كانت القاهرة على وشك الإنفجار... مثلها مثل المواد الكيميائية التى تصل إلى أعلى نقطة غليان فى المعامل حين ولدت سميرة موسى عام 1917. والسبب هو ذلك الاحساس بالظلم والغبن والإحتقان الذى توطن داخل المصريين نتيجة للاستعمار البريطانى للبلاد والعباد. صحيح أن القاهرة وقتها كانت مدينة ناعمة وراقية لا تبدى شوارعها أى إحساس بالرغبة فى الثورة. ولكن ما فى قلوب الناس كان يكفى لحرق مدن بأكملها، ولهذا لم يكن هناك حل سوى إنتظار زعيم أو أن تتبدل الظروف السياسية ويذهب المحتل إلى حيث أتى. يحدث هذا فى القاهرة التى كانت فيما يبدو على موعد مع الزعيم سعد زغلول وثورة 1919، ولكن فى مكان آخر فى قرية سنبو الكبرى بمركز زفتى محافظة الغربية كانت تتفتح عيون سميرة أبنة الشيخ موسى على. ولم تكن سميرة هى الأبنة الوحيدة, فقد كانت رابعة بناته ولها أخ وحيد, الا أن المزاج المصرى وقتها أو الحالة التنويرية التى كان يعيشها المجتمع المصرى – إن صح التعبير - سمح بالانتباه لموهبة طفلة استطاعت فى زمن قياسى بعد دراستها فى الكتاب أن تقرأ مقالة فى جريدة حول زعيم الأمة سعد زغلول وأن تتذكر تفاصيلها دون مساعدة من أحد. فيذهب والدها بها إلى القاهرة ويستقر بحى الحسين, حيث يشترى فندقا متواضعا ليعاونه على معايش الحياة، وتلتحق ابنته بالمدارس القاهرية, وتحديدا مدرسة قصر الشوق, للحصول على الشهادة الابتدائية ثم تنتقل إلى مدرسة بنات الأشراف التى كانت تديرها نبوية موسى التى اشترت معملا خاصا لسميرة حتى تقوم فيه بأبحاثها كما يشير كتاب نساء فوق القمة. ونبوية موسى, مديرة مدرسة بنات الأشراف, قصة أخرى. فهى ثانى فتاة مصرية تحصل على شهادة الإبتدائية فى بداية القرن العشرين وتحديدا عام 1903، وكانت ضمن أول فتيات يحصلن على درجة البكالوريا بعد أن اصرت الا تسلك مسلك الفتيات اللاتى يلتحقن بمدرسة المعلمات, ضاربة عرض الحائط بقرارات دنلوب المستشار البريطانى الذى أراد الا تكون نبوية قدوة لغيرها. لم تكن نبوية وحدها, فقد كان هناك طابور طويل من المتنورين الذين أرادوا الخير لمصر وآمنوا بأنه لا صلاح لحالها بغير نهضة علمية وتعليمية, حتى أن بعض أثرياء مصر قد تنازلوا – كما يقول شيخ المعمارين د. يحيى الزينى - عن بيوتهم الكبيرة لتحويلها إلى مدارس لأبناء الشعب. وهكذا كان من المنطقى أن تكون سميرة موسى واحدة من بنات الأشراف اللاتى تعهدتهن نبوية موسى، لتلتحق بعدها سميرة بكلية العلوم وتتخرج كأول معيدة، وتتتلمذ على يدى د. على مصطفى مشرفة أكبر عالم مصرى وزميل آينشتاين, لتحصل على درجة الماجستير فى «التواصل الحرارى للغازات» وتسافر بعدها إلى لندن لتدرس النشاط الاشعاعى.وتحصل على الدكتوراة فى الأشعة السينية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحال فقد كان هذا التخصص ينتظره الكثير. فسافرت إلى الولاياتالمتحدة لإجراء أبحاث فى معامل جامعة سان لويس. وكان لإنفجار القنبلة الذرية فى هيروشيما وناجازاكى وقعه الكبير عليها, فرأت أنه لابد لمصر من هيئة للطاقة الذرية, لأن هذا هو علم المستقبل الذى ينبغى أن يوجه ناحية السلام, وفى مجال البحث عن علاج للأمراض المستعصية كمرض السرطان وليس للتدمير والقتل. قالت فى رسالة لوالدها: «لو كان فى مصر معمل مثل المعامل الموجودة هنا كنت أستطيع أن أعمل حاجات كثيرة» وفى يوم من الأيام ركبت سميرة السيارة لتندفع بها من منطقة مرتفعة لتختفى إلى الأبد فى أغسطس عام 1952 بعد شهر واحد من قيام الثورة المصرية, ولتعود إلى مصر جثة فى نعش وهى التى كانت تملأ الحياة حركة وساهمت فى مشروع القرش للصناعة الوطنية. لماذا سميرة؟ ولكن لماذا نتذكر سميرة؟ ربما لأن هذه الأيام تسجل مرور اثنين وستين عاما على رحيلها (أغسطس 1952) وربما لأنها لم تكن العالمة الوحيدة التى تعرضت لهذا, فمن بعدها علماء كيحيى المشد تعرضوا للإغتيال, ومن قبلها علماء فى وزن على مصطفى مشرفة حامت الشبهات حول وفاتهم. وعلى مصطفى مشرفة هو العالم المصرى الذى أختارته مصر لبعثة علمية لإنجلترا فى نفس عام مولد سميرة موسى. وكان منذ البداية متفوقا والأول على القطر المصرى, وتخرج فى كلية نوتنجهام ثم لندن حيث حصل على درجة الدكتوراة فى أقصر مدة ممكنة. وعندما عاد عام 1925 أصبح أستاذا للرياضة التطبيقية بكلية العلوم ثم حصل - كما تقول أوراقه الخاصة بذاكرة مصر المعاصرة - على درجة الأستاذية بعدها بعام رغم إعتراض قانون الجامعة على منح هذه الدرجة لمن هو أقل من الثلاثين. ولم يكن إنجاز مشرفة هو تجاوز الدرجات العلمية بهذه السرعة وإنما فى أبحاثه حول النظرية الكمية وإيجاد مقياس للفراغ فى حين أن هندسة الفراغ المبنية على نظرية إينشتين تتعرض فقط لحركة الجسيم المتحرك فى مجال الجاذبية. كما كانت له نظرياته فى الإشعاع والسرعة. ومع هذا لم يعتبر مشرفة نفسه عزفا منفردا, فقد كان نتاج للتعليم والتربية المصرية وقتها, ففتح الأبواب للاشقاء العرب للدراسة, وأنشأ قسما للغة الإنجليزية بالكلية, وكان عضوا بالمجمع المصرى للثقافة العلمية, وله مناظرة شهيرة مع د. طه حسين حول أهمية العلم والأدب للمصريين، فقد كان مشرفة يرى أن العلم لا يمكن أن يظل حبيسا داخل الجامعات بل هو ثقافة عامة وهو ما جعله يتقدم للإذاعة ببرنامج إذاعى شهير عن أهمية العلم مازالت الإذاعة المصرية تحتفظ به فى أرشيفها. كما كان حافظا للقرآن الكريم وعاشقا للموسيقى وعازفا بارعا للبيانو حتى أنه أسس الجمعية المصرية لهواة الموسيقى. بإختصار كان مشرفة وسميرة موسى نبتا طبيعيا لمجتمع سوى يبحث عن من يستطيع أن يتقدم به إلى الأمام، فهو مجتمع مساند لكل متفوق من اصغر صغير إلى أكبر كبير. صحيح أن سميرة موسى قد أغتيلت وكذلك المشد وكثير من علماء الذرة، كما أن هناك شبهات تحوم حول وفاة مشرفة نفسه. الا أننا لابد أن نعرف أيضا أن هناك مئات العلماء الذين ماتوا فى مصر كمدا وحسرة نتيجة حروب أفتعلت على كل ما هو ناجح ومثمر, وكأن المصريين أنفسهم تغيروا مائة وثمانين درجة وقدموا للآخرين هدايا لم يكن حسدهم ولا تدبيرهم ليوصلهم إليها بسهولة. فلكى نقف على أرجلنا من جديد لابد البحث عن مشروع للنهضة العلمية التى نتذكرها فى ذكرى اغتيال سميرة موسى. وفى هذه المساحة فى العدد القادم سنحاول التعرف على قصة العلم فى مصر... فماذا حدث قبل أن يغتالوا سميرة موسى؟