كان وزير الخارجية سامح شكرى موفقاً عندما أبدى دهشته من الدعوة الحماسية فى جدة إلى محاربة داعش، فى وقت يتجاهل فيه المتحمسون أن هناك معركة دامية مستعرة تخوضها مصر ضد جماعة الإخوان، التى هى أُسّ الإرهاب ومصدره وعقله المُحرِّك فى المنطقة وعبر العالَم، وأنها هى المُلهمة لتنظيم داعش وغيره، وزاد الوزير باستنكاره للمنطق الذى ينادى بحشد الموارد لهزيمة داعش بينما تُحجَب هذه الموارد عن مصر وهى تخوض معركة ضد العدو نفسِه على أرضها! تنطوى العبارة الأخيرة على إشارة واضحة لمماطلة أمريكا تسليم مصر طائرات الأباتشى المتفق عليها، وفق برامج التعاون العسكرى بين البلدين، والتى هى ضرورية لمواجهة الإرهابيين فى سيناء المسلحين بأعلى مستوى من العتاد الذى لا تحوزه سوى الجيوش المتطورة! ولم تكن هذه المفارقة الوحيدة فى اجتماع جدة، الذى شاركت فيه أمريكا مع تركيا ودول مجلس التعاون الخليجى الست، إضافة إلى العراق والأردن ولبنان ومصر، وقيل إن الغرض هو تشكيل ائتلاف من نحو 40 دولة لمواجهة داعش، ذلك أن قصر الهدف على داعش يستبعد الهدف الكبير بمواجهة الإرهاب، كظاهرة عامة، التى هى بالضرورة مترابطة الإجزاء، كما أن الأدلة على العلاقات الوثيقة بين هذه التنظيمات باتت فى باب العلم العام، وكان من حق مصر أن تُبدِى دهشتها من أن تحظى جماعة الإخوان، فى وقت تتلوث فيه يدها بدماء الشعب المصرى، بدعم بالمال وبالسلاح وبالتأييد السياسى والإعلامى من بعض المجتمعين فى جدة! ليس هذا فقط، بل إن أمريكا تكرر نسخة بالكربون ما اقترفته فى غزوها للعراق عام 2003، برغم ما كان مُتفَقاً عليه آنذاك من كل الأطراف على أن العراق لم يكن له يد فى الإرهاب على برجى نيويورك! والآن تعرج أمريكا فى جدة على ضرورة ضرب سوريا، والعمل على تدريب جيش معتدل للإطاحة بالأسد، برغم أن الشعب السورى ونظام الأسد من أول ضحايا داعش! وبرغم أن عاصمة داعش ومقر خليفتهم فى العراق! وإذا تناسينا التسريبات التى عجزت أمريكا عن الرد عليها من أنها هى التى باركت مشروع توليد داعش، بمشارَكة بريطانية وإسرائيلية، فكيف يمكن تقبل أن تتشكل جبهة من 40 دولة، بعضها دول عظمى، لمواجهة عصابة إرهابية لا يزيد عدد مقاتليها عن نحو 31 ألف إرهابى، وفق تقديرات المخابرات المركزية الأمريكية المعلنة؟! بما يؤكد أن هنالك مهامّ أخرى لهذه الجيوش الرهيبة! فما هى هذه المهام؟ وكيف تخوض أمريكا فى الأمر وتدعو إلى المشاركة معها فى وقت يعلن فيه الرئيس أوباما أنه ليس لديه استراتيجية واضحة إزاء داعش؟ كما أن أمريكا، والدول الأوروبية المشاركة، والتى لديها إمكانيات عسكرية متطورة، أعلنت أن مشاركة قواتها مقصورة على الضربات الجوية، فهل ستكون الحرب الحقيقية على الأرض من نصيب الدول العربية؟ وما هو المطلوب من مصر تحديداً؟ كما أن كل هذا يجرى بعيداً عن الشرعية الدولية المُمثَّلة فى الأممالمتحدة، وإذا لجأت أمريكا إلى مجلس الامن فمن المتوقع أن تواجَه بفيتو، على الأقل من روسيا، فهل ستقدم أمريكا على خطتها خارج الشرعية الدولية كما فعلت فى غزوها للعراق؟ كما أن كل هذا يثبت ضعف النظام العربى الذى لا يملك شجاعة المبادرة فى حل مشاكله ويقبل أن ينطوى دائماً تحت جناح أمريكا، حتى أن جامعة الدول العربية لم يصدر عنها إلا ثرثرة غير مفيدة فى مواجهة داعش وغيره، فماذا تظنها فاعلة مع قدوم حلف أمريكا بسابق خبرته فى تدمير العراق؟ والمهم بالنسبة لمصر، أن تثبت لأمريكا وغيرها أن الوضع تغير بعد الثورة وبعد أن تَخلَّص الشعبُ من حكم الإخوان، وأن القرار المصرى صار مستقلاً، لا يُتخَذ إلا بعد دراسة وتمعن تُراعَى فيه المصلحة الوطنية والمصلحة القومية، وفى كل الأحوال فإن التبعية لم تعد مقبولة، وبالتالى فإن الانجراف وراء مثل دعوات جدة لا تتفق مع الشروط التى وضعتها مصر لسياستها الداخلية والإقليمية والدولية، كما أن هذا يتعارض مع أولويات تحقيق الأمن الوطنى الذى على رأس مهامه التصدى لإرهاب جماعة الإخوان داخلياً، ومع مقاومة، أو على الأقل رفض، كل عون يفيد الإخوان وحلفاءهم! وكان حرياً بواشنطن، حتى من باب الحرص على إنجاح خطتها، أن تسعى إلى أن يكون لمصر دور فى كل خطوة فى الإقليم، وإلا لما تشكَّل هذا التحالف الذى تأمله بالشكل الذى تخطط له، وأن تدرك أن لمصر استحقاقات باتت من بديهيات المطالب التى تُعَبِّر عن إجماع وطنى، بوقف الدعم لجماعة الإخوان التى صدرت فى حقها أحكام قضائية بالحظر بعد أن أُدينَت بالإرهاب، وباحترام عقول النخب المصرية السياسية والمثقفة التى بات فى يقينها أن دويلة مثل قطر لا يمكن أن تقترف جرائمها ضد مصر إلا بموافقة أمريكية، إذا لم يكن بأوامر أمريكية، وأن وقف هذا العبث فى أمن مصر بات أمراً لا يقبل الجدال، خاصة احتضان الإرهابيين الفارين من العدالة، وتوفير المنابر لهم ليمارسوا أعمالهم التخريبية من الخارج، ناهيك عن الإنفاق المباشر بسخاء الذى يضمن لهم حياة مترفة ليكونوا عامل تشجيع للآخرين بأن يقترفوا أى شىء وهم مطمئنون إلى مستقبلهم. لقد أثار داعش الرعب فى قلوب الكثيرين، وكان هذا ستاراً لأصحاب الهوى الأمريكى أن يطلبوا التدخل الأجنبى بزعم الحماية من إرهاب داعش وأمثاله! مما وَفَّر لأمريكا وضعاً لم تكن تحلم به قبل سنوات قليلة، عندما كانت التظاهرات تهتف بخروجها من المنطقة، ثم جاءت الآن استجداءات تطالب بعودتها لإنقاذنا من خطر زرعته هى بيديها! لمزيد من مقالات احمد عبدالتواب