حضر السيد جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى إلى المنطقة كى يقوم بزيارات محمومة لبعض عواصمها، تماماً كما فعل أسلافه من وزراء خارجية أمريكا، وبنفس الصيغة القديمة / الجديدة، أى محاولة وضع ورقة توت عربية على عملية اغتصاب جديدة، والعنوان هذه المرة «مواجهة داعش» فى العراقوسوريا، دونما النظر إلى النيران المشتعلة فى ليبيا، أو الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية الذى يعد أحد أهم أسباب انتشار ظاهرة العنف!!. لقد كان قدرنا أن نشهد خلال فواصل زمنية بسيطة العديد من النكبات، بدءاً من نكبة 1948، مروراً بنكبة 1967، ونكبة غزو لبنان وحصار عاصمتها عام 1982، ونكبة غزو الكويت وما تلاها، ولكن ربما كانت نكبة غزو العراق 2003 من أخطر وأهم النكبات لأنها تكريس لما سبقها وإعداد لسلسلة مؤكدة من نكبات تالية فى المستقبل، وخلال هذه النكبات عجز النظام الأمنى العربى عن المواجهة أو حتى الإستفادة من دروسها لمواجهة ما تلاها، ومن المؤكد أننى لن أضيف كثيراً لما سبق وقيل وكتب حول أسباب هذا العجز، ولكن قد يكون من المفيد أن أشير إلى أنها أسباب هيكلية تعود فى الأساس إلى العجز الأصلى فى النظام السياسى العربى، وليس هناك شك فى الإرتباط العضوى بين ذلك النظام وبين النظام الأمنى، فلا يمكن أن يكون هناك نظام أمنى عربى فعال دون أن يستند إلى نظام سياسى محكم وثابت، وهى مسألة يطول شرحها وإن كانت واضحة التشخيص لدى الكافة. توالى سقوط الأنظمة فى تونس ومصر وليبيا واليمن، وهاهى سوريا تمر عبر بوابات الدم إلى مستقبل غير واضح المعالم، ومن المفزع مراجعة حجم المذابح والدماء التى اغتسل بها الربيع العربى فى خطواته الأولى.. والمسألة فى تقديرى تتجاوز مجرد البكاء على اللبن المسكوب، أو المشاركة فى تأبين ضحايا المجزرة، فهذا الدم النازف من الجبين العربى لا ينبغى أن يمحو شموخه، وتلك الدموع التى ملأت أحداقنا لا ينبغى أن تصيبنا بعد بالعمى، فلا يمكن إغفال الدور الخارجى سواء ما قبل أو بعد ربيع العرب، وأخص هنا بالذكر أمريكا، التى ساندت كل الديكتاتوريات العربية، ثم سارعت لحظة السقوط كى تمشى فى جنازاتها، وتمد اليد إلى النظام الجديد.. لقد حاولت ذلك مع إيران ما بعد الشاه، ولكن يبدو أن الإيرانيين أدركوا مبكراً طبيعة اللعبة الأمريكية مع دول العالم الثالث، ومع الشرق الأوسط على وجه الخصوص.. ولعلى أتذكر الآن ذلك الموقف الذى أتخذه الرئيس السادات من السوفييت حين طرد خبراءه من مصر وأعلن أن المسألة تتطلب وقفة مع الصديق، رغم أن ذلك الصديق كان يزودنا آنذاك بالسلاح الذى نقاوم به العدوان، وبالقمح الذى نصنع به خبزنا، وأتساءل ألا يتطلب الموقف الحالى على الأقل وقفة مع «الصديق» الأمريكى أخذاً فى الإعتبار أنه يرمينا بالموت والدمار والمهانة ليس فقط فى العراق واليمن أو كما سبق مع الأطلنطى فى ليبيا، وإنما فى فلسطين من خلال وكيلها المعتمد فى المنطقة.. أنها نفس طائرات «الأباشى» التى كانت تقصف فى توقيت واحد مدن وقرى العراق وليبيا وفلسطين، أنها نفس نوعية الدبابات والصواريخ، والضحايا فى كل الحالات عرب: أطفال ونساء ومساجد وتاريخ وكرامة... وبطبيعة الحال فإن هذه الوقفة مع «الصديق» تتطلب أن نقف أولاً مع أنفسنا حتى لا تتجزأ هذه الوقفة كالعادة وتحيلنا مرة أخرى إلى مذبح ذلك الصديق ليواصل إلتهامنا قطعة قطعة... ولكى نقف مع أنفسنا فإن الأمر يتطلب قدراً كبيراً من التجرد والسمو، ويستدعى أن نتصارح بعيوبنا ونلتحم إلتحاماً إيجابياً وعلمياً بالجماهير، يتطلب التخلص من أحقاد داحس والغبراء، وفهم حقيقة وحدة الخطر ووحدة المصير، يجب أن ندرك أهمية أن ننتج ما نأكل ونأكل مما ننتج، وضرورة البناء العلمى المنهجى لمجتمعاتنا.. يجب أن نعرف أنه بدون بناء الصناعة العربية وخاصة فى مجال السلاح فإن النكبات آتية وأننا سنظل مطمعاً للقريب والبعيد، طالما لم ندرك بديهية أنه لا مكان للخراف فى عالم من الذئاب.. تلك هى القراءة الصحيحة ليس فقط لهذا العصر الأمريكى وإنما لكل عصور البشرية. يجب أن يعرف السيد كيرى أنه على القواعد العسكرية الأمريكية فى المنطقة أن تحمل عصاها وترحل، فلقد كانت تبرر وجودها أثناء الحرب الباردة بحماية المنطقة من التمدد الشيوعى، رغم أن حقائق المنطقة السياسية والدينية والثقافية لم تكن تسمح بأى حال لاتشار الشيوعية ، والآن استبدلت أمريكا العفريت الشيوعى بالعفريت الشيعى أو بالعفريت الإرهابى الذى صنعته ورعته كى تعيد تصديره إلينا، وتحاول أن تبث الخوف فى دول الخليج من خطر التمدد الإيرانى، والحقيقة أن مجرد الوجود العسكرى الأمريكى فى المنطقة يضعها على حافة الخطر المستمر، لأنه سيكون من مصلحة أمريكا دائماً تصعيد التوتر فى المنطقة كى تبرر ذلك الوجود.. لذلك ينبغى على دول المنطقة أن تسعى لبناء نظامها الأمنى الذى يدافع عن مصالحها، وبالشكل الذى يستبعد أى تدخل خارجى وينهى الوجود العسكرى والنفوذ الأمريكى فى المنطقة . لقد أنتصرت أمريكا وأنتصرت إسرائيل بالقوة المجردة، ولن يتوقف مخططهما بالأمانى العربية أو بأحلام اليقظة أو بملايين المظاهرات وآلاف القصائد، أن السبيل الوحيد هو إمتلاك عناصر القوة الشاملة ، من خلال بناء نظام عربى سياسى ثابت وفهم أهمية النظام الأمنى العربى... وكلما تأخرنا فى هذا الفهم كلما زادت هذه النكبات... لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق