السؤال المتكرر الذى طالما أرّقنا هو لماذا يبدو إيقاع الإصلاح فى مصر بطيئا بمعدّل يقل فى زمنه ونوعيته عن معدّل تفاقم المشكلة ذاتها؟ وهل تؤذن بعض الإجراءات التى اتخذت أخيراً لمواجهة مشكلاتنا المزمنة بإطلاق حركة إصلاح عميق فى هذا المجتمع أم أنها فورة نشاط لن تلبث أن تزول بفعل أعشاش الدبابير المناوئة لأى إصلاح يهدد مصالحها الخاصة؟ وأعشاش الدبابير لا تعنى فقط بعض الأشخاص او المؤسسات او القوى بل قد تشمل أيضاً ثقافة المجتمع ذاته. نعم ثقافتنا قد تكون من حيث لا ندرى عشّاً للدبابير يزعج من يقترب من موروثاته وعاداته السلبية. لنعترف ابتداء أنه لا تخلو دولة فى العالم من الصعاب والمشكلات التى تعانى منها مؤسساتها. من بين هذه الصعاب والمشكلات ما هو عابر ووقتى ومنها ما هو مزمن وعميق. هذا النوع الأخير عرفته مصر على مدى العقود الماضية. مشكلاتنا العميقة المزمنة لا تحتاج فقط إلى كفاءة مهنية وإدارية لدى المسئولين عن حلها بقدر ما تحتاج إلى نزعة إصلاحية. والحاصل فى مصر أن المسئول الجديد حين يتبوأ منصبه سرعان ما يكتشف أن المؤسسة التى يديرها قد تراكم فى جنباتها الضعف والترهل والفساد ونقص الكفاءة. أكاد أجزم أنه لا يوجد مسئول فى مصر إلا وهو يشكو من هذه الظاهرة علانيةً أو سراً. فالمسئول الجديد الذى يُعيّن قد يكون لديه لحظة حلفه اليمين الكثير من الحماسة والمعرفة والرؤية فى مجال تخصصه. وحتى هذه اللحظة قد يكون لديه الإرادة. ثم يكتشف المسئول شيئاً فشيئاً جسامة التحديات وتراكم المشكلات. والأهم والأخطر حين يكتشف أن المشكلات المزمنة والعميقة تحتاج إلى اتخاذ إجراءات وحلول جذرية وإصلاحية تصطدم بالكثير من المعوّقات. أولها طبقة المستفيدين من الفساد وتراجع المعايير المهنية بل والمتورطين أحياناً فى استمرار هذه الأوضاع. هنا تبدأ معركة الإصلاح بين المسئول وبين طبقة المستفيدين من الأوضاع القائمة الخاطئة أو الفاسدة والتى يمكن تسميتها بأعشاش الدبابير. لكل من الطرفين أسلحته. فالمسئول لديه سلطة تحقيق الانضباط وتصحيح الاوضاع. لكن عش الدبابير لديه واقعياً إمكانيات شتى لإرباك العمل وعرقلة سيره الطبيعى وربما الإساءة إلى شخص المسئول نفسه. هنا يكون على المسئول أحد اختيارين إما اقتحام أعشاش الدبابير ومحاولة اقتلاعها وهذه (مغامرة) يقدم عليها الغيورون على المصلحة العامة ويخافها المتشبثون بمقاعدهم ومصالحهم الخاصة. تنتهى غالبا هذه المعركة النبيلة بأن يفقد المسئول منصبه لان الدولة والمجتمع لا يؤازرانه. من يعرف خبايا معارك خاضها رجال مثل كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق وأحمد الجويلى وزير التموين الأسبق والمرحوم أحمد رشدى وزير الداخلية الأسبق ومفيد شهاب وزير التعليم العالى الأسبق فى مواجهته مع الجامعات الخاصة يدرك جيداً حقيقة المعاناة التى يعيشها المسئول الإصلاحى مع أعشاش الدبابير. أما الاختيار الثانى فهو أن يؤثر المسئول السلامة ويكيّف نفسه ويتعامل مع أعشاش الدبابير فى ظل معادلة غير مكتوبة لتوازن القوى بينهما. فيكون للإصلاح نصيب وللفساد أيضاً نصيب! السؤال هو ما الفارق بين مسئول إصلاحى جسور وبين مسئول يرضخ لمعادلة توازن القوى مع بيروقراطية الفساد؟ مع التأكيد أن للفساد هنا معنى واسعاً يتجاوز الفساد المالى ليشمل كل قبول بأوضاع مهنية خاطئة أو تواطؤ بشأنها. الواقع أنه الفارق بين مسئول يؤمن حقيقة بقيمة اسمها المصلحة العامة ولو كان الثمن أن يفقد بشرف منصبا زائلا فى نهاية المطاف وبين مسئول آخر يضحى بالمصلحة العامة من أجل مصلحته الخاصة فى الاحتفاظ بمنصب زائل فى كل الأحوال. المعركة باختصار تدور رحاها فى ساحة الضمير. يتأخر الإصلاح فى مؤسساتنا ليس فقط بسبب معادلة توازن القوى بين قوى الإصلاح وقوى الفساد المستفيدة من استمرار الأوضاع المؤسسية الخاطئة (أعشاش الدبابير) ولكن يتأخر الإصلاح أيضاً حين تصاب الدولة نفسها بالعجز والتخبط فى مواجهة أوضاع خاطئة أحياناً فلا تحاول إصلاحها بشكل عميق وجذرى بل تكتفى بحلول أشبه بالمسكنات وأدوات التجميل. مثال ذلك ما يكشف عنه تدهور التعليم الجامعى فى بلادنا. لست فى حاجة لأن أكرر الأرقام التى توردها التقارير الدولية عن المكانة المتدهورة التى هبط إلى دركها التعليم فى مصر. فقد ذكرت منها ما يكفى ضمن سلسلة مقالات سابقة نشرت فى الأهرام بعنوان “الانهيار بدأ منها“. ويعلم هذه الأرقام كل المختصين والمتخصصين بل وعموم الناس. يكفى فقط أن أشير لأن أكثرية الدول العربية والإفريقية فى جنوب الصحراء أصبحت تسبق مصر على صعيد مؤشرات تعليمية شتى. وبدلا ًمن أن يواجه وزير التعليم السابق الأمر بروح المصارحة والمراجعة خصوصاً وأن تدهور التعليم هو تراكم لفشل سياسات تعليمية استمرت لعشرات السنين وليست مسؤوليته المباشرة فإنه أخذ يشكك فى المعايير التى استندت إليها هذا التقرير. مع أنه لكى ندرك التدهور الذى آل إليه حال التعليم فى مصر لا نحتاج إلى تقارير دولية لأن الواقع بذاته كاشف وملموس. ربما نتفق أو نختلف حول العديد من خيارات أو استراتيجيات التعليم. لكن المؤكد أننا لن نخرج من هذا النفق الذى يكاد يختنق فيه نظام التعليم إلا بإصلاح جذرى وعميق حتى ولو اصطدم هذا الإصلاح بقوى مناوئة له من أعشاش دبابير لا تقتصر فقط على بيروقراطية الفساد التعليمى بل قد تشمل أيضاً ثقافة المجتمع وردود فعله السلبية. لهذا على الدولة بكل مؤسساتها والمجتمع بكل أطيافه مؤازرة وزير التعليم الجسور محمود أبو النصر فى معركته الوطنية النبيلة مع الدروس الخصوصية آملين ألا يضعف أو يتردد. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم