ما أن ظفر رئيس الوزراء ومرشح العدالة والتنمية في تركيا رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية، التي جرت في العاشر من اغسطس، إلا ووجدنا جميع الأحزاب السياسية باستثناء الحزب الحاكم تهب هبة عارمة وفي صوت واحد، وراحت تؤكد أن ولاية أردوغان لرئاسة الوزراء، وعضويته في البرلمان، ورئاسته لحزبه، قد انتهت جميعها بعد فوزه في هذا الاستحقاق، رجال القانون من جانبهم شددوا أيضا على أن جميع الإجراءات التي من المحتمل أن يتخذها اردوغان ستعد انتهاكاً صارخا للدستور وتصبح باطلة، كما أن تمسكه بمنصبه حتى حلفه لليمين كرئيس للبلاد في الثامن والعشرين من الشهر الحالي ، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى نشوب أزمة دستورية. فورة الغضب هذه لم تكن لتأتى لولا معرفة أصحابها بالطبيعة السلطوية لما وصفته صحيفة «سوزجو» تهكما ب «السلطان السابع والثلاثين للأناضول»، فى إشارة إلى أردوغان. (يذكر أن آخر السلاطين قبل انقضاء الامبراطورية العثمانية حمل رقم 36). واستمرارا لحالة الزخم الرافضة لجنوح الحكم الأردوغانى، انطلقت الاراء وفي يدها نصوص دستورية قاطعة لا تقبل التأويل فالمادة ال 101 من الدستور تنص صراحة دون مواربة على أن من ينتخب رئيساً للجمهورية تسقط عضويته في حزبه مباشرة سواء إذا كان عضوا أو رئيسا، وتنقطع كل علاقاته معه، وتنتهي ولايته بالمجلس التشريعى كونه صار محايدا يقف على مسافة واحدة من كل القوى والتيارات. وتنص المادة 109 على أنه لا يجوز لأحد أن يقود الحكومة طالما لم يكن نائبا بالمجلس التركي الوطني الكبير، ومع إعلان اللجنة العليا المشرفة على أنتخابات رئاسة الجمهورية رسميا النتائج يوم السبت الماضى، زالت تلقائيا الصفة النيابية عن الفائز ، وبالتالي لا يجوز بقاؤه على سدة رئاسة الوزراء. ورغم علمه بوجاهة ما ذهب إليه أهل الاختصاص القانوني والدستورى، فإن رئيس البرلمان جميل تشيشاك لم يشأ أن يغضب بطانة الزعيم المنتصر، وحاول التلكؤ مصدرا توجيهات للجنة الانتخابات العليا، إضافة إلى مشرعين بالحزب بإجراء بحث ودراسة حول هذا الموضوع سعياً للحيلولة دون ظهور أزمة نظام محتملة, انهم والحق هموا بدورهم وشرعوا في العمل بهذا الخصوص وعلى عجل قدموا تقريرا وضع على مكتب الرئيس المنتهية ولايته عبد الله جول المذهل فيه أنه احتوى على خلاصات جاءت عكس ما طمح إليه اردوغان وشركاؤه. فقد لفت هولاء الخبراء في هذا التقرير نظر أولي الأمر إلى حادثة مشابهة شهدتها تركيا نهاية فترة الرئيس السابع للجمهورية كنعان أفرين، وكان الذي سيخلفه هو الراحل تورجوت أوزال ، آنذاك تم تنبيه الرئيس أفرين بالإشكال الذي يواجه البلاد وعلى الفور بعث في الأول من نوفمبر لعام 1989 كتاباً إلى البرلمان شدد فيه على أن ولاية أوزال لرئاسة الوزراء انتهت بعد أن انتُخب رئيساً للبلاد في 31 من أكتوبر للعام نفسه، ولم ينتظر الرد وسارع من فوره إلى إصدار قرار بتعيين رئيس وزراء جديدً خلفاً لأوزال، وهو ما يعني في المحصلة النهائية أن عبد الله جول هو من بيده القول الفصل والكلمة الأخيرة في هذا الملف الذي جعله المقربين أصحاب المصالح شائكا. إضافة إلى ذلك، فإن بولنت أرينتش الرجل القوى بالحزب والحكومة والذي يسعي اردوغان إلى تهميشه بكل السبل ، بحجة إفساح المجال للشباب، يبذل جهودا حثيثة لإفساح المجال أمام جول كي يعود رئيساً للوزراء بالوكالة في خطوة الهدف منها نسف ما يخطط إليه اردوغان. وهذا بدوره يدلل على صراع اجنحة داخل أروقة الحزب تخوض فيه الجوقة الاردوغانية حربا ضروس لإقصاء الحرس القديم ما عدا زعيمها ، وكان تعليق أرينتش بهذا الصدد موحيا وعميق الأثر حينما أشار إلى وجود عناصر بالحزب يتعاملون مع شخصه وعبد الله جول و70 نائبًا بأنه لا يمكنهم ترشيح أنفسهم للانتخابات مرة أخرى بموجب مبادئ الحزب، معربا عن رغبته الحارة في عودة رفيقه في تأسيس حزب العدالة عبد الله جول مرة أخرى للحياة السياسية لتقديم خدمات نافعة كلاعب سياسي بارز. والحق أنه لم يعد خافيا حملات الاساءة التي تستهدف ومازالت جول من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والتي لا يمكن لها أن تنطلق من فراغ دون دعم أو بمنأى عن ما بيده مقاليد الأمور . في هذا السياق كان لافتا هذا الخبر المنشور في ادبيات تابعة قلبا وقالبا للرئيس الجديد وفيه سؤال هل سيحاكم جول ؟ وذلك بعد أن ترفع الحصانة في تلميح إلى قضية قديمة كان قد وجهت له محكمة العقوبات الاولي بالعاصمة أنقرة تهما بتبديد مبلغ تريليون ليرة (قبل شطب الاصفار من العملة ) أي 10 ملايين دولار آنذاك وتزوير وثائق رسمية متعلقة بهذا المبلغ أثناء في فترة حكومة الراحل نجم الدين اربكان بتسعينينات القرن الماضي ، غير أن المدعي العام الجمهوري أسقط القضية بعد اختياره الرئيس 11 للجمهورية التركية عام 2007، فهل ستفتح من جديد ؟ ولم يكن إعلان الحزب مؤتمره الطاريء العام في 27 الشهر الحالى أي قبل يوم واحد من انتهاء فترة ولاية جول الرئاسية ، سوى محاولة لتفويت الفرصة عليه حتى لا يتقدم ويترشح على زعامة الحزب الذي شارك في تأسيسه وكان أردوغان قد استبق الأمر مؤكدا أن شخصا واحدا سيتولى رئاسة حزب العدالة والتنمية ورئاسة الوزراء، كعلامة لتصميمه على إدارة الحزب من القصر الجمهوري وفي الوقت نفسه إبعاد جول عن رئاسة الوزراء وتسريب أسم أحمد داود أوغلو لقيادة الأثنين الحزب والحكومة يصب في هذا الاتجاه لأن اوغلو ببساطة لن يعصى أمرا واحدا لرئيسه ورب نعمته ومن ثم تهيئة الاناضول لقبول النظام الرئاسي، وفيه يصير رجب طيب اردوغان محوره وعماده.