تنطوى الانتخابات كل الانتخابات على إتهامات متبادلة بين المرشحين، ولم تكن الإنتخابات الرئاسية الأخيرة استثناء من هذه الظاهرة. فقد اتهم آنذاك المرشح المشير السيسى بأنه لم يعلن برنامجاً محدداً لسياسته المقبلة. ولست هنا فى بصدد تفسير أو تبرير هذا الوضع. ولكن طرح السؤال آثار فى نفسى تساؤلاً آخرً. بطبيعة الأحوال، هناك مصلحة فى أن يكون للمرشح برنامج واضح حتى يستطيع الناخب أن يعطى صوته لمن يعتقد أن برنامجه يستجيب أكثر لتطلعاته، وبما يساعد على محاسبته عند الإخلال بوعوده التى قطع بها فى برنامجه. ولكن هل صحيح أن «البرنامج» يكفى لتوفير الاطمئنان والثقة لدى الناخب، أم أن المسألة فى ظروفنا الحالية أعمق وأخطر من فكرة «البرنامج». البرنامج هو مجموعة للحلول للمشكلات القائمة، فالبرنامج هو روشتة «للعلاج». ولكن العلاج السليم لا ياتى إلا إذا كان هناك «تشخيص» سليم للمشكلات. فنقطة البدء هى سلامة «التشخيص» ومعرفة المرض، أما العلاج فيأتى لاحقاً. وبعد ذلك يمكن أن نبحث فى سلامة هذا العلاج للمرض الموصوف. فإذا يكن «التشخيص» خاطئاً، فإن أى علاج مهما كان لن يكون مفيداً. ولذلك فنقطة البدء السليمة ليست فى البحث عن «العلاج»، بقدر ما هى فى القدرة على «التشخيص» السليم. قد يمكن الرد على ذلك، بالقول إن التفرقة بين «التشخيص» و«العلاج» هى تفرقة نظرية، وأننا نعرف جميعاً حقيقة مشكلاتنا، ونعرف أين المرض، وما ينقصنا هو «العلاج» أو «البرنامج». فهل صحيح أننا متفقون على تشخيص أمراض البلد الحقيقية، وأننا نبحث فقط عن العلاج الصحيح؟ أشك فى هذا. حقاً، هناك عدد من الأمور التى يمكن القول بدرجة كبيرة من الثقة بأن هناك توافقا عاماً حولها. فهناك ما يشبه التوافق على ضرورة الديمقراطية وأن يكون الصندوق هو الحكم فى إختيار الحكام. وكذلك هناك أيضاً كثير من التوافق على ضرورة «دولة القانون»، واحترام «الحريات العامة» للأفراد ومنظمات المجتمع المدني. ولكن إلى جانب هذا التوافق هناك إختلاف، وربما إنقسام، حول أمور أخرى حيث يرى البعض فيها مشكلة فى حين أن البعض الآخر لا يرى ذلك، بل ربما يعتقد أنها نعمة. انظر مثلاً إلى قضية السكان فى مصر. فعدد السكان كان عند قيام ثورة 1952 كان يدور حول 20 مليون نسمة، وبعد ثلاثين سنة تولى مبارك حكم مصر وقدارتفع عدد السكان إلى أكثر من 42 مليون نسمة، وبعدها بثلاثين سنة أخرى عند قيام ثورة 25 يناير 2011 جاوز عدد السكان 84 مليون نسمة. أن عدد سكان مصر يتضاعف كل ثلاثين. فهل نشخص التزايد السكانى فى مصر على أنه نعمة، ينبغى الإبقاء عليها إن لم يكن تشجيعها، أم على العكس هى مشكلة تستدعى التفكير فى علاجها بضبط هذا الإنفجار السكاني؟ ولعلنا نتذكر أن عدد سكان مصر كان 2.5 مليون نسمة عند وصول محمد على للحكم 1805. وعندما قامت ثورة 1952 كان عدد سكان القاهرة يعادل مجموع سكان القطر فى وقت محمد علي، والآن فإن سكان القاهرة يكاد يعادل سكان مصر وقت قيام ثورة 1952. وانظر إلى قضية أخرى لا تقل خطورة. فهناك من يرى أن علاج مشكلات مصر يتوقف على تطبيق الشريعة الإسلامية. ومن حسن الحظ أن الدستور قد أقر بأن «مبادئ الشريعة هى المصدر الرئيسى للتشريع». فالمبادئ ثابتة، اما الأحكام فتتغير مع إحتياجات العصر. فتطور الحياة المعاصرة يتطلب إيجاد حلول جديدة للمشكلات المستجدة. فالشريعة الإسلامية وكما هو الحال فى الشرائع الدينية الأخرى لليهودية أو المسيحية تجيز الرق، وإن كانت الشريعة تدعو إلى معاملة الرقيق معاملة إنسانية كما تشجع على عتق الرقيق فى اكثر من موقع. ولكن العصر لا يتحمل الآن مفهوم الرق تحت أى شكل من الأشكال. كذلك ففى وقت متأخر نسبياً عرفت أحكام الشريعة التفرقة بين «دار الإسلام» و«دار الحرب»، عندما تعرضت بلاد المسلمين لغزو المغول، وبعد بداية الحروب الصليبية وبداية التفاهم مع بعض الممالك المسيحية فى فلسطين، دخل الشريعة مفهوم جديد عن «دار العهد» لمن يتم التفاهم معهم من الصليبيين على وقف القتال مع «العهد» بعدم الإيذاء. فهل يصلح الآن الحديث عن «دار الإسلام» و«دار الحرب» و«دار العهد»؟ لا شك أن الأمر يتطلب توافقاً جديداً. فنحن هنا نجد أنفسنا إزاء مشكلة «تشخيص» وليس مشكلة «علاج». فما هو موقفنا من العالم المعاصر؟ هل نحن فى عداء أم مجرد هدنة وعهد؟ أم على العكس نحن جزء من العالم نتفاعل معه فى إطار المواثيق الدولية لاحترام سيادة الدولة والتبادل التجارى والثقافى مع مراعاة المصالح القومية؟ هنا نحن إزاء قضية تتطلب توافقاً عاماً. كذلك هناك مشكلة أزلية تواجه معظم الدول وليس مصر وحدها وهى قضية التوازن بين الإنتاج والتوزيع. فوجود الدولة واستمرارها رهن بالقدرة على الإنتاج، وضرورة استمرار نموه واتساعه. ولكن الانتاج وحده لا يكفى بل لابد وان يصاحبه نوع من التوزيع العادل. ورغم أن معظم الاقتصاديين المعاصرين، يرون أن عدالة التوزيع، ليست عبئاً على الإنتاج بل أن تساعد على نجاحه وتقدمه، ولكن يظل السؤال هو فى تحديد النسب والمعايير. وزيادة الانتاج ترتبط بشكل عام بزيادة الإستثمار، الذى يساعد على زيادة معدلات النمو. وفى حالة مصر، فإننا نعانى من ضعف هيكلى فى الاقتصاد . نتيجة لانخفاض معدلات الادخار المحلي. فالادخار المحلى يدور حول 15٪ من الناتج الاجمالي، فى حين أن معدلات الإستثمار اللازمة للخروج من ازمتها تتطلب معدلات الاستثمار لا تقل عن 30٪. وهكذا فمصر فى حاجة إلى استثمارات اجنبية بما لا يقل عن 15٪ من الناتج الإجمالى سنويا، إذا أردنا أن نخرج من دائرة الفقر. ولكن الإستثمارات الأجنبية تتطلب أوضاعا مناسبة للضرائب والأعباء العامة تتفق مع المعادلات السائدة فى العالم. وهنا أيضا يحتاج الأمر إلى قدرة على التشخيص، هل نحتاج إلى استثمارات أجنبية أم لا؟ وكيف نحقق التوازن بين إعتبارات النمو وإعتبارات التوزيع؟ ما هو الميزان المطلوب بين متطلبات «الكفاءة» وبين متطلبات «العدالة» ؟ وتتعدد الأمثلة. والمشكلة الحقيقية فى مصر ليست فى البحث عن «العلاج» المناسب، بقدر ما هى ضرورة التوافق حول «تشخيص» الأمراض. نحن فى حاجة إلى التوافق على المشكلات الرئيسية فى مصر، وذلك بتشخيصها ومعرفة آثارها وخطورتها. أما الحلول البرامج فإنها تأتى بعد ذلك، ومن خلال «التجربة والخطأ»، وإعادة النظر فى الأساليب غير الناجحة كما يمكن البحث عن حلول أخرى أكثر فاعلية. يظل جوهر المشكلة فى مصر هى أننا نخفى رءوسنا فى الرمال. فنحن فى حاجة إلى التوافق حول المشكلات الرئيسية فى مصر، وأن نعرف مدى خطورتها، وبعدها يمكن أن نتفق على الحلول المناسبة. علماً بأن الخلاف حول «التشخيص» هو الأكثر أهمية وخطورة، الأمر الذى يحتاج إلى مزيد من الوعي، وإدراك أنه لا توجد حلول سريعة وسهلة، وإنما يحتاج الأمر إلى التوافق أولاً على تشخيص المرض ثم العمل بعد ذلك على قبول مفهوم العلاج. والعلاج دائماً مر وصعب، ولا توجد حلول لذيذة وسهلة. ولكن مرارة العلاج تهون إذا أدركنا أن حلاوة الشفاء تستحق التضحية، وأن المستقبل سيكون أكثر إشراقاً لنا ولأبنائنا. وسوف أقتصر فى هذا المقال على تعداد عدد من الأمور التى أعتقد وأرجو ألا أكون مخطئاً التى تمثل بعض أهم المشكلات والتحديات التى يجب أن نعترف بها ونحقق حولها نوعا من التوافق الاجتماعي. أما الحلول والعلاج فأمرهما سوف يكون سهلاً إذا ما تم هذا التوافق على تشخيص الأمراض، وتحديد المجالات التى تتطلب معالجة. وفى نظرى أن أهم هذه التحديات هى : المشكلة السكانية. أعتقد وأرجو أن أكون مخطئاً أن مصر لن تكون قادرة على الاستمرار بهذا المعدل المرتفع للنمو السكاني. فلا تستطيع مصر أن تتحمل أن يتضاعف سكانها كل ثلاثة عقود. هذا أمر نبه إليه الاقتصادى الانجليزى المعروف مالتس فى القرن التاسع عشر، ونال بصدده سخطاً شديداً، ولكن التجربة أكدت صحة مقولته بالرغم من قسوتها. ولن أدخل فى جدل حول ما إذا كانت التنمية تأتى أولاً مع ما يترتب عليها من ضبط النمو السكاني، أم أن الأمر يتطلب مواجهة جادة وصريحة للمشكلة السكانية من أول الأمر. وكان أكثر المعارضين لأفكاره هم الأحزاب الشيوعية، وجاءت الصين فأخذت إجراءات بالغة القسوة لمواجهة المشكلة ولجأت الهند إلى أساليب أكثر إنسانية. لا مفر من التعاون الدولي، فالانكفاء على الذات هو هروب من الواقع. فالعالم يتجه للتقارب والتعاون والمنافسة أيضاً، ولكن لا يمكن لأى دولة أن تنكفئ على نفسها. هناك مصالح، وهى تتعارض أحياناً وتتوافق أحياناً أخري، ولكن لا يمكن الانسحاب من الحلبة العالمية. نحن جزء من العالم، نشارك فيه، ونأخذ مصالحنا مأخذ الجد وندافع عنها، ولكننا لا ننسحب من العالم ولا نعاديه. ويكاد لا توجد حالياً دولة واحدة منغلقة على نفسها غير كوريا الشمالية وربما كوبا أيضاً، وهما مثالان لا يدعوان إلى الإعجاب. ومثال الصين المعاصرة هو أنجح تجربة فى الانفتاح على العالم مع الحرص الشديد على المصالح الوطنية الحيوية. لا مناص من التصنيع وقبول التكنولوجيا العالمية ومحاولة استقطابها وتطويرها. وإذا كانت مصر قد دخلت «الثورة الزراعية» عند بدايتها، فكانت حينئذ رائدة للحضارات الزراعية. وإذا كانت قد فاتتها الثورة الصناعية عند بدايتها فعليها اللحاق بها الآن وعدم التخوف من كل ما هو أجنبي، وأن نتمتع بالثقة الكافية فى النفس، مع عدم الاستسلام. ويتم ذلك بالتعامل الجاد معها مع وضع خطة مستقبلية لتوطين التكنولوجيا محلياً. لابد من ثورة تعليمية وعلمية. فالتكنولوجيا المعاصرة ليست مجرد أدوات وآلات، ولكنها تعتمد على ثورة بشرية فى التعليم وقبول قيم المخاطرة والإبتكار، والإعتراف بالتجربة والخطا. والثورة تعليمية والتعليمية تحتاج إلى الاهتمام بوجه خاص بالعلوم الطبيعية مع عدم اهمال العلوم الاجتماعية. ويظل مع ذلك ضرورة التأكيد أن نجاح الإنسان من خلال مسيرة البشرية إنما يرجع إلى قدرته على تطوير التكنولوجيا، وما يصاحبها من ضرورة التجديد المستمر. وما أوردته فى هذا المقال عن «التشخيص» ليس دعوة جديدة، فقد كان الأمر واضحا فى ذهنى عندما دخلت الحكومة لأول مرة فى وزارة الدكتور عصام شرف، وهو أيضا ما ذكرته فى أول اجتماع لمجلس الوزراء بعد تحمل مسئولية الحكومة الانتقالية بعد 30 يونيو، وهو أيضاً ما أوردته فى كتابى «أربعة شهور فى قفص الحكومة»، بعد إستقالة حكومة الدكتور شرف. فهناك ما هو «مهم»، ولكن هناك أيضا ما هو «عاجل». «فالحكومة الانتقالية» تواجه ظروفا خطيرة واستثنائية، تتطلب مواجهة سريعة وحاسمة. فمن الضروري، مع وجود نظرة شاملة ورؤية متكاملة للمستقبل، عدم إهمال الواقع القائم والمشكلات العاجلة التى لا تتحمل التأجيل. ولا شك أن قضايا الأمن واستعادته، والاستقرارالسياسى ووضوحه، هى من الأمور العاجلة التى لا تتحمل الإرجاء. ولكن ذلك وحده لا يكفي، فالعاجل وإن كانت له الأسبقية الزمنية، يظل ملحقاً لما هو «هام». وقد أوضحت فى كتابى سابق الإشارة إلى عدد من القضايا المهمة والتى أعيد الحديث عنها هنا، وفى مقدمتها سياسة سكانية واضحة، وإستراتيجية صناعية، وثورة تعليمية فى إطار من التعاون الدولى والعربي. وهى نفس الأمور التى أشير إليها اليوم فى صدد «تشخيص» مشكلاتنا. والآن، وبعد أن تحقق الجزء الأكبر من الاستقرار الأمنى واستكمال الجزء الأهم من الخريطة السياسية باعتماد دستور جديد للبلاد وإنتخاب رئيس للدولة بأغلبية ساحقة، فإن الوقت قد حان للتوافق حول «تشخيص» سليم ومقبول لأوضاعنا السياسية والاقتصادية والإجتماعية. ليس الغرض من هذا المقال إعطاء وصفة للإصلاح أو وضع برنامج سياسى أو اقتصادي، وإنما التأكيد أننا نحتاج أولاً التوافق على العديد من المشكلات الكامنة، ومتى تم «تشخيص» أوضاعنا، فإن العلاج أو الحلول سوف تكون أكثر سهولة. فنحن لا نحتاج فقط برنامجاً، بل إننا إذا لم أكن مخطئاً غير متفقين على تشخيص أمراضنا، وهذه هى الأولوية. والله أعلم. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي