يعتقد كثير من العلماء أن تغيير المشاهد الطبيعية على الأرض، يقوض أنظمة الحفاظ على حياتنا على الكوكب. وعلى غرار البكتيريا فى طبق بترى، يرون أن أعدادنا تضخمت حتى وصلت إلى أقصى حدود كوكب محدود، بما ينذر بعواقب وخيمة. وتلوح كارثة فى الأفق مع تجاوز أعداد البشر، قدرة الأرض على الاحتمال. ومن الواضح أن هذا لا يمكن أن يستمر! وهذا كلام غير حقيقى. فحتى اليوم، أسمع بعض زملائى العلميين يكررون هذه الادعاءات وما يشابهها فى كثير من الأحيان بلا اعتراض. وذات يوم، كنت أصدقهم أنا أيضا. غير أن هذه الادعاءات، تبرهن على سوء فهم عميق من النظم البشرية لعلم البيئة. فالشروط التى تحافظ على حياة البشر، لم ولن تكون طبيعية. ومنذ عصور ما قبل التاريخ، استخدم البشر التقنيات والنظم الإيكولوجية المصممة، للحفاظ على مصالح السكان بما يتجاوز قدرات النظم الإيكولوجية «الطبيعية». ولاشك أن الأدلة على ذلك واضحة من علم الآثار. فقد استخدم أسلافنا الاستراتيجيات الاجتماعية للصيد، والأدوات كالحجر والنار للحصول على المزيد من القوت من البيئة الطبيعية بقدر الإمكان. وبطبيعة الحال، وصل الإنسان العاقل إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث تعلم عبر الأجيال، الاستفادة من طيف واسع من الكائنات الحية. وذلك عن طريق استخراج المزيد من المواد المغذية من هذه الكائنات عبر طهيها وطحنها، وإكثار الأنواع المفيدة، وحرق الغابات لتعزيز نجاح الصيد والبحث عن الطعام. وحتى ما قبل انتهاء العصر الجليدى الأخير، وقبل آلاف السنين من اكتشاف الزراعة، اعتمدت المجتمعات البدائية فى جميع أنحاء الأرض بشكل متزايد على استراتيجيات تقنية متطورة، للحفاظ على معدلات النمو السكانى فى المناطق الطبيعية التى قام أسلافهم بإعمارها منذ فترة طويلة. وكانت قدرة تحمل الكوكب فى عصور ما قبل تاريخ البشر العاملين بالصيد والجمع، ربما لا يزيد على 100 مليون شخص. ولكن من دون تقنيات وأساليب الحياة فى العصر الحجرى القديم، كان العدد سيقل عن ذلك بكثير ربما بضع عشرات من الملايين. وأدى ظهور الزراعة إلى زيادة أكبر فى السكان تطلبت استخدام الأراضى بكثافة أكثر من أى وقت مضى للحصول على المزيد من القوت من نفس الأرض القديمة. فى ذروة تلك النظم الزراعية، عاش ما يصل إلى ثلاثة مليارات نسمة من الفقراء على حمية شبه نباتية. ••• ويقدر عدد سكان العالم الآن بنحو 7.2 مليار نسمة. ولكن مع التكنولوجيات الصناعية الحالية، قدرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن العدد سيصل إلى أكثر من تسعة مليارات نسمة بحلول عام 2050. ومع اقتراب عدد السكان من ذروته، يمكن إعالته طالما كانت الاستثمارات اللازمة فى البنية التحتية، وصناعة التواصل، ومكافحة الفقر، وسياسات الأمن الغذائى، فى مكانها الصحيح. من يدرى ما يمكن أن تكون عليه تقنيات المستقبل؟ وينبغى أن تنقل هذه الأرقام التقريبية رسالة مهمة واضحة. فليس هناك ما يسمى القدرة الاستيعابية البشرية. نحن لا نشبه على الإطلاق البكتيريا فى طبق بترى. فلماذا لا يفهم هذه الحقيقة علماء الطبيعة الذين يتمتعون بالتدريب العالى؟ ويمكن أن تكون تجربتى توضيحية؛ فقد درست لأكون عالم أحياء، وتعلمت الرياضيات الكلاسيكية للنمو السكانى بمعنى ضرورة أن تكون هنا حدود للزيادة السكانية ويجب أن تصل فى نهاية المطاف إلى التوازن مع البيئة. والاختلاف مع هذا الرأى سيكون سوءا فى فهم الفيزياء: فهناك أرض واحدة فقط، بطبيعة الحال! ••• إلا أنه، بعد سنوات من البحث فى علم البيئة الزراعية فى الصين، أجبرتنى ملاحظاتى على تجاوز غمامات علماء الأحياء. وبينما كنت غير قادر على تفسير كيفية استمرار النمو السكانى لآلاف السنين مع زيادة إنتاجية الأرض نفسها، اكتشفت عالمة الاقتصاد الزراعى استر بوسوروب، التى صححت آراء عالم السكان الاقتصادى توماس مالتس ونظريته حول تجاوز النمو السكانى للمعروض الغذائى. حيث فسرت نظريتها التى تعتبر النمو السكانى محركا لإنتاجية الأراضى، البيانات التى كنت أجمعها، على نحو لم تكن تستطيع نظرية مالتوس أن تفعله أبدا. وفى حين ظللت خبيرا فى شئون البيئة، أصبحت زميلا لأولئك الذين يدرسون مباشرة العلاقات طويلة الأمد بين البشر والبيئة علماء الآثار والجغرافيين والمؤرخين وعلماء الاقتصادى! ولا شك أن علم إعالة الإنسان، بطبيعته من العلوم الاجتماعية. فلا تكفى علوم الفيزياء ولا الكيمياء ولا حتى البيولوجيا، لفهم كيف أمكن لنوع واحد من الكائنات الحية إعادة تشكيل كل من مستقبله ومصير كوكب بأكمله. هذا هو علم الأنثروبوسين. وتعنى فكرة أن البشر يجب أن يعيشوا فى حدود البيئة الطبيعية لكوكبنا، نفى واقع تاريخنا كله، ومستقبلنا أيضا على الأرجح. ولا شك أن البشر مبدعون، فنحن نقوم بتعديل النظم الإيكولوجية من أجل الحفاظ على أنفسنا. وهذا ما نقوم به حاليا، وما قمنا به دائما. وقد نشأت قدرة كوكبنا على تحمل الإنسان من قدرات نظمنا الاجتماعية وتقنياتنا، بأكثر من كونها ترجع إلى أى حدود بيئية. ••• وقد بدأنا السير فى هذا الطريق، منذ مائتى ألف سنة. ولن يبقى هذا الكوكب على حاله أبدا. لقد حان الوقت كى ننتبه جميعا إلى الحدود التى نواجهها حقا: ضرورة تحسين النظم الاجتماعية والتكنولوجية التى تدعم وجودنا. وليس هناك مبرر بيئى كى يجوع الناس الآن أو مستقبلا. ولا ضرورة لاستخدام المزيد من الأراضى للإبقاء على البشرية، حيث يمكن لزيادة إنتاجية الأراضى، باستخدام التقنيات الحالية، دعم الإمدادات الغذائية العالمية، بل وترك المزيد من الأراضى للمستقبل وهو هدف صار أكثر شعبية وأكثر احتمالا من قبل. وسوف تفخر الأجيال القادمة أن الحدود الوحيدة لخلق كوكب، هى خيالنا ونظمنا الاجتماعية. وفى طريقنا نحو أنثروبوسين أفضل، سوف تكون البيئة هى ما نصنعه.