هل يجب أن نعيد هذه الأيام قراءة كتاب فلسفة الثورة بقلم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر؟ نعم يجب.. بل ينبغى. لماذا؟ لأن ناصر يجيب فى ذلك الكتاب عن أسئلة ينشغل بها العقل المصرى الآن.. ومنها سؤال: لماذا وقف الجيش إلى جانب الشعب فى 30 يونيو؟ أى يونيو؟ تقصد يونيو 2013؟ نعم. كما أن ناصر يجيب عن سؤال: أين نحن الآن؟ وماالذى يجرى بالضبط؟ دورية الاستكشاف يتبرأ الزعيم فى أول سطر من مقدمة الكتاب من أن يكون الهدف منه هو أن يصبح كاتبا و مؤلفا.. و يذهب إلى معنى أعمق من ذلك بكثير فيقول : إن هذه الخواطر عن فلسفة الثورة أشبه ما يكون ب »دورية الاستكشاف« لنفوسنا لكى نعرف من نحن و ما هو دورنا فى تاريخ مصر المتصل الحلقات .. مجرد دورية استكشاف فى الميدان الذى نحارب فيه معركتنا الكبرى من أجل تحرير الوطن من كل الأغلال. ولسطور تلك المقدمة- التى لا يزيد عددها على 15 سطرا ممهورة بتوقيع الزعيم بخط يده- أثر بالغ فى نفس القارئ الذى سيعتبر نفسه، منذ لحظة انتهائه من قراءتها، جنديا فى ميدان المعركة و ليس مجرد قارئ مسترخ على مقعد يبحث عن المتعة الفكرية بين هذه السطور. حيثيات الثورة »قصص كفاح الشعوب ليس فيها فجوات يملؤها الهباء .. إن كفاح أى شعب جيلا بعد جيل بناء يرتفع حجرا فوق حجر«.. بهذه الكلمات القليلة أخذ ناصر يمهد لنفسه و للقارئ حديثه المقبل عن أسباب قيام ثورة يوليو، التى من الظلم وصفها بأنها كانت مجرد نتاج لأحداث مرت بها البلاد فى السنوات الأخيرة، و لكنها كانت أعمق من ذلك بكثير. و قال »إنها كانت تحقيقا للأمل الذى راود شعب مصر منذ أن فكر فى أن يكون حكمه بأيدى أبنائه ، و أن تكون له الكلمة العليا فى تحقيق مصيره« وقد أرخ ناصر لتلك المحاولات بالفعل ابتداء من تزعم عمر مكرم لتنصيب محمد على واليا على مصر باسم شعبها، مرورا بمحاولة الزعيم أحمد عرابى للمطالبة بالدستور، و انتهاء بثورة 1919 التى على الرغم من بلورتها لشكل الثورة فى أذهان المصريين فإنها لم تحقق الأمل الذى تمناه الشعب. لذلك فمن الظلم أن يقال بعد هذا كله إن ثورة 23 يوليو قامت بسبب النتائج التى أسفرت عنها حرب فلسطين، أو بسبب الأسلحة الفاسدة، أو أزمة انتخابات نادى ضباط الجيش . ويقول ناصر هنا : لو كان ضباط الجيش حاولوا أن يثأروا لأنفسهم، بعد الاعتداء الذى وقع على كرامتهم فى انتخابات ضباط الجيش، لما كان الأمر يستحق أن يكون ثورة ، ولكان أقرب الأشياء إلى وصفه بأنه مجرد تمرد. ثورة أم انقلاب؟! وكأن التاريخ لا يمل من تكرار نفسه. لقد تعرض الزعيم الخالد فى كتابه إلى الجدلية الشهيرة التى عاشتها مصر مؤخرا إبان أحداث الثلاثين من يونيو 2013 والتى عرفت اختصارا باسم »ثورة أم انقلاب؟« . وأخذ عبد الناصر على عاتقه حمل الدفاع عن دور جيش مصر التاريخى فى التدخل فى الحياة المدنية والانحياز لما فيه مصلحة الوطن و أمن المواطن. و يقول فى هذا الموضع : »ولقد آمنت بالجندية طول عمرى ، و الجندية تجعل للجيش واجبا واحدا هو أن يموت على حدود وطنه« ثم يتساءل: لماذا وجد جيشنا نفسه مضطرا للعمل فى عاصمة الوطن ، وليس على حدوده؟! ويرد بنفسه على هذا التساؤل قائلا : إذا لم يقم الجيش بهذا العمل ، فمن يقوم به؟ هذا الواجب واجبنا ، و إذا لم نقم به نكون قد تخلينا عن أمانة مقدسة نيط بنا حملها. و يقول أيضا كنا نحن الشبح الذى يؤرق به الطاغية أحلام الشعب ، و قد آن لهذا الشبح أن يتحول إلى الطاغية فيبدد أحلامه هو .. ولعل أهمية هذه الكلمات لا تكمن فقط فى صداها التاريخي، الذى نسمعه الآن ، بقدر ما هى تعبير صادق عن إخلاص ووطنية القائد الذى لم يقبل أن يقف مكتوف اليدين ينفذ الأوامر بلا عقل أو مشاعر تجاه وطنه الذى كان يمر بمرحلة دقيقة وحساسة فى تاريخه. لو كان جمال عبد الناصر طاغية لما احتاج أن يبرر ما يفعل أمام العالم، و لما احتاج أن يصارح الشعب بكل ما دار فى فكره أثناء هذه اللحظات الفارقة فى تاريخه و تاريخ الوطن. بعد الثورة ولعل أكثر لحظات هذا الكتاب صدمة للقارئ، كانت عندما اعترف الزعيم الخالد بأنه كان يتصور أن الأمة بأسرها كانت على قلب رجل واحد و لم تكن تنتظر سوى خروج طليعته (الجيش) ليقتحم »الزحف المقدس« الميادين و ينتصر فى معركة العمل و الكفاح و بناء الوطن، على اعتبار أن هذا هو حلم الأمة جميعا، لكن ما حدث كان يتجاوز خيال القادة الذين قاموا بالثورة. فيقول ناصر: «وأنا أشهد أنه مرت على بعد 23 يوليو نوبات اتهمت فيها نفسى وزملائى وباقى الجيش بالحماقة والجنون الذى صنعناه فى 23 يوليو ... فبعد أن اقتحمت الطليعة سور الطغيان وخلعت الطاغية ووقفت تنتظر الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير .. طال انتظارها». ويصف ناصر هذه الأيام بأنها كانت من أصعب مراحل الثورة؛ حيث لم تكن مصر أحوج إلى شيء من الاتحاد و العمل لكنه لم يسمع إلا صدى صوت الفرقة و الاختلاف و الخنوع و الكسل، فاضطر فى هذا الوقت إلى أن يلجأ إلى أصحاب الرأى والخبرة فكانت صدمته لا تقل عن ذلك بكثير حيث إن داء الفرقة والاختلاف وصل حتى إلى رءوس هؤلاء الكبار من أهل العلم حتى إنه قال : و لو أن أحدا سألنى فى تلك الأيام : ما هى أعز أمانيك ؟ لقلت على الفور: أن أسمع مصريا يقول كلمة إنصاف فى حق مصرى آخر، وأن أحس بأن مصريا قد فتح قلبه للصفح و الغفران و الحب لاخوانه المصريين، وأن أرى مصريا لا يكرس وقته لتسفيه آراء مصرى آخر . ويقول إن الاجابة الوحيدة على لسان كل شخص تسأله عن حل لمشكلة ما هى كلمة «أنا». حتى لو سألنا أحدا عن حل لمشكلة صيد السمك فى جزر الهاواى سيكون الحل عنده وحده بالتأكيد . فهو العالم الفاهم فى كل شيء السياسة والاقتصاد، فضلا عن مشكلة التملق والنفاق غير المنطقى ؛ حيث كان يؤكد له هؤلاء أنهم يؤثرونه على أنفسهم بكنوز الأرض و ذخائرها. إلا أن ناصر يلخص فهمه لهذه التجربة فى عبارة يقول فيها : إن لكل شعب من شعوب الأرض ثورتين: ثورة سياسية يسترد بها حقه فى حكم نفسه من يد طاغية فرض عليه . وثورة اجتماعية تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد.