مع تجدد النقاش حول آليات التنمية الاقتصادية فى البلدان النامية، ومنها مصر، يعاد طرح التساؤلات القديمة حول أنماط الانتاج الأكثر فاعلية وملاءمة للأهداف الاقتصادية والاجتماعية المنظورة، وذلك مع الأخذ فى الحسبان الظرف الزمنى والجغرافى محل الاهتمام. ومع اختصار ذلك فى الجدل حول نمط الانتاج الرأسمالى الخاص فى مواجهة ملكية وإدارة الدولة للأصول الانتاجية، فغالباً ما يتم تجاهل المشروعات الصغيرة كنمط قائم بذاته يقدم نموذجاً تنموياً خاصاً به قد يشكل بديلاً للأنماط التقليدية على عدد من الأصعدة، ويتلافى أزماتها البنيوية. من المفترض أن يحقق نمط الاستثمار الرأسمالى الكفاءة الانتاجية لاعتماده على الحافز الفردى، لكن النمو الطبيعى لهذاالنمط الانتاجى يتجه صوب تكتل الأصول والانتاج وخروج المنافسين من الأسواق وتركز الأخيرة فى عدد محدود من المنتجين، وهنا يحد ضعف التنافس من كفاءة الانتاج والتسعير بوصفهما أهم مميزات النموذج الرأسمالى الموسع، كما يمنح الشركات أو الكيانات المنتجة سيطرة أكبر على أسواق العمل تمكنها من فرض أجور متدنية وظروف عمل متواضعة بما يسمح بتعظيم ربحها على حساب العمال والمستهلكين على حد سواء. وعلى الجانب الآخر، فقيام الدولة بدور المنتج يطرح دوماً تساؤلات حول الكفاءة فى ظل غياب حافز الربح، وذلك إلى جوار استهداف التوظيف السياسى والدعائى للمشروعات على حساب المنفعة الاقتصادية، بالإضافة إلى أزمة امتلاك الدولة للأصول الانتاجية مع غياب الشفافية فى جهازها البيروقراطى وعدم خضوع مؤسساتها كافة لسيطرة الأجهزة الرقابية «المستقلة». بديل محتمل تقدم هنا المشروعات الصغيرة بديلاً محتملاً وليس فقط مكملاً للأنماط الكلاسيكية المذكورة، فإلى جوار الحفاظ على الحافز الفردى للنجاح يتخطى هذا النمط الانتاجى الجوانب الاستغلالية للنمط الرأسمالى من خلال ملكية العامل لأصوله الانتاجية وغياب سطوته على السوق، وذلك بالإضافة لتخطى التعقيدات السياسية والاجتماعية لملكية وإدارة الدولة لأصول الانتاج. وإلى جوار الشق الاقتصادى المجرد، يحمل نمط انتاج المشروعات الصغيرة فى داخله نواة إعادة تشكيل المنظومة الاجتماعية برمتها، فمن خلال التمكين الاقتصادى للأفراد والتوسع فى لامركزية صناعة قرار الانتاج والتسويق، يَضعُف بذلك النفوذ السياسى - الاجتماعى لرأس المال المركز والمتكتل سواء الخاص أو الحكومى والقائم بالأساس على السطوة الاقتصادية، ويفسح المجال بالتالى أمام حيز أكبر من ممارسة الديمقراطية الفعلية المستندة على مسئولية الفرد عن نشاطه الاقتصادى. وفى حين تسعى مصر فى المرحلة الراهنة لتحقيق اختراق تنموى وتخطى أزمات تباطؤ النمو وسوء توزيع عائداته، فإن حجم الجهود المكرسة لجذب الاستثمارات الأجنبية ومنحها امتيازات متعددة أو التساهل فى شروط العمل والتوظيف فى السوق المصرى، أو السعى على الجانب الآخر لزيادة الأصول الانتاجية المملوكة للدولة، لا يتلاءم مع دور الاستثمارات الأجنبية أو الحكومية فى الاقتصاد المحلى بالمقارنة مع المشروعات الصغيرة. نسب المشتغلين فوفقاً للبيانات الرسمية المتوافرة (وهى قديمة نسبيا)، والتى ترجع لعام 2006، كانت نسبة المشتغلين فى القطاع الحكومى إلى إجمالى المشتغلين فى مصر 34.8%، وهى النسبة التى يسيطر عليها الجهاز الإدارى والبيروقراطى للدولة وليست أنشطتها الانتاجية، وبالتالى قد توحى بوجود دور أكبر لها كمنتج على عكس الواقع، بينما وظفت المشروعات المتوسطة والكبرى فى القطاع الخاص المحلى والأجنبى 7.5% فقط من إجمالى المشتغلين، وذلك فى الوقت الذى عمل فيه 28.9% من إجمالى المشتغلين فى مصر فى مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر يقل عدد العاملين فيها عن 50 فرداً، فى حين امتص القطاع الزراعى النسبة المتبقية من المشتغلين. وتشير الاحصاءات الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2010 إلى وجود 2.5 مليون مشروع خاصً غير زراعى فى مصر، تمثل المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر 99% منها، أى 2.44 مليون مشروع، يعمل 51% منها فى الصناعات التحويلية، و40% فى تجارة التجزئة والجملة، وتتوزع النسبة المتبقية على أنشطة السياحة والبناء والتشييد. وتضم محافظاتالقاهرة، الاسكندرية والدقهلية النسبة الأكبر من المشروعات والمشتغلين فى الجمهورية، حيث تضم 18.5%، و8.3%، و6.7% على التوالى من إجمالى المشتغلين فى المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر فى الجمهورية، و14.5%، و7.1%، و7.7% على التوالى من إجمالى المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر فى البلاد. تجاهل رسمى ويتضح التجاهل الذى تعانيه المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر فى مصر بالرغم من ثقلها الاقتصادى والاجتماعى البارز من خلال حجم التمويل المكرس لها، سواء من الجهات غير المصرفية كوزارة التضامن الاجتماعى والصندوق الاجتماعى للتنمية، أو الجهات المصرفية كالبنوك التجارية وبنك التنمية الصناعية والبنك الوطنى للتنمية. فخلال الفترة من 2004/2005 حتى 2008/2009 قدمت الجهات غير المصرفية 5.4 مليار جنيه فقط - جزء منها مولته جهات مانحة أجنبية - كتمويل لمشروعات صغيرة يعمل بها 1.4 مليون مشتغل، أى أقل من ربع العاملين فى المشروعات الصغيرة فى تلك الفترة. على الجانب الآخر، كان تمويل الجهات المصرفية للمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر ضئيلاً هو الآخر، عاكساً إحجامها عن الاستثمار فى ذلك القطاع وتفضيلها لإقراض المؤسسات الكبرى أو منح قروض الاستهلاك للأفراد، ووفقا للإحصاءات الصادرة عن البنك المركزى المصري، فى العام المالى 2008/2009، كان نصيب المشروعات الصغيرة من إجمالى التسهيلات الائتمانية 4% فقط، فى حين حصلت المؤسسات الاقتصادية على 90% من التسهيلات واستحوذت قروض الاستهلاك الشخصى على ال 6% المتبقية. وعلى مدار الأعوام من 2009/2010 حتى 2011/2012 انخفض نصيب المشروعات الصغيرة من القروض وتسهيلات الائتمان إلى 3.5%، ثم أخيراً انخفض إلى 3% فقط فى العام المالى 2012/2013. ويضاف إلى أزمة ضعف التمويل أزمات أخرى تعانيها المشروعات الصغيرة فى مصر، تضم ضعف البنية التحتية، قدرات التسويق المحدودة، التعقيدات القانونية، والمنافسة غير المتكافئة مع المؤسسات الكبرى العاملة فى المجالات ذاتها. التعاونيات ضرورة وللتغلب على العقبات والاهمال، يلوح الانتظام فى تعاونيات طوعية حقيقية كآلية ضرورية لصعود المشروعات الصغيرة وترسيخ دورها كنمط انتاجى قائم ومتفرد، فمن خلال تكوين تعاونياتهم سيتمكن المشتغلون من الحصول على التمويل من الجهات المصرفية عبر تكوين كيان جامع يتحصل على الائتمان الضخم بشروط مجزية وقدرة تفاوضية مميزة ومخاطر أقل، كما ستمكن التعاونيات صغار المنتجين من التنافس فى الأسواق من خلال استخدام التقنيات والميكنة الحديثة بشكل جماعى وبالتالى الاستفادة من وفورات الحجم «Economies of Scale» ووفورات المجال «Economies of Scope» بوصفهما أحد أبرز نقاط تفوق وسيطرة الشركات الكبرى، حيث يمكناها من خفض التكلفة وزيادة الكفاءة عبر التوسع فى حجم الانتاج و تنوعه. ونتيجة للتكتل فى تعاونيات، بدأ صغار المنتجين فى اكتساب أرضية أكثر رحابة حول العالم وطرح نمط الانتاج الصغير بقوة كمنافس كفؤ وناجح، فاليوم يُقدر أعضاء التعاونيات من صغار المنتجين بمليار شخص، كما توفر التعاونيات أكثر من 100 مليون وظيفة، أى أكثر مما توفره الشركات المتعددة الجنسيات ب 20 فى المائة، كما بلغت مبيعات أفضل 300 تعاونية على مستوى العالم فى 2008 «1.1 تريليون» دولار أمريكى، وفقا لما تشير إليه الإحصائيات الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) لعام 2012. ومع تلك الآفاق الواعدة لصغار المنتجين، فبمقدورنا أن نجزم بأن تحويل دفة السياسات والتشريعات والموارد صوب دعم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر سيسهم فى تحقيق نقلة على صعيد النمو الاجمالى للاقتصاد المصرى، لكن أهم من ذلك سيحقق طفرة فى توزيع عائدات النمو بشكل مباشر وعادل استناداً إلى جهود الانتاج وليس فقط باللجوء إلى تحويلات اجتماعية أو إجراءات إعادة توزيع حكومية.