تعيش الشعوب العربية والثقافة العربية فى حالة دائمة من خداع النفس بشأن فلسطين. وأعتقد أنه لا يجدر بنا التواطؤ مع متلازمة الأوهام التى تسيطر على عقولنا وحياتنا. وبطبيعة الحال فإن الشعب الفلسطينى مشدود دائما إلى المستقبل يتحرر فيه من دولة اسرائيل الصهيونية؛ على الأقل فى سياق حلّ الدولتين الذى تضع فيه منظمة التحرير، وكذلك الفصائل المتمردة عليها، أملها وحلمها. والدعوة إلى التحرُّر من خداع النفس دعوة إلى وضع إستراتيچيات للتعامل مع الحقائق وليس مع الأوهام. والتصور السائد هو أن عرب 48، مع كل تشبثهم بوطنيتهم وقوميتهم وهويتهم،ورغم مقاومتهم بالوسائل المتاحة لهم،صاروا جزءا لا يتجزأ من دولة إسرائيل، فيما صارت أراضى عرب 67 فى الضفة الغربيةوغزة «مناطق» محتلة تسير فى طريق صعب وطويل نحو التحرُّر والاستقلال فى إطارحلّ الدولتين، وهذا وَهْمٌ تغذِّيه إسرائيل وباقى الدول المعنية. والحقيقة التى تعرفها إسرائيل وباقى الدول، على وجه اليقين، ولكنْ لا تبوح بها هى أن عرب 67، فى الأراضى المحتلة منذ 47 سنة فى الضفة وغزة، سوف يتمّ ضمها فى الوقت المناسب رسميا إلى إسرائيل، كما حدث مع مرتفعات الجولان التى تمّ ضمها إلى إسرائيل بقانون فى ديسمبر 1981. ولأن أراضى الضفة وغزة محتلة منذ نحو نصف قرن دون تحرير فإنه يغدو من المشروع أن نتساءل بموضوعية عن مصيرها. والحقيقة أن هذه الأراضى لم تكن مستقلة بل كانت خاضعة للبريطانيين، ثم للشروط الإسرائيلية الحديدية التى جعلت الضفة وديعة لدى الأردنوغزة وديعة لدى مصر، منذ 48، لحماية أمن إسرائيل، ثم فرضت عليها الاحتلال والحصار المتواصليْن منذ 67. ولنا أن نتساءل: ما الجديد المتوقع الذى من شأنه أن يقلب هذه المعادلة؟ وهنا يتجه اللوم إلى مصر وباقى الدول العربية.والحقيقة أن الدول العربية، حتى لو توافرت لديها الإرادة،لا تستطيع مواجهة إسرائيل وحلفائها الأقوياء. ويعلم الجميع أن كل بلد عربى يعيش مشكلته الخاصة المتمثلة فى التبعية الاقتصادية؛ فلا بلد، إذن، سيحارب فى معركة بلد آخر، مع أن وجود دولة إسرائيل خطر على كل البلدان العربية المحيطة بها. ويعلم الجميع نتائج المغامرات العسكرية التى ندخلها بجهلنا وضعفنا، وليس بمعرفتنا وقوتنا، وكان الاستثناء الوحيد حرب 73، مهما اختلفنا حول تقييم نتائجها السياسية. ولأن المورد الديمجرافى الأساسى لإسرائيل يتمثل فى روسيا وأوروبا الشرقية، فإنه يمكن القول إن إسرائيل كيان روسىٌّ-بولندىٌّ من ناحية البشر، وأمريكىٌّ-أوروبىٌّ من ناحية التمويل والعون الشامليْن،وكذلك من ناحية استخدامها كأداة استعمارية فى المنطقة. وفى غياب دينامية تحرُّرية ذاتية لدى الفلسطينيِّين، لن يُجدى توجيه اللوم إلى الدول العربية، أو دول العالم، أو المجتمع الدولى. وإسرائيل دولة توسعية تضيق عليها مساحتها الحالية (20770 كيلومتر مربع، أىْ نحو 80% من مساحة فلسطين، 26990 كيلومتر مربع)، ويعيش فيها نحو 8 ملايين نسمة، بالإضافة إلى الزيادة السكانية والهجرة اليهودية. فالتوسُّع إذن ضرورة حياة أو موت، ويتمثل المجال الحيوى للتوسُّع فى أراضى الضفة وغزة، وتتجاوزهما أهداف التوسع إلى الدول العربية المجاورة بادئةً بمرتفعات الجولان التى تمّ ضمها بالفعل. وتصل مساحة الضفة إلى 5640 كيلومتر مربع، وتُواصل المستوطناتُ اليهودية، التى تضم نحو نصف مليون مستوطن، قضمها وهضمها وابتلاعها. ولا تتجاوز مساحة غزة 360 كيلومتر مربع. ولا تتجاوز المساحة المحتلة من الجولان1200 كيلومتر مربع. وبحساب بسيط، تصل مساحة هذه المناطق إلى نحو 10 آلاف كيلومتر مربع، أىْ نحو نصف مساحة إسرائيل، وتمثل هذه المناطق المجال الحيوى للتوسع الإسرائيلى مفتوح الشهية دائما. وكنتُ وما زلت من مؤيدى إقامة دولة علمانية ديمقراطية واحدة لكل العرب واليهود على كامل التراب الفلسطينى. غير أن هذا شعار للأجل الطويل، ولم يكن مطروحا أصلا للتحقيق العملى فى الأجل القصير أو المتوسط. وليس حلّ الدولتيْن الذى تتواصل مفاوضاته العبثية على مرّ العقود سوى استهلاك للوقت إلى أن تأتى ساعة الحقيقة. ووراء أوهام العودة إلى فلسطين تختفى حقيقة الترحيل القادم من فلسطين، أىْ من دولة إسرائيل على كامل التراب الفلسطينى. ولا جديد لا فى الاحتلال والحصار والضمّ، ولا فى الترحيل (الترانسفير)، فهذه ممارسات توسعية إسرائيلية تم تطبيقها طوال تاريخ إسرائيل. ولا مناص من وضع إستراتيچيات ثورية يضعها ويطبقها الشعب الفلسطينى، ولا يعبث بها أىّ مغامر، لمواجهة المصير الصهيونى بمصير فلسطينى محتمل. لمزيد من مقالات خليل كلفت