في أحد أفلام كارتون "توم وجيري" الشهيرة، ينصاع القط "الأهوج" دوما لأوامر صاحبة المنزل "المستبدة" للقضاء على الفأر الذي يعبث بالمكان، ولكن الفأر يستغل فارق الذكاء بينه وبين القط وصاحبة المنزل فينجح في الهروب من الموت في كل مرة. هذا هو مضمون الفيلم الذي نشاهده حاليا بين روسيا والغرب على وقع الأزمة الأوكرانية. نفس صراع القط والفأر، الذكاء والدهاء في جانب، والغباء والاندفاع والتبعية العمياء في الجانب الآخر، وظهر هذا واضحا في حرب العقوبات، التي أقحمت فيها أوروبا نفسها بسذاجة شديدة لإرضاء الراعي الأمريكي، والسبب هو علاقة التبعية الأبدية التي تربط بين الطرفين : أوروبا وأمريكا، والتي ظهرت في أفغانستان والعراق في إطار الحرب ضد الإرهاب، ثم في مخطط قلب الشرق الأوسط رأسا على عقب، وأخيرا في أوكرانيا، وهي علاقة أسفرت دائما وأبدا عن أضرار فادحة تلحق بالقارة الأوروبية، فتتعرض للإرهاب دون مبرر، ويتعرض أبناؤها للقتل في حروب لا دخل لهم بها، ويتهدد أمنها بسبب أبنائها الذين يقاتلون في صفوف الإرهابيين في سوريا والعراق، ومع ذلك، فإنها في كل مرة لا تتعلم الدرس، وترفع شعار "التبعية" حتى الموت. بعد اندلاع أزمة أوكرانيا، وتحديدا عقب ثورة كييف المدعومة غربية والتي قسمت أوكرانيا إلى ثلاثة أجزاء، وأشعلت حربا أهلية في الشرق، ودفعت أوكرانيا إلى حافة الإفلاس، حاصرت الولايات المتحدة روسيا بالعقوبات الاقتصادية، مجرد حرب عن بعد مع الدب الروسي تحاشيا لمواجهة عسكرية معه، وكانت العقوبات الأمريكية في معظمها غير مؤثرة، ولكن واشنطن نجحت في إقناع أوروبا بفرض حزمة عقوبات خاصة بها على روسيا. وبعد أن كان الحديث في مراحله الأولى "هزليا" إلى حد كبير، ويتعلق فقط بحرمان المستهلكين الأمريكيين والأوروبيين من الكافيار والفودكا الروسيين، أصبح الأمر الآن يتعلق بمنتجات غذائية أساسية قررت روسيا الامتناع عن استيرادها من دول أوروبا الشرقية بالذات، ردا على العقوبات الأوروبية، فتوقف استيراد لحوم البقر والخنزير والدجاج والخضروات والفواكه والأسماك والألبان ومنتجات الألبان، وشملت العقوبات الروسية دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأستراليا وكندا والنرويج، كما بدأ الروس في البحث عن دول صديقة بديلة أخرى للحصول على هذه المنتجات منها، مثل مصر والمغرب والصين، إضافة إلى دول أمريكا اللاتينية، ومن بينها البرازيل، التي ستورد لروسيا لحوم الأبقار، وتفاوضوا بالفعل مع قادة هذه الدول وغيرها لتوفير إمداد آمن ودائم من الغذاء لروسيا في الفترة المقبلة، وقيل إن مصر تحديدا بإمكانها تصدير الطماطم والبطاطس والبصل وغيرها إلى روسيا. ولو استمرت العقوبات الأوروبية أكثر من ذلك، سترد روسيا بمجموعة أخرى من العقوبات، أهمها حظر استيراد السيارات الأوروبية والأمريكية، والحد من رحلات شركات الطيران الغربية عبر المجال الجوي الروسي، وهو ما سيكون أكثر إيلاما. وكان الموقف الأوروبي إزاء هذه التحركات الروسية مشينا، إذ اجتمع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وبدلا من أن يبحثوا إمكانية التراجع عن العقوبات على روسيا، أعلنوا عن إطلاق حملة دبلوماسية لإقناع "أصدقائهم" من الدول التي ستصدر المنتجات الغذائية لروسيا لكي تمتنع عن ذلك، وكانت الحجة التي ساقها الوزراء الأوروبيون لهذه الحملة شديدة السخف، إذ قالوا إنهم لا يريدون لأي دولة استغلال الموقف والالتفاف على العقوبات المفروضة على روسيا، وذلك على الرغم من أن هذه العقوبات لم يتم فرضها بقرار دولي صادر عن مجلس الأمن مثلا. ولذلك، كان أبلغ رد هو ما قاله رئيس الإكوادور رافائيل كوريا من أنه ليس مضطرا للالتزام بما تقوله أوروبا، وأنه حر في تصدير منتجات بلده إلى أي جهة، وقال أيضا متهكما : "حسب معلوماتي ، فإن الإكوادور ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي"! الأرقام الآن تشير إلى أن منطقة اليورو سجلت معدل نمو نسبته صفر في المائة في الربع الثاني من العام الحالي بسبب تأثيرات العقوبات على الاقتصاديات الأوروبية، ويتحمل هذه المسئولية دول أوروبا الكبرى المنصاعة على طول الخط لأمريكا. والنتيجة أن كل دول أوروبا، وبخاصة دول شرق القارة، تصرخ الآن من تأثير العقوبات عليها. فجمهورية التشيك قالت على لسان وزير ماليتها أندريه بابيس إن العقوبات لم تحقق أي شيء لأن الصراع الأوكراني يتصاعد وشعبية بوتين في ارتفاع بسبب تنامي الحس الوطني المعادي للغرب بين الروس. وصربيا قالت على لسان وزير خارجيتها إيفيتسا داسيتش إنه يتعين سحب العقوبات الأوروبية ضد روسيا، لأن بلاده تعتمد بصورة كلية على إمدادات الطاقة من روسيا. وهولندا خسرت 400 مليون دولار من قيمة صادراتها لروسيا بسبب العقوبات التي جاءت في أسوأ توقيت بالنسبة لهذا البلد الأوروبي الذي يملك خامس أكبر اقتصاد في منطقة اليورو والذي يكافح من أجل الخروج من دائرة الركود. وبولندا والنمسا بدأتا في إطلاق حملات شعبية لإقناع مواطنيهما بتناول 3 أو 4 تفاحات روميا محلية لمساعدة بلديهما على مواجهة الخسائر المالية الناجمة عن الحظر الروسي على استيراد التفاح من البلدين. أما سلوفاكيا فانتقدت على لسان رئيس الوزراء روبيرت فيكو العقوبات ضد روسيا، واصفا إياها بأنها "لا قيمة لها"، وتهدد النمو الاقتصادي في بلاده وفي دول الاتحاد الأوروبي كلها. وكانت المجر الأكثر صراحة، إذ قال رئيس وزرائها فيكتور أوربان إن الاتحاد الأوروبي المكون من 28 دولة "كمن أطلق النار على قدميه"!.. والقط "توم" أيضا كان يطلق النار على قدميه بالخطأ تنفيذا للأوامر، ثم يتألم!