يغيب ماء الشرب البارد ولا تغيب الابتسامة من الضفة الشرقية لقناه السويس ، من ينظر لعيون المجندين هنا، يتفاءل ، لا شىء يضاهى فرحة العمال وهم يردون لك التحية حين تمر على خيامهم فى مواقع الحفر ، ولا شىء اغلى من شباب صغير السن،منهك من العمل و الحر الشديد ، لكنه يهلل ويضحك و يتقافز في الهواء حين يمر من امامه أتوبيس الرحلات ، لمجرد انه يراك خلف زجاج النوافذ، تبتسم ، و ترفع يديك بعلامة النصر . المشروع القومى العملاق،بتكلفه60 مليار جنيه وطول 72 كيلو متر،ومهلة عام من أعمال الحفر والبناء وعائد 12٪ .. ليست هى الحكاية ولا هى الوصف الكامل والدقيق لقناة السويس الجديدة .. هنا بشر و قصص وتفاصيل إنسانية, تدور على الأرض كل يوم ،وتصنع عالما وإحساسا خاصا جداً ، لا يمكن ان تشعر بمذاقه إلا إذا جربت بنفسك ، وأتيت ... ومن ذاق عرف . اخلع مخاوفك و همومك ،واجعل طمع وقلق العالم خلفك ، انت بالأرض التى شبعت حبا من دماء وعظام الشهداء,وشبعت فرحا بجسارة المصريين,الكادحين الراضين,المتفاءلين الشرفاء يقولون ان الذى يزور الأرض الصحراء لا يأخذ معه غير صور التذكار ،ولا يترك خلفه غير آثار قدميه فوق الرمال . لكنك هنا ، ستفعل شيئا مختلفا, على الأقل ستترك خلفك صدى الضحك من القلب,ونسمات الأمل للجميع وصدقني يستحيل ان تعود كما أتيت,ولاتسألني كيف ؟ لكل واحد فينا تجربته وقصته .. وأنا لا املك إلا ان احكى لك تجربتى وما حدث معى .....
• الجندى المجند على ، والمراسلة التليفزيونية أسماء خليل,وخبير المفرقعات محمد نبيل,والسيدة السيناوية فتحية عبدالله,والسياسى الواعد محسن المنسى ، خمس أبطال فى قصة قصيرة لكنها ممتعة.. هى قصة اليوم الواحد ،الذى عشته عند قناة السويس الجديدة. منذ السابعة صباحا، بدأت الرحلة ، وكان أول ما لفت نظرى ان اتوبيس الرحلات السياحى الذى كان ينتظرنا من الصباح الباكر في ميدان الدقى, ليسافر بنا الى الاسماعيلية ، كتب عليه بحروف انجليزية وبخط برتقالى واضح (SiSi travel ) وطبعا هو ليس ملكا للرئيس السيسى، ولا يخص أحدا في عائلته ، لكنها كانت محض مصادفة طريفة واعتبرتها انا عن نفسى فألا حسنا وعلامة .. مثير حقا ان نذهب القناة، بحافلة لها اسم السيسى ولو بحروف اجنبية ! فى الوقت المحدد تحرك الأتوبيس وعلى متنه حوالي 50 راكبا شابا ،نساء ورجالا،معظمهم من المشتغلين بالصحافة و الإعلام و بعضهم يعمل بمجالات تخص الاقتصاد و الاتصالات، و احدى شركات تأمين وحراسة الشخصيات العامة و المنشآت. فى البداية بدا الطريق سهلا ولا شيء فيه يستحق الذكر ، بخلاف أن السائق تمهل و(ركن على جنب) عند مدخل الإسماعيلية ، وحسب توجيهات الأمن كان علينا ألا ندخل إلى هناك وحدنا ، بل وسط مجموعة ، يسبقنا عدد من الأتوبيسات الأصغر حجما مع عربات التامين المسلحة ، ورغم ان حرارة الشمس ، قد بدأت تشتد حينها ، الا اننا تشاغلنا بالمرح ، والأحاديث الجانبية و بهدايا إحدى شركات الدعاية التى وزعت علينا في الأتوبيس قمصانا قطنية بيضاء و( كابات ) رياضية ، مكتوب عليها ( تحيا مصر ) فوق اسم الشركة وشعارها الخاص ، فأصبحنا معا مثل فريق رياضى له زى موحد ، يرتديه على أبواب الملعب ، وهو يفكر تسديد الأهداف ، وتحقيق الفوز وعمل مباراة ساخنة لاينساها كل من يشاهدها او يشارك فيها، المشكلة الوحيدة أننا كنا عطشى جداً ،وتمنينا ساعتها لو ان الشركة صاحبة الدعاية، كانت تكرمت اكثر ،ووزعت علينا ايضا زجاجات مياه معدنية مثلجة !! • اجتزنا مدخل المحافظة في اتجاه (المعدية نمرة 6) ويبدو انها اشتهرت بهذا الاسم، بسبب ترتيبها على شاطئ قناة السويس بعد معدية بور فؤاد، و الرصفة و معديةالقنطرة للأفراد، ومعدية القنطرة للسيارات،ثم معدية الفردان .. كان الزحام و التكدس يزدادان كلما تقدمنا للأمام وفجأة قبل ان نعتلى ظهر المعدية بأمتار معدودة، سمعنا صوت انفجار و توقف الاتوبيس ومال على احد جانبيه.. (!) الحمد لله (جت سليمة ) واكتشفنا انه انفجار احدى عجلات الأتوبيس الكبيرة، بسبب،قضيب حديدى بارز على الطريق، قضاء وقدر لكنه استلزم منا ان نخلى الاتوبيس وننزل الى نهر الطريق وننتظر تحت الشمس وقتا غير معروف ،حتى يحلون المشكلة، الله كريم، وصدق من قال و كتب على سيارته (السفر تساهيل) .. انهمك السائق وبعض الزملاء اصحاب الشهامة والمروءة وقليل من الخبرة في فك وابدال عجلة الاتوبيس الضخم، بينما كان كل واحد فينا يدبر لنفسه وسيله يختبئ بها من شمس الظهيرة القاسيةاو يبحث بلا جدوى عن مكان قريب يبيع الماء او العصير. كانت «يافطة الجيش والشعب ايد واحدة» مرفوعة على احد جانبى الطريق اقرب ما تكون منا،وكلما طال وقوفنا ومضى الوقت، توافد نحونا عدد اكبر ورتب اعلى من الضباط و مسئولى الامن،يسألون عن الامر في قلق، وكان انتظارنا طويلا بالفعل اكثر من المتوقع، حتى ان سائق الاتوبيس ما كاد ان ينتهى من ابدال العجلة حتى انهار وسقط على الارض فاقدا للوعى، وهنا كان علينا طلب الاسعاف بسرعة، وتضاعف قلق و زعر الضباط المسؤلين عن تأمين منطقة المعدية، حتى اكتشفنا ان السائق دخل في غيبوبة سكر قصيرة، بفعل ضربة الشمس ، واصبح علينا ان نبحث عن بديل فورى ليقود الاتوبيس نحو المعدية بأى شكل ، ان كنا ننوى زيارة قناة السويس الجديدة في يومنا هذا !! بيننا مصور صحفى كان يحمل عدسات وكاميرات كبيرة الحجم، بين يديه وفوق كتفه، اقسم انه اتى الى القناة 5 مرات من قبل، لكنه لم يشهد رحلة بمثل هذه البدايات ابدا ....( خير ان شاء الله ) . والأهم اننا اكتشفنا الجانب المشرق من التجربة، وهو ان الاسعاف والتأمين والمساعدات اللوجستية في هذه المنطقة، بأعلى درجات السرعة والكفاءة (والشهادة لله كل شئ معمول حسابه وتحت السيطرة) . • كنت فين يا على ؟ مصر بتدور عليك فوق المعدية، كان حديثا قد بدأ عن الحفلة الغنائية والفنانون المشهورين الذين اتوا لأحيائها عند منصة الاحتفالات في عز الظهر ، بين العمال والجنود والناس دون حائل او مسافة واسعة، معظم ركاب المعدية وانا بينهم كانوا يتجولون ، مستمتعين بمنظر الماء فى القناة، متحررين من سجن السيارات و عربات النقل الجماعى التى اتوا بها ، إلا الجندى المجند (على )الذى كان يحمل سلاحه ولا يتخفف من خوذته العسكرية ثقيلة الوزن، وهو فوق ظهر سيارة جيب لها اللون المميز والمعروف لسيارات الجيش ، قسمات المجند (على) كانت بريئة وطيبة ومريحة لحد بعيد ،واكد انطباعى عنه، ابتسامة واسعة، منحها لى بكل ود وسرور، حين طلبت ان التقط بجانبه صورة للتذكار، وانا اشير بعلامة النصر. المجنديون هنا وضباط الجيش و الشرطة ،يشعرون بحب وتقدير الناس لهم، بشكل مكثف وكبير، وهو اغلب الظن ما يجدد لهم باستمرار طاقة احتمال الشمس او العطش او العمل الشاق المتواصل معظم ساعات اليوم في هذا المكان . بالمناسبة لاحظت ان (على) كان معه في نفس السيارة الجيب (كولمان) للماء البارد، وبالمصافة كان بنفس الوان علم مصر، لفت نظرى طبعا لكننى وللعجب لم اتذكر ظمأى وقتها، ولم افكر للحظة في ان اطلب منه بعض الماء، ولا شك انه كان سيفعل بكل سخاء وعن طيب خاطر،لكن للعقل الباطن هنا تدخلات حاسمة، خاصة اذا كان يستقر في ذهنك انك جئت هنا كى تكون جزءا من العطاء والدعم لمثل اؤلئك المجندين ، وليس لتأخذ اى شىء . الايثار احد الفضائل العظيمة، التى تتعلمها في الصحراء تلقائيا، او تلك تجربتى على الاقل.
العيدية الظروف قاسية والامكانيات محدودة لكن المعنويات في السماء، والناس فرحة ومتفائلة ومبتسمة ولا يخيفها اى شىء.. هكذا افتتح كلامه معى مقدم الشرطة،محمد نبيل عمر،وكيل ادارة الحماية المدنية، ورئيس قسم المفرقعات بمديرية امن الاسماعيلية. قال اننا هنا بالقرب من منطقة تابعة للقنطرة شرق تعرف باسم (قرية الابطال) وللاسف يلجأ اليها احيانا ويختبئ بها بعض التكفيريين وأصحاب الفكر المتطرف الوافدين من شمال سيناء فيهم ايضا بعض العناصر الارهابية الخطيرة. في اخر ايام شهر رمضان الماضى، اشتركت مع رجال الامن الوطنى في مهمة القبض على احد اخطر القيادات فى جماعة (انصار بيت المقدس) وكان بحوزته حزامين ناسفين وعدد من الاسلحة والذخائر، تعاملنا معه وتم قتله قبل ثوان من تمكنه من تفجير نفسه وقتلنا جميعا، كانت عملية كبيرة وخطيرة واسميتها العيدية، تيمنا بعيد الفطر،ولأنها تمت قبل ايام معدودة من الاحتفال بافتتاح مشروع قناة السويس الجديدة، ولم تترك على العاملين بالمشروع اى اثر من تهيب الخطر او القلق.
عيد ميلاد سعيد وتبقى للاسماعيلية، خصوصية شديدة اذا ناقشنا فيها علاقة الاعلام برجال الشرطة والجيش ، وهى اخوية ودودة نمت بعمق و ترسخت بالوقت خاصة من بعد دورة كرة القدم أو ما اطلق عليه (مونديال حظر التجول ) الذى اقامه اهالى الاسماعيلية ،في تحد سافر لحكم الاخوان وقرار محمد مرسى بحظر التجول في مدن القناة، فقام الشباب يلعبون الكرة في الشوارع طوال الليل بحماية وتشجيع من قوات الجيش والشرطة في المنطقة! وايضا شهدت محكمة الاسماعيلية بالذات، نظر قضية ( الهروب الكبير) الذى اتهم فيها مرسى واعوانه بالهروب من سجن وادى النطرون بمساعدات من الاخوان وبعض العناصر الاجنبية التى شاركت في اقتحام السجون وقت الثورة. وقد تعرض عدد من شهود القضية و بعض الاعلاميين في هذا التوقيت الحساس لخطر الاختطاف او محاولات القتل ، وكانت الشرطة سندا لا يغفل وقتها في حمايتهم ايضا . بنت الاسماعيلية الشابة اسماء خليل، مراسلة احدى القنوات التليفزيونية الشهيرة من خط القناة بشكل دائم، تعرضت للاختطاف وقت حكم الاخوان بسبب نهج تغطيتها للاحداث المشتعلة الذى اثار حفيظتهم وقتها، اما الان فهى من اشهر الوجوه، التى تتحدى سمرة الشمس ،بابتسامة لا تغيب، واجتهاد لا يتوقف، خاصة في مواقع العمل والحفر بين العمال والجنود. منذ ايام احتفلت اسماء بعيد ميلادها في قناة السويس الجديدة مع الضابط ملازم اول قوات مسلحة عمر محمد مصطفى 23 سنة ، وقد تصادف ان يوم مولدهما واحد، فاتفقا على احضار كعكة عيد ميلاد مشتركة وعمل حفل واحد بين الجميع ..صحفيين وجنود وعمال , لا احد غريب هنا ، الكل اسرة كبيرة، على استعداد للبهجة بأبسط الاشياء، وعلى اهون سبب.
السادات يبعث من جديد هو مواطن بسيط من طنطا، فلاح كأغلب سكان مصر، رغم قروش طفولته القليلة، فوجئت به امه ذات يوم، يعلق في البيت صورة كبيرة اشتراها للسادات، رئيس الجمهورية وقتئذن، تعجبت امه،وسخرت من (فنجرته السياسية) وقالت له: كنت اشترى لك حاجة تاكلها .. لكنه رد بكلمتين قاطعتين : انا بحبه ! عاش محسن منسى، وهو يشعر طوال الوقت بأنه اسما على مسمى، فسواء اشتغل بالتدريس للتلاميذ الصغار في مدرسة قريته، او عمل فيما بعد مصورا فوتوغرافيا متجولا، هو في الحالتين يحسن صنعا ، لكنه ( منسى ) لا احد يراه او يشعر به، قرر ان يصبح مصورا للمشاهير ، لدرجة قادته فيما بعد للسفر الى العراق، وقابل صدام حسين والتقط له الصور، لكن القدر، كان يريد له شيئا غير متابعة السياسيين والمشاهير، وانشاد الشعر الذى يحبه او التقاط الصور كما تعود. قابله صدفة احد العاملين بالاعلانات، وفجأة تفرس في وجهه وملامحه، واكتشف انه نسخة (كربون) من الرئيس المصرى الراحل محمد انور السادات(!) والاكثر من ذلك عرض عليه الاشتراك في اعلان لصالح احدى شركات الاتصالات الكبيرة ، وقد كان، ونجح الاعلان واشتهر محسن المنسى من يومها بلقب شبيه السادات، واصبح مرشحا للتمثيل في عدد من الافلام والمسلسلات والاعمال الفنية. لكنه كان يحس في قرارة نفسه، ان لديه دورا اكبر عليه ان يلعبه في الواقع ، واخيرا وجد نفسه بعد سماع خبر افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة . لقد قرر بشكل قاطع ان يزور القناة بصفته السادات !! والغريب ان المحافظ والناس والاعلاميين والمسئولين، تفهموا الامر تماما، ورحب به الجميع، وهو يجلس في الصف الاول من مقاعد كل احتفال يجرى هنا، يجلس بكامل هيئته وفى فمه (البايب) الذى اشتهر به الزعيم الراحل، وكل من يراه يردد ( سبحان الله .. السادات, الخالق الناطق .. الله يرحمه ) محسن شبيه السادات يسعد غاية السعادة حين يسمع تلك العبارات او مثلها ، فهى اجره الوحيد، عن سفره وجهده ورحلاته المتواليه لضفة القناة الجديدة، كى يتذكر الناس السادات وتاريخه ودوره وهم يشهدون هذا الحدث الوطنى الضخم . يقول محسن المنسى: الآن لم اعد منسيا بالكامل ،على الأقل بسببى يشعر الناس بالسعادة، ويقرأون الفاتحة للرجل الذى احبه حبا شديدا، وكل امنيتى الآن ان اتشرف بلقاء احد من افراد اسرته.
كلنا جنود في المساء كنا قد انهكنا تماما، من قسوة العمل والحركة تحت شمس حارقة،لا تعرف الرحمة، على اتساع صحراء جرداء لا زرع فيها ولا عصير قصب ولا سندوتشات كفته با نيه،ولا ماء .. الرمال الصفراء لا تعرف الرفاهية، وامامك اختياران ،اما ان تعمل واما ان تغنى لتشجع نفسك و غيرك للعمل من جديد ! وبحس لا يقل رقة وعذوبة عن صوت لطيفة ومحمد الحلو وغادة رجب،اتت سيدة سيناوية نحيفة سمراء، اسمها فتحية عبدالله، لتصفق وتغنى لمصر بحماس وفخر بين اولادها الذين احضرتهم معها ، خصيصا ليشاهدوا هذا المشروع الضخم من بدايته، ويفرحوا انهم استعادوا بلادهم مرة اخرى من قبضة الاخوان. هكذا قالت لى فتحية ، وهى تسألنى بعفوية آسرة، ألست انت الصحفية التى تظهر في برامج التليفزيون مع معتز الدمرداش؟ ابتسمت وقلت لها : نعم .. احيانا ... طلبت منى ان نأخذ معا صورة بين جنود الجيش الابطال للذكرى الخالدة، وبالطبع كان يشرفنى و نفذت في الحال. • عدت إلى القاهرة ووصلت بيتى قرب نصف الليل تقريبا ، ورغم الاعياء، نشرت تلك الصورة الجميلة بين الجنود على الفيس بوك،وكنت أضع على رأسى خوذة عسكرية، فعلق احد الاصدقاء وكتب : عناصر نسائية تنضم للجيش المصرى على جبهة قناة السويس الجديدة .. وبدعابة اضاف : هذا ابلغ تحد لامريكا واسرائيل بعد التعاون الاخير مع روسيا !!
نصيحة اخوية : اذهبوا لقناة السويس الجديدة والتقطوا مزيدا من الصور والذكريات الرائعة، لكن يستحسن ان تتأكدوا من البداية، انكم تحملون معكم القدر الكافى من زجاجات المياه، ويا حبذا لو معكم عجلة اتوبيس احتياطى !!!