رئيس جامعة قناة السويس يتابع امتحانات كلية الألسن    «التضامن» تقر عقد التأسيس والنظام الداخلى لجمعية العلا التعاونية للخدمات الاجتماعية    أسعار النفط تقلص مكاسبها وتتداول بالقرب من أعلى مستوى في 5 أشهر    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الاثنين    وزير الري يتابع المنظومة المائية بمحافظتي بني سويف والمنيا خلال فترة أقصى الاحتياجات    ارتفاع تحويلات المصريين بالخارج إلى 29.4 مليار دولار خلال 10 أشهر    الاثنين 23 يونيو 2025.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع    إسرائيل تطالب مواطنيها بدخول الملاجئ والبقاء فيها حتى إشعار آخر    وزير خارجية إيران: الهجمات الإسرائيلية والأمريكية "عدوان" ونرد من منطلق الدفاع عن النفس    كيف أثر القصف الأمريكي لإيران على الوضع الأمني داخل الولايات المتحدة؟    استشهاد 9 فلسطينيين من منتظري المساعدات في شمال غربي غزة جراء قصف إسرائيلي    مانشستر سيتي يكتسح العين ويتأهل لدور ال16 بمونديال الأندية 2025    مباراة الأهلي وبورتو اليوم في كأس العالم للأندية 2025.. القنوات الناقلة وتشكيل الفريقين    بالفيديو.. الأرصاد: ارتفاعات في نسب الرطوبة والقاهرة تسجل 39 درجة مئوية    وصول دفاع الطفل ياسين لمحكمة جنايات دمنهور    رئيس جامعة قناة السويس يشهد مؤتمر جمعية أبحاث الجهاز الهضمي بالإسماعيلية    بالأسماء، وزير الداخلية يأذن ل21 مواطنًا بالحصول على جنسيات أجنبية    أسعار البيض في المزارع المحلية اليوم الإثنين 23 يونيو    استقرار سعر الدولار في البنوك الرئيسية اليوم الإثنين 23 يونيو 2025    الذهب يتأرجح بين صعود عالمي وضغوط محلية رغم تراجع التوترات الجيوسياسية    حالة المرور اليوم، كثافات متحركة في هذه المناطق    هاني شاكر يحيي حفلا غنائيا 18 يوليو بمسرح البالون    عزلة واكتئاب حاد، نص أقوال الأم قاتلة أبنائها الثلاثة خنقًا بالشروق    نانسي عجرم بجاكيت غريب في حفلها بمهرجان موازين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 23-6-2025 في محافظة قنا    شركات الطيران العالمية تراجع خططها في الشرق الأوسط بعد الضربات الأمريكية على إيران    السبكي: الأورام السرطانية تمثل تحديًا لأي نظام صحي    حظك اليوم الإثنين 23 يونيو 2025 وتوقعات الأبراج    إسعاف الاحتلال: عدة إصابات أثناء التوجه إلى الملاجئ بعد هجوم صاروخى إيرانى    روبي بعد تصدر "ليه بيداري" الترند مجددًا: الجمهور بيحبها كأنها لسه نازلة امبارح!    عقوبة الهاكر.. الحبس وغرامة 50 ألف جنيه وفقًا لقانون مكافحة الجرائم الإلكترونية    حكم الشرع في غش الطلاب بالامتحانات.. الأزهر يجيب    ظهور نتيجة الشهادة الإعدادية 2025 في أسيوط خلال ساعات.. رابط مباشر وخطوات الاستعلام    «متقللش منه».. مشادة على الهواء بين جمال عبدالحميد وأحمد بلال بسبب ميدو (فيديو)    تفجير كنيسة مار إلياس بدمشق.. جرحٌ ينكأ ذاكرة العنف الطائفي(تقرير)    جمال عبد الحميد: كنت أتمنى بقاء الرمادي في تدريب الزمالك    أحمد بلال: الزمالك تعاقد مع مدير رياضي لم يلعب كرة القدم من الأساس    دونجا: أداء الأهلي في كأس العالم للأندية سيئ.. والفريق يلعب بطريقة غير واضحة مع ريبيرو    التعليم: وصلنا لمرحلة من التكنولوجيا المرعبة في وسائل الغش بامتحانات الثانوية العامة    مصرع شابين غرقا ببركة زراعية في الوادي الجديد    إصابة 5 أشخاص في حادث انقلاب ميكروباص بالصف    بالصور.. خطوبة نجل سامي العدل بحضور الأهل والأصدقاء    «أكسيوس»: الهجوم على إيران كان عملية ترامب وليس البنتاجون    جراء الضربة الأمريكية.. معهد الأمن الدولي: مجمع أصفهان النووي الإيراني تضرر بشدة    الأزهر للفتوى يحذر من الغش في الامتحانات: المُعاونة على الإثم إثم وشراكة في الجريمة    ما حكم تسمية المولود باسم من أسماء الله الحسنى؟.. أمين الفتوى يجيب    الدكتور علي جمعة: المواطنة هي الصيغة الأكثر عدلًا في مجتمع متعدد العقائد    موعد مباريات اليوم الإثنين 23 يونيو 2025| إنفوجراف    طبيبة كفر الدوار تطعن على حكم إيقافها 6 أشهر في قضية إفشاء أسرار المرضى    بالأرقام.. ممثل منظمة الصحة العالمية: 50% من حالات السرطان يمكن الوقاية منها    نيللي كريم تكشف عن مواصفات فتى أحلامها المستقبلي (فيديو)    جمال الغندور: الأهلي يفاضل بين ديانج وعطية الله للموسم المقبل    اعتماد نتيجة امتحانات الترم الثاني لمعاهد "رعاية" التمريضية بالأقصر.. تعرف على الأوائل    مندوب إيران بمجلس الأمن: أمريكا الوحيدة تاريخيا من استخدمت أسلحة نووية    وشهد شاهد من أهله .. شفيق طلبَ وساطة تل أبيب لدى واشنطن لإعلان فوزه أمام الرئيس مرسي!    «الشيوخ» ينتقد أوضاع كليات التربية.. ووزير التعليم العالى: لسنا بعيدين عن الموجود بالخارج    مقتل شاب وإصابة والده في مشاجرة بضواحي بورسعيد    وداعًا لأرق الصيف.. 4 أعشاب تقضي على الأرق وتهدئ الأعصاب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الحجم الأمثل
نشر في الأهرام اليومي يوم 20 - 08 - 2014

أكتب هذا المقال للتنبيه عن خطر المشكلة السكانية، ذلك أن هناك فيما يتعلق بالسكان كما هو الحال بالنسبة للعديد من الامور الأخرى ما يمكن أن نطلق عليه «الحجم الأمثل»،
وأن كل زيادة على ذلك تعرض المجتمعات لمشاكل كبيرة. وقد رأيت أن أمهد لذلك بالحديث عن مفهوم «الحجم الأمثل» Optimum، وهو مفهوم يجاوز قضية السكان لينطبق على معظم مظاهر الحياة. فيذهب المثل الشعبى للقول بأن «خير الأمور الوسط». فالمبالغة بالتقتير أو بالإسراف تكون عادة ضارة. ولننظر إلى بعض الأمثلة قبل أن أنهى حديثى اليوم بالإشارة إلى مشكلتنا الحالية عن الانفجار السكانى وخطورته على مستقبل مصر.
يقول الله تعالى «لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم»، صدق الله العظيم. وإذا كان الإنسان يتميز على بقية الخلق بما يتمتع به من عقل، وفلم يكن غريباً أن تكون نسبة حجم «المخ» وهو الجهاز العضوى المسئول عن العمليات الذهنية إلى حجم الإنسان، هى أعلى نسبة بين الكائنات الحية. فمخ الإنسان والذى لا يتجاوز حجمه 2% من حجم الإنسان، يستهلك أكثر من 20% من الطاقة التى يستخدمها الإنسان. ومعنى ذلك أن كل خلية من خلايا المخ تتمتع بعشرة أمثال فى المتوسط مما يتاح لباقى خلايا الجسم. ومن هنا يتمتع الإنسان وحده دون بقية المخلوقات بقدرات ذهنية لا مثيل لها. فمخ الفيل مثلاً أكبر من مخ الإنسان، ولكن بالنظر إلى حجم الفيل، فإن نسبة حجم مخه تقل بكثير عن نسبتها لدى بنى آدم. ولذلك لم يكن من المتصور أن يكون الفيل أكثر ذكاء من الإنسان. والإنسان، مع ذلك يتمتع بمزايا ليس فقط لكبر مخه النسبي، وإنما لأنه يتمتع أيضاً بأعضاء تسمح له بالحركة السريعة نسبياً، فضلاً عن قدرتها على تطويع البيئة المحيطة به، فيداه أكثر كفاءة فى الإستخدام مما جعله الكائن الوحيد تقريباً القادر على تصنيع الأدوات والآلات التى تمكنه من السيطرة على هذه البيئة. فالإنسان ليس فقط هو «الكائن المفكر» ولكنه أيضاً هو «الكائن الصانع». ومن هنا قامت الحضارة البشرية التى تعتمد على ذكاء الإنسان من ناحية وإمكانياته فى استخدام بقية أعضائه للتصنيع والحركة. فهناك توازن دقيق بين حجم المخ وبالتالى قدراته الذهنية، وبقدراته العضوية فى السير والحركة. ومن الصعب أن نتصور أن يكون حجم مخ الإنسان أكثر من ذلك، حيث أن ما قد يحققه من قدرات ذهنية أكبر، قد تفوت عليه إمكانيات إستخدامها إذا فقد قدراته العضوية الأخري. فلكل شيء «حجم أمثل».
ومفهوم «الحجم الامثل»، على هذا النحو، هو مفهوم عام لا يقتصر على التكوين البشري، بل أنه يكاد يشمل كل مظاهر الحياة. وقد اكتشف الاقتصاديون منذ وقت مبكر أن هناك، بالنسبة لكل صناعة، ما يمكن أن نطلق عليه «الحجم الأمثل» لهذه الصناعة أو تلك. فإذا أقيم مصنع بأقل من الحجم الأمثل لهذه الصناعة، فأغلب الظن أن هذا المصنع لن يستطيع أن يفيد من مزايا الإنتاج الكبير، سواء باستخدام تكنولوجيات أفضل، أو باستقطاب أفضل العناصر، أو بتوافر مراكز بحثية للبحث والتطوير، أو بالإنفاق على أجهزة الدعاية والتسويق. ولكن المبالغة فى حجم هذا المصنع وبما يجاوز «الحجم الأمثل»، فإنه قد يؤدى إلى ظهور مشاكل جديدة أكثر تعقيداً مثل الترهل وزيادة البيروقراطية وبطء اتخاذ القرار، وهكذا. وبالمثل إذا كان التخصص مطلوباً للإفادة من مزايا التعمق فى المعرفة ومتابعة آخر التطورات، فإن مزيداً من التخصص خاصة بالنسبة للدول يعنى إمكانيات تعرضها لأزمات خطيرة إذا أصاب القطاع الذى تتخصص فيه مشكلة توريد أحد مستلزمات الإنتاج، أو نقص الطلب العالمي.
فتوزيع المخاطر هو أحد وسائل مواجهتها. ومن هنا التنويع فى مصادر الدخل هو أحد الضمانات للاستقرار الاقتصادي. وحتى الجيوش لها «حجم أمثل»، وزيادة هذا الحجم بما يجاوز الحجم الأمثل يمكن أن يكون سبباً فى الهزيمة العسكرية . فنابيلون ورغم أن عبقريته العسكرية فشل فى حربه مع روسيا لأن جيشه كان أكبر مما ينبغي، مما أدى إلى طول طريق إمدادات بالجيش بما يحتاجه من طعام وسلاح ، وبالتالى فقد قدرته على الاستمرار وعرف هزيمة نكراء أمام جيش روسيا الأقل عددا وعدة. وفيما يتعلق بالاستثمارات المالية، فإن القاعدة الذهبية، هى ضرورة تنويع الاستثمارات توقياً للمخاطر. فالاستثمار المبالغ فيه فى أحد القطاعات ورغم احتمال فرص نجاحه قد تكون كبيرة يعرض الاستثمار فيه إلى مخاطر قد تترتب عليها خسارة ضخمة، إذا عرف هذا القطاع صعوبات غير متوقعة. فوضع البيض كله فى سلة واحدة هو مخاطرة كبري.
وهكذا، نرى أن مفهوم «الحجم الأمثل» هو مفهوم إستراتيجي، وأنه لابد من مراعاة عدم تجاوز هذا الحد، إذا أردنا أن نخفف من حجم المخاطر. وليس معنى ذلك أن هناك أرقاماً محددة وثابتة، وإنما يتوقف الأمر على العديد من الاعتبارات الأخري. وإذا كان الاقتصادى الإنجليزي، مالتس، هو أول من أشار إلى مفهوم «الحجم الأمثل» للسكان، فليس معنى ذلك أن هناك رقماً سحرياً لهذا الحجم، فهذا الحجم يتوقف إلى حد بعيد على مدى توافر الموارد الاقتصادية الأخري. وعندما تحدث مالتس عن السكان فى بداية القرن التاسع عشر، فقد كانت الثورة الصناعية فى بداياتها الأولي، وبالتالى ركز مالتس على المقارنة بين عدد السكان وإمكانيات الزراعة.
وغنى عن البيان أن أهم تطور عرفه السكان إنما يرجع إلى مدى توافر القدرات الإنتاجية. فما هو مناسب من أعداد بشرية فى مرحلة ما قبل الزراعة، يختلف كلية عن الأوضاع بعد إكتشاف الزراعة. وبالمثل فإن إمكانيات التصنيع وما أحدثته الثورة التكنولوجية قد زادت بشكل كبير من إمكانيات الزيادة السكانية. فقبل إكتشاف الزراعة منذ نحو عشرة آلاف سنة، كان الإنسان يعيش على اللقط والقنص، ومن ثم كان يحتاج هو وأسرته إلى عدة كيلومترات لكى يحصل على قوته وعائلته. ومن هنا عرفت البشرية كثافة سكانية هشة. ومع اكتشاف الزراعة، زادت قدرات الإنسان الإنتاجية، وأصبح قادراً على العيش مع عائلته فى رقعة صغيرة . ومن هنا بدأ ظهور القرى ثم الدول والتى عرفت كثافة سكانية كبيرة نسبياً. ويقال إن مصر الفرعونية، قد عرفت فى أوج نهضتها عدداً من السكان يجاوز خمسة أو ستة ملايين نسمة. ومع الثورة الصناعية زادت إمكانية الفرد الإنتاجية، وبالتالى زاد تركزهم وظهرت المدن الصناعية، وإزداد عدد البشر. ويقدر عدد البشر حالياً بأكثر من سبعة مليارات نسمة، وكانت البشرية قد وصلت إلى المليار الأول فى بداية القرن التاسع عشر.
وكان مالتس قد أشار إلى التناقض بين معدلات نمو الإنتاج ( وهى فى نظره الإنتاج الزراعى ) وبين معدلات النمو السكاني. فقد لاحظ أنه على حين أن الزراعة تتزايد بما يشبه المتوالية العددية (1-2-3-4----) فإن الزيادة السكانية تنمو بما يشبه المتوالية الهندسية (2-4-8-16-). وفى السبعينات من القرن الماضى صدر تقرير مهم لما يعرف بنادى روما بعنوان «حدود النمو» The Limits to Growth، واستخدام نفس المفهوم بالقول بأن السكان يتزايدون بمعدل نمو أسى Exponential ، وعبر عن ذلك بمثال صارخ لبيان خطوة النمو الأسي. فإذا كان لدينا مساحة واسعة من الأرض وبها حشرة لا يتجاوز حجمها المليميتر، وحيث تتضاعف أعدادها يومياً، فربما تحتاج إلى عشرات السنوات لكى تحتل نصف هذه المساحة، ولكنها سوف تتضاعف وتحتل كل المساحة فى اليوم التالى ؛ فالنمو الأسى بالغ الخطورة، حيث قد يبدأ متواضعاً لكى ينفجر فى نهاية المطاف وبسرعة. وإذا كان الإنسان المعاصر homo sapiens قد احتاج إلى أكثر من مائتى ألف سنة، ليصل عدد السكان إلى مليار نسمة، فخلال القرنين الماضيين ارتفع عدد السكان أكثر من ستة أضعاف، ليضيف إليها ملياراً جديداً خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
وليس معنى ما تقدم أن التزايد السكاني، وهو مازال ظاهرة عالمية الآن، أنه موزع توزيعاً متساوياً بين الدول. فالدول الصناعية فى أوروبا وأمريكا لا تتزايد، وهى فى كثير من الدول الأوروبية تتناقص. ورغم أن شمال أمريكا ما يزال يتزايد سكانياً، فإن نسبة كبيرة منه ترجع إلى المهاجرين الأجانب. وفى جميع الأحوال، فإن نسبة النمو السكانى تتضاءل فيها إلى جانب زيادة النمو الإنتاجي، فمعدل زيادة الدخل الفردى تزيد فيها بشكل مستمر.
ونعود إلى مصر. فبعد أن عرفت فترة من الاضطراب والفوضى فى ظل الحكم العثمانى والمماليك، بلغ عدد السكان فى عهد محمد على ما يتراوح بين 2.5-3.5 مليون نسمة، وصل بعد أكثر من قرن وعند بداية ثورة 1952 إلى نحو 20-22 مليون نسمة، وقد بلغ سكان القاهرة آنذاك ما يقرب من عدد سكان مصر فى عصر محمد علي. وبعد الثورة بثلاثين عاماً، جاء مبارك وقد بلغ عدد السكان أكثر من 42 مليون نسمة، وعدد سكان القاهرة يكاد يوازى عدد سكان مصر عند بداية تلك الثورة. وبعدها بثلاثين سنة أخري، وعند قيام ثورة يناير 2011 جاوز عدد السكان 84 مليون نسمة، أى أن عدد سكان مصر يتضاعف كل ثلاثين سنة. فهل هذا وضع قابل للاستمرار؟
هناك بالضرورة نوع من التوازن بين السكان والموارد، وكلما زادت الموارد أمكن زيادة السكان، فضلاً عن أن زيادة الموارد تتوقف بدورها على زيادة عدد السكان وكفاءتهم. فالتقدم التكنولوجى يساعد على زيادة الموارد وبالتالى القدرة على زيادة السكان. وقد أشرنا، إلى أن البشرية فى تقدمها، والانتقال من مرحلة القنص واللقط إلى اكتشاف الزراعة، ثم بعد ذلك مع الثورة الصناعية، قد زادت من الموارد المتاحة. ولذلك فإننا عندما نتحدث عن الموارد لا نشير إلى أوضاع مؤبدة، فتقدم الإنسان وإمكانياته التكنولوجية تتيح له القدرة على اكتشاف موارد جديدة، وبالتالى إمكانية زيادة السكان. فالجزيرة العربية كانت، وحتى بدايات القرن الماضي، أرضاً بلا موارد، حتى إكتشف البترول، ومن هنا جاءت الآية الكريمة فى وقت إبراهيم عليه السلام: «ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم».
وإذا نظرنا إلى أوضاع مصر الحاضر نجد أن مواردها الطبيعية محدودة، فهى تعانى نقصا شديدا فى موارد الطاقة، كمية محدودة (حتى الآن ) من البترول والغاز، إنعداما فى المساقط المائية والفحم، قليلا من الحديد واحتمالات أكبر للفوسفات، والمعادن الآخري، وإنعداما للغابات. وهكذا فقدراتها على الزيادة السكانية محدودة. ولا يمنع ذلك من أن المستقبل يمكن أن يدخر لمصر مصادر أخرى مهمة وخاصة عندما نصل إلى استخدامات واسعة ورخيصة للطاقة الشمسية. ولذلك، فإنه، فى ظروف الأوضاع القائمة، هناك عدم توازن بين الموارد الطبيعية المتاحة وبين النمو السكانى المرتفع. وقد أدركت دول أخرى نامية هذه المشكلة، فكان أن واجهت بصراحة وفاعلية. فهناك مثال الهند والصين، وكلتهما كانت تعيش فى كثافة سكانية كبيرة، حيث جاوز عدد السكان فى كل منهما الألف مليون نسمة، وذلك رغم ما تتمتع به هاتان الدولتان من موارد طبيعية كثيرة فى شكل أنهار وأمطار وغابات ومناجم للمعادن. ومع ذلك، فقد بدأت كل منهما بسياسة سكانية واعية، وأحياناً قاسية، حيث فرضت الصين قيوداً شديدة بلغت فى بعض الأحيان عدم الإنسانية. ومع ذلك فبعد عقدين أو ثلاثة أمكن ضبط النمو السكانى فيهما، وفى العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة حققت الدولتان معدلات كبيرة من التقدم الاقتصادى والتكنولوجي.
ولكل ذلك، فإننا فى مصر فى حاجة إلى إعادة النظر فى سياستنا السكانية. وكانت مصر قد بدأت تتحدث دون سياسة فعالة عن ضرورة وضع سياسة سكانية شديدة. فنحن لا نستطيع أن نضاعف أعدادنا كل ثلاثين سنة. فقد جاوز عدد السكان الآن التسعين مليوناً، وبعد عقدين أو ثلاثة يمكن أن يجاوز عدد السكان المائة وثمانين مليوناً.
لقد تحدثت أكثر من مرة عن أن مصر تواجه مشاكل عاجلة، لا تقبل الانتظار أو التأجيل، وفى مقدمتها عودة الأمن والشعور بالأمان، واستعادة الاستقرار السياسي، وإعادة النظر فى مناخ الاستثمار بما يلزم من تشريعات مناسبة وبنية أساسية لازمة. ولكن، هذه المشاكل العاجلة لا ينبغى أن تنسينا أن هناك أموراً هامة تتطلب سياسات طويلة الأجل لحماية وضمان مستقبلنا، وفى مقدمة هذه الأمور المهمة وضع سياسة سكانية مناسبة، ووضع استراتيجية للتصنيع وتوطين التكنولوجيا بما يتطلب إعادة النظر فى نظمنا التعليمية وأساليب التدريب. وهذه الأمور المهمة تتطلب سنوات وسنوات حتى تؤتى أكلها. فهى بطبيعتها مشاكل الأجل الطويل. ولكن الأجل الطويل لا يتحقق من تلقاء نفسه، بل لا بد من البدء من الآن لعلاج المشكلة السكانية، مع الإدراك بأن نتائجها لن تتحقق بين يوم وليلة. ولكن لا بد من البدء والعمل بكل جدية، فالمشكلة السكانية هى أشبه بقنبلة موقوتة، وعلينا أن نعمل على تفكيكها الآن، مع العلم بأنها لن تحقق نتائجها فى المستقبل القريب. والمهم هو البداية. فالمشكلة السكانية خطر كامن، والعاقل من استعد لهذا المستقبل.
والله أعلم.
لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.