ربما لولا قراءتى لكتابها الأول والمهم «أن تقرأ لوليتا فى طهران» لما انتبهت لكتاب الأديبة الإيرانية آذار نفيسى التالى هذا، الذى ضمنته سيرتها الذاتية ومنحته اسم «أشياء كنت ساكتة عنها». كانت نفيسى قدمت فى كتاب لوليتا فى طهران درسًا فى الأسلوب، وكشفت عن قدراتها المستمدة من تاريخها الطويل فى قراءة الرواية كقارئة هاوية فى مراهقتها وشبابها، ثم كقارئة أدب محترفة خلال دراستها للأدب الأمريكى وتدريسه لاحقا لسنوات فى جامعات طهران ثم فى الولاياتالمتحدة التى انتقلت إليها منذ عام 1997 ولا تزال تعيش فيها. وأظننى وقعت أسيرا لطريقتها الذكية فى السرد، وبقدرتها على الانتقال الرشيق بين التاريخ وماضيها الشخصى من جهة وبين حكايات تلميذاتها السبع، من جهة أخري. تلميذاتها اللائى كن يحضرن اسبوعيًا إلى بيتها من أجل دراسة أو بالأحرى قراءة الأدب ومناقشة أفكارهن عما يقرأنه معها، ثم التنقل بين هذا كله وتاريخ إيران الحديث وخصوصا منذ قيام الثورة الإسلامية فى إيران، التى حولت المجتمع إلى سجن كبير، تقمع فيه الحريات الشخصية والسياسية، خصوصا للمرأة، ويفيض بمظاهر الحشمة المزيفة، فيما تنشأ فى السر كل ألوان الحياة التى يريد الأشخاص أن يحيوها، بعيدا عن السلطة التى أخذت تفتش فى العقول والقلوب وتراقب المظهر لكى تلزم المواطنين بالشكل الذى تريدهم أن يحيوا به, فيما تغلف كل ذلك بدور الرواية فى فهم العالم، عبر التقاط التفاصيل الروائية الذكية والأفكار التى تتضمنها أعمال الكتاب الكلاسيكيين الكبار مثل نابوكوف وهنرى جيمس وسواهما. فى لوليتا فى طهران أيضا، كان تركيز نفيسى منصبا على فتياتها، وحياتهن كنماذج لشابات نشأن بعد الثورة الإسلامية، بعضهن اخترن الاتساق مع ما يريده المجتمع، بينما أخريات اخترن الحياة كما يردن أن يعشنها ولو كان ذلك سرا. أما فى مذكراتها فقد عادت لترسم كل الصورة، ولإحياء الشخصيات التى لم يكن لها وجود فى كتابها الأول إلا بالمرور العابر، مثل الأب والأم والأخ محمد والزوجين الأول والثاني، والابن والابنة والأقارب وقبلهم الجد والجدة، وحياتها عموما، طفولتها وصباها وشبابها فى المرحلة قبل الثورة الإسلامية، ودراستها الثانوية فى بريطانيا وسويسرا. فيما تنسج فى خلفية ذلك كله تاريخ الإمبراطورية الفارسية، وأهم المراحل التاريخية التى مرت بها، مطعمة إياها بمقتبسات من ثقافة عريقة عبر أشعار ونصوص وكلمات كتاب إيران الكبار أمثال الفردوسى صاحب الشاهنامة التى سعى فيها «إلى حفظ واستجلاب ماض يتعذر استرداده، محتفيا بحضارة عظيمة ومتفجعا على زوالها»، وكذلك آخرون مثل جلال الدين الرومى وعمر الخيام وحافظ الشيرازي. وتروى كيف أثرت فيها كتابات الفردوسى وسواه عبر حكايات والدها أولا، ثم عبر قراءاتها هى لاحقا. ثم تأثير الشاعرة الايرانية المعاصرة فروغ فرخزاد بشكل خاص على حياتها. ما سكتت عنه فى لوليتا فى طهران تعود إليه فى «اشياء كنت ساكتة عنها» بصدق كبير، وبذاكرة حساسة، وبقلم رهيف الدقة، فى تفكيك الصور التى أمسكت بلحظات من تاريخها الشخصي، وفى استعادة تفاصيل حتى على مستوى رسم الملامح والشخصيات بحس روائى بارع. تمسك بمشرط جراح وتعود إلى جسد تاريخها الشخصى لتفتح كل جزء من الجسد، الظروف الخاصة للأم التى نشأت فى كنف زوجة أم بعد وفاة أمها فى عمر مبكرة، وتأثير ذلك لاحقا على الأم. وبينما نقرأ هذه التفاصيل نرى فى الخلفية تأثير ذلك على حياة آذر الشخصية والنفسية من جهة، والانعكاسات السياسية التى أدت إلى هذا المسار. سيكون من المدهش أن نرى صورة مبكرة للخمينى وأنصاره فى الخمسينيات، كجماعة مناهضة للشاه وحكمه الديكتاتوري. قبل نفيه إلى العراق. وسنرى لاحقا التأثير الذى لعبه أنصار الخمينى المتشددين فى الأحداث التى سبقت الغضب الشعبى المتراكم ضد شاه إيران. تساعده الصورة التى بثتها فرنسا عن الخمينى والتى تعلق عليها الكاتبة بوصفها صورة مفارقة «الرجل الإلهى الذى يدير ظهره للعالم وفى الوقت نفسه يتآمر ويخطط للسيطرة عليه»، وهى المفارقة التى سحرت اتباعه. لكن آذار نفيسى تكشف هنا كيف أن اليسار الإيرانى والحركات الثورية المدنية قد عاشت فى الوهم وصدقت الخمينى وأنصاره فتضامنت معه، قبل أن تفجع بالانقلاب الذى حدث بعد وصولهم للسلطة واصبح التيار المدنى كله هدفا للاعتقالات والإعدامات، إلا من حالفه الحظ أو هرب خارج البلاد. «على الرغم من أن القوى العلمانية هى التى بدأت الاحتجاجات إلا أن آية الله خمينى وأتباعه برزوا الآن فى ايران»، هكذا تشير للأحداث فى عام 1978 مضيفة انهم كمجموعة من الثوار الاشتراكيين واليساريين والعلمانيين قد غضوا الطرف عن تصريحات الخمينى ضد المرأة والاقليات العرقية والدينية وانشاء دولة دينية «ورحبنا بحماسة بالأحاديث الصاخبة التى اطلقها الخمينى ضد الامبريالية وضد الشاه». تقول نفيسي«غير أننا كنا مخمورين واعمتنا اهواؤنا«، وحين بدأت الإضرابات فى تبريز وقم كنا نتصور أنها »قواتنا«. وحين تحرروا من أوهامهم كان الوقت قد تأخر كثيرا ، فقد اصطبغت الثورة بصبغة إسلامية انقلبت ليس على اليساريين والعلمانيين فقط ممن اشعلوها وساهموا فيها بل وحتى على كثير من اصحاب الرؤى الاسلامية الذين اختلفوا مع الحكومة الاسلامية المتشددة. واصبح الحجاب إجباريا والغى قانون حماية الاسرة وقلّ السن القانونية لزواج المرأة الى تسع سنوات وأجيز قانون تعدد الزوجات وعزلوا القاضيات من وظيفتهن. إنه كتاب مهم فى الحقيقة يكشف خبرة إنسانية مهمة، ويقدم نموذجا لتحرير الذاكرة من مخاوفها من أجل الصدق وبالتالى محاولة فهم الذات والعالم بشكل دقيق، وكذلك فى محاولة للتخلص من آثار الصمت باعتباره تواطؤا مع القهر والظلم والفاشية. اسم الكتاب: أشياء كنت ساكتة عنها. المؤلفة: آذار نفيسي المترجم : على عبد الأمير صالح. الناشر: دار الجمل الصفحات: 479