لمن يتابع الإعلام جيدا في الفترة الأخيرة، وخاصة برامج "التوك شو"، سيلحظ أن البرامج بدأت تبتعد عن السياسة شيئا فشيئا، وتتجه بالمشاهد للتسفيه وليس الترفيه، كما تبدو.. فالبرامج التي كانت تتناول القضايا الآنية وقضايا الساعة والشارع الملحة أصبحت تتجه إلى استضافة الفنانين والنجوم، وتثير قضايا (مثل قضية الباعة الجائلين) تلهي بها المواطن عن حاجته الماسة لمعرفة بواطن الأمور. كنت أتواصل مع صديق من الإعلاميين المعروفين في برامج التوك شو على الساحة، ودار بيننا سجال حول هذا الموضوع، وطرحت عليه السؤال: "إنتوا ليه بطلتوا تتكلموا في السياسة؟".. فأجابني: "مش كفاية كلام في السياسة ثلاث سنوات، المواطن تعب من كثرة الحديث في السياسة".. فقلت: "إزاي.. هل هي سياسة من القنوات الحالية؟ فقال: "لم تردني معلومات بذلك". فقلت:"على العموم مش (حتقدروا) تخلوا المواطن يغمض عينيه".. فضحك الإعلامي. وطبعا المواطن مش (حيقدر) يغمض عينيه، لأنه ببساطة وصل من الوعي والنضج السياسي إلى درجة تجعله يتابع كل كبيرة وصغيرة تحدث في بلده.. المواطن خلاص أصبح من الصعب أن يعيش هذه الأيام، سياسة تكميم الأفواه، فهذا العصر قد ولى وانتهى! إذن، أعتقد أن من باب الحرص على جمهور المشاهدين العريضة، لابد على القنوات والبرامج الإعلامية من البحث عن وسيلة وطريقة تجذب المشاهد إليها وتجعله يجلس أمام شاشة التلفزيون بنوعية برامج ناضجة وواعية، وليس عن طريق تقديم برامج تستخف بعقل المشاهد (مثل برامج مسابقات الرقص الشرقي، أو مسابقات ملكات الجمال، أو مشاهير من النجوم يتحدثون عن حياتهم الخاصة أو نوعية من الأفلام تشوه الحارة المصرية بكل ما فيها من موروثات وعادات وتقاليد). أعتقد أنه آن الأوان لبرامج التوك شو التي أرهقتنا بالتهويل والعويل والولولة، وتركتنا بلا حلول، أن تبدأ في تغيير وتطوير وتطويع سياستها لخدمة المواطن. نريد إعلام مبني على المصارحة والمكاشفة، حتى يتكمن المواطن من فهم مجريات الأمور في بلاده، وبالتالي الالتفاف حول مصلحة البلد.. فإذا تبنت القنوات سياسات مختلفة هدفها إشراك المواطن، بالتالي، لن تكون هناك أمور مستعصية على الحكومة، لأن المواطن المصري، شريك رئيسي معها في كل مشاكلها، ووقتها تكون المصارحة بالداء، يسهل معها الدواء. الإعلام، من وجهة نظري، حجر زاوية رئيسي في حياتنا، وكما تقول مراكز الأبحاث في دراساتها، إن الإعلام هو المكون الأكثر تأثيرا في سلوكيات المجتمعات، ومثلا: إذا اعتاد الطفل الصغير على مشاهدة أفلام كرتون تحرض على العنف فقط، فطبيعي أن ينمو داخل هذا الطفل ميول عدوانية قد تدفع به في النهاية لتركيبة شخصية ليست سوية، سادية، تميل للعنف.. أما إذا عودنا الطفل على مشاهدة أفلام كرتون متوازنة، بها الحب والعنف، وبها الخير والشر، وقتها سيفهم معها الطفل معنى الكلمتين الأخيرتين، وربما تسهم في تكوين شخصية متوازنة في المجتمع، إلى جانب البيت والمدرسة والشارع، والجيران المخالط لهم، والحي الذي يعيش فيه.. فهذا مثال بسيط على تأثير الإعلام فينا، فما بالك بعلاقة المواطن ببلده!!! من قلبي: أتمنى أن أرى إعلاما هادفا مبنيا على الصدق والمصارحة، إعلاما يتبنى حل المشاكل التي نواجهها، بدلا من النواح والبكاء على اللبن المسكوب.. وإلا أصبحنا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال، خشية أن يراها أحد، والكل يعرف تماما ماذا هي فاعلة!!!