الناصر صلاح الدين وقد أنشأ ابن قلاوون أربع سواق على النيل بفم الخليج لرفع الماء من خليج صغير عند حائط الرصد الذى يعرف اليوم باسم «اسطبل عنتر» تجاه مسجد أثر النبى بمنطقة محطة مترو الزهراء حاليا. وفى عصر السلطان قنصوة الغورى أقيم لهذه القناطر مأخذ مياه آخر به ست سواق بالقرب من السيدة نفيسة لتقوية تيار المياه الواصلة منها إلى آبار القلعة . وكان هدف بناء هذا السور العملاق مد قلعة صلاح الدين بمياه النيل لعدم كفاية مياه الآبار عن طريق رفع مياه النيل بالسواقى إلى مجرى السور بحيث تأخذ هذه السواقى المياه من النيل لتدفعها عبر مجرى مائى فوق مجموعة ضخمة من العقود الحجرية المدببة حتى يتم تخزينها فى مجموعة كبيرة من الآبار لا تزال باقية حتى الآن ثم تجرى المياه إلى أن تصل إلى القلعة . اّل طباطبا وعلى بعد عشرات الأمتار من سور مجرى العيون فى منطقة عين الصيرة وتحديدا خلف نادى الأبطال للقوات المسلحة يقف مشهد آل طباطبا الذى يعد المعلم الوحيد المتبقى من الدولة الإخشيدية فى كل مصر ولكنه يعانى عزلة وإهمالا تسببا فى عدم إداراك السواد الأعظم من المصريين لمجرد وجوده وذلك على عكس سور مجرى العيون الذى لايمكن أن تتجاهله العيون من ضخامته وفخامته . ويضم هذا المشهد الفريد مسجدا ومدفنا أنشئ فى عهد الأمير محمد بن طغج الإخشيد مؤسس الدولة الإخشيدية . وينسب إلى إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج، الذى يعود نسبه إلى على بن أبى طالب، رضى الله عنه، وكان يحظى بمكانة كبيرة بين المصريين، وكذلك لدى أوساط كبيرة من الأمراء حيث فضل الكثير منهم أن يدفنوا فيه بعد وفاتهم . ورغم أن المشهد يبعد مئات الأمتار فقط عن مقامى الأمام الشافعى والامام الليث بن سعد ( الإمام الليثى ) فإنه لايحظى بما يحظيان به من اهتمام حاليا نظرا لأنه بات محاصرا من قمائن المنتجات الفخارية وبعض البيوت العشوائية, فلا يمكن للمارة أمثالى من سكان منطقة الفسطاط الجديدة ملاحظة وجوده إلا إذا كانوا يعرفون مسبقا أنه موجود فى هذا المكان, علاوة على غرقه فى طوفان المياه الجوفية الذى يغرق بشكل دائم منطقة عين الصيرة لدرجة أن الوصول إلى داخل المشهد الواقع تحت مستوى سطح الأرض بعدة أمتار يحتاج إلى قارب . ومبنى المشهد مستطيل غير منتظم طوله 30 مترا وعرضه 20 متراً. والمدافن التى يضمها الموقع تشهد على دفن العديد من أبناء الأسرة الإخشيدية، ومنهم أولاد إبراهيم طباطبا نفسه، مثل أحمد بن على بن الحسن بن طباطبا، وكان يوصف بأنه من أبرز شعراء عصره. كما كان المبنى مدفناً للعديد من العلماء والمشايخ الذين عاشوا فى هذه المنطقة، وكانوا يترددون على مساجدها ودفن بالقرب منهم نساء، على رأسهن السيدة خديجة ابنة محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن طباطبا، وكانت توصف بأنها عابدة زاهدة، وهى زوجة عبدالله بن طباطبا . ومادمنا نتحدث عن مشهد طباطبا فمن الضرورى أن نذكر للقراء أن الإخشيديين الذين جرى بناء المشهد فى عهدهم هم سلالة تركية مستعربة حكمت مصر والشام ومقر حكمهم الفسطاط, وتنحدر هذه الأسرة من أحد القادة العسكريين الذين جاءوا من فرغانة بجمهورية أوزبكستان حاليا . ورغم ان مشهد اّل طباطبا متفرد فإن الإهمال الذى يحيط به كما اراه كل يوم يجعلنى أتوقع اختفاءه خلال سنوات قليلة سواء بفعل المياه الجوفية والكبريتية التى يغرق فيها أو بيد سكان العشوائيات الذين يحاصرونه ولا يعرفون قيمته ولايهمهم سوى وجود أماكن يخزنون فيها بضاعتهم من منتجات الفخار وبالتالى لم يروا كما كان يرى اجدادنا أن البركة تحل بجوارهم حيث يرقد العديد من الأولياء والعلماء فى هذا المشهد النادر من زمن الإخشيديين..