تمثل الكتابة سؤالا منفتحا على الحرية والمستقبل، خاصة حين تنحاز إلى ناسها وجماهير شعبها بلا مواربة، فتؤمن بالأوطان أكثر من إيمانها بالسلطة، فتتحقق مهمة الكتابة بوصفها حالا من» إطلاق الوعي» بتوصيف الكاتب الإفريقي الشهير «وولي سوينكا/ نوبل 1986» وعبر هذا الفهم تصبح الأمم أمام عتبات جديدة من الفعل الثقافي بوصفه فعلا منتجا بالأساس لأفكار جديدة، قادرة على صوغ مختلف لعالم حر، ونبيل، ومتقدم. وفي غمرة الانشغال بجملة من التعقيدات والإشكاليات التي تجابهها الأمة المصرية في لحظتها الآنية سياسيا/ ثقافيا، يتوجب على الدولة المصرية، وبمضاء حقيقي، أن تسعى إلى تجديد العقل العام، بدءا من تحرير الوعي المصري»إطلاق الوعي»، من جميع الأغلال والقيود التي تحاصره. وحين تنتفض الأمم الناهضة ذات الجذور الحضارية والثقافية المتنوعة، كما حدث في الحالة المصرية فإنها تسعى أول ما تسعى إلى مجابهة ما ثارت عليه حقا، والمصريون ثاروا ضد الاستبداد بتنويعاته السياسية والدينية، بعد أن حاصرهم القمع، ونهشهم الفقر والعوز، وبدت استحالة التعايش بينهم وبين واقع غاصب وعبثي ومستبد، ومن ثم كانت الثورة في الخامس والعشرين من يناير 2011، وكانت معها آمال كبار عن الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي، وكانت أشواق المصريين في التغيير في أشد تجلياتها خلقا وابتكارا، ثم بدت التناقضات الفادحة في خطاب ما بعد الثورة، والذي تحرك في الاتجاه المعاكس، وبدلا من تطهير بؤر الفساد المباركي التي تمددت في مفاصل الدولة، كان الالتفاف الإخواني على الثورة، ودخلت مصر مرحلة من»أخونة الفساد»، مضافا إليها استبداد بطريركي باسم الدين. فكانت ثورة الثلاثين من يونيو خلاصا من فاشية الإخوان، واستعادة للدولة المصرية من براثن وكلاء السماء الجدد، غير أن الإشكالية تبقى في محاولة الالتفاف على ثورة يونيو من قبل أنصار الدولة المباركية القديمة، وجماعات المصالح المرتبطة بها، والتي تعيد إنتاج نفسها من جديد عبر خطابات سياسية/ ثقافية فارغة من المعنى، ومسكونة برطان كاذب. تصبح الحاجة إلى تجديد العقل العام، حاجة ماسة إلى التعبير الحقيقي عن أفق جديد بالكلية، يستلزم خيالا جديدا سياسيا/ ثقافيا، وأفقا منفتحا على الراهن المعيش»الآن/ وهنا»، لا أفقا ماضويا، قديما، ومتكلسا. وفي إطار تجديد العقل العام، لا بد من نخبة تحمل تفكيرا إبداعيا، تدعم خطاب الدولة المدنية، في مقابل دولة الملالي، والحكم باسم المقدس، دون أن تتحول هذه النخبة إلى كتائب لتبرير الاستبداد، أوالالتحاق به، فيصبح خطابها الخالص لوجه الوطن ولا شيء سواه. وسعيا لتحرير الوعي المصري لا بد أيضا من تحديث بنية التفكير، وتخليصها من حالة الخرافة المهيمنة عليها، وكسر ازدواجية التصورات عن العالم، والتي تصل في مجتمعاتنا إلى حالة من الفصام الفكري والنفسي لدى قطاعات واسعة من المصريين الحائرين بين البعدين الميتافيزيقي والعلمي من جهة، والذين يحكمون الماضي في الراهن من جهة ثانية، ولذا يجب أن تتحول الخطابات الجديدة إلى خطابات للعقل المحض، والانتصار الواضح لقيم العلم والتقدم. يتحرر الوعي المصري على مسارين يتصلان ولا ينفصلان، يتقاطعان معا، ويتجادلان سويا، فلا يغني أحدهما عن الآخر، ولا شيء يتقدم على الثاني، بل ينبغي أن يعملا معا، أولهما أن يتحرر الإنسان من أي فخ للاستبداد السياسي، والعوز الاجتماعي، فتتم استعادة جدارة الإنسان، وإنسانيته في آن، وهنا لا مكان للفقر والظلم الاجتماعي والفساد والبطالة وكل تداعيات الفساد الممنهج طيلة السنوات السابقة. والمسار الثاني ربما يبدو أكثر تعقدا لأنه لا بد أن يأتي في ظل إيمان عميق من الدولة بناسها، وبحقهم في المعرفة إلى جانب الخبز، والحرية مع الأمن، فلا مقايضة على شيء، ولا مساومة على آخر، والوجهة يجب أن تكون واحدة، وتتمثل في بناء وطن يليق بنا ونليق به، وبتاريخه، وغناه الإنساني والحضاري، وهذا المسار الحضاري/ الثقافي لا يعمل في الفراغ، ولا يجب أن يتسلل إليه الزحف العشوائي الذي تسلل لحياتنا المادية. يتحرر الوعي المصري حين لا يتحكم ما كان فيما هو كائن، وحين لا نسقط الماضي على الحاضر، وحين لا نصادر القادم لمصلحة لحظة كريهة من عمر الأمة المصرية، وبما يوجب أيضا أن يصبح الانحياز إلى المستقبل خيارا وحقا أصيلا لشعب قدم الدماء والشهداء، وبذل الغالي والنفيس من أجل حريته وعيشه الكريم. إن تحرير الوعي المصري مهمة كبرى تصلح وباختصار أن تكون مشروعا للأمة الناهضة ولدولتها الجديدة بعد كل التضحيات التي قدمها المصريون؛ وتحرير الوعي نقيضه تماما تزييف الوعي وتقييده، وحصاره ما بين الخرافة، والقمع، وتشويه كل ما هو حقيقي، ونبيل في حياتنا، مثلما يحاول البعض ومن فترة ليست بالقصيرة تشويه ثورة يناير المجيدة وإهالة التراب عليها. وبعد.. تحيا الأمم بالحقائق لا الأكاذيب، وتنتصر للمستقبل لا للماضي، وتنحاز إلى الجديد لا القديم، فتملك حينئذ خيالها الخصب، وقوتها الناعمة، ومصيرها الذي يصبح في يدها وحدها، فتزدهر وتصبح أبهى وأقوى. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله