لم يكن من قبيل المصادفة أن يشير الرئيس الروسى فلاديمير بوتين خلال المؤتمر الصحفى المشترك مع الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى دور الباحثين المصريين من خريجى الجامعات الروسية. فعلى مدار سنوات طويلة ساهمت تلك البعثات العلمية فى نقل روسيا ثقافيا وفنيا لمصر وفى الانفتاح على المدارس العلمية والفكرية التى تزخر بها موسكو. ولذلك يعول الكثيرون فى كلا البلدين على دور العلماء لإحياء العلاقات القديمة ومد جسور التعاون التكنولوجى والذى سيسهم بالتبعية فى تعزيز التعاون الاقتصادى والسياسى من جديد. فى البداية يقول د. شريف جاد رئيس الجمعية المصرية لخريجى الجامعات الروسية والسوفييتية ومدير النشاط الثقافى بالمركز الثقافى الروسى: لاشك أن خريجى الجامعات الروسية لهم دور كبير فى دعم العلاقات بين البلدين لخبراتهم على مدار سنوات طويلة وانفتاحهم على الثقافة والمدارس البحثية الروسية فى مجالات عديدة مثل الاستخدامات السلمية للطاقة النووية والرى والهندسة والعلوم الأساسية والزراعة والطاقة. ولعل ما تجب الإشارة إليه هو أن أول بعثة علمية للاتحاد السوفييتى كانت عام 1956 بتكليف من الرئيس جمال عبد الناصر حيث تم إرسال بعثة سرية من 15 باحثا لدراسة الدكتوراه فى مجال الطاقة الذرية مع بدايات المشروع النووى المصرى. وكان من بين المبتعثين العالم المصرى يحيى المشد والذى ساهم فى تأسيس مفاعل العراق النووى واغتالته الموساد لاحقا. إلى جانب ذلك فإنه على مدار الخمسينات والستينات من القرن الماضى أرسلت مصر باحثين للدراسة والتعلم بروسيا فى مختلف المجالات العلمية خاصة الهندسة والطاقة النووية والكيمياء والفيزياء، معظم هؤلاء العلماء يشغلون مناصب قيادية بالمركز القومى للبحوث وهيئة الطاقة الذرية. وعن تعداد المصريين الذين درسوا فى روسيا أوضح دكتور شريف أنه لم توثق أى جهة رسمية بالدولة هذا الأمر كما أن جمعية خريجى الجامعات الروسية أنشئت عام 2001 ومن تمكنا من حصر أسمائهم يقدرون بنحو 650 باحثا فى شتى مجالات العلوم والآداب والفنون. إلا أنه من المقولات التى يمكن الاستشهاد بها، تصريح سابق للسفير فلاديمير جوديف سفير روسيا بمصر فى الفترة من 1995 حتى عام 2000 حيث أكد أن 30 ألف مصرى حصلوا على منح تدريب وتعليم فى روسيا على مدار تاريخ العلاقات المشتركة بين البلدين منهم 20ألفا من التابعين للمؤسسة العسكرية المصرية، مما يعنى أن عدد الخريجين من المدنيين يقدر بنحو 10آلاف فرد. وعن دور جمعية خريجى الجامعات الروسية فى تعزيز العلاقات بين البلدين أوضح د.شريف جاد أن الجمعية ساهمت فى تنظيم العديد من الفعاليات الثقافية والفنية على مدار السنوات الماضية لتنشيط السياحة لمصر كما أن لنا علاقات قوية مع المكتب السياحى الروسى والجاليات الروسية المقيمة هنا والتى تتعاون معنا فى الترويج الثقافى لمصر. ولعل من أهم الفعاليات التى أقمناها مؤخرا الاحتفال بمرور 70 عاما على العلاقات الدبلوماسية المصرية الروسية فى ديسمبر الماضى حيث أقيم حفل بدار الأوبرا تحت رعاية المستشار عدلى منصور رئيس الجمهورية المؤقت وبحضور الوزراء والسفير الروسى وأعضاء السلك الدبلوماسى ووسائل الإعلام الروسية، وكذلك الاحتفال بمرور 50 عاما على تحويل مجرى النهر والذى أقيم أوائل هذا العام بمشاركة مجلة أبناء روسيا الصادرة باللغة العربية برئاسة د.حسين الشافعى حيث قمنا باستضافة وتكريم بناة السد العالى المصريين والروس فى حضور رئيس الوزراء د. إبراهيم محلب كما كان للأهرام دور كبير فى تدعيم هذه الاحتفالية التاريخية وفى إحياء هذه الذكرى التاريخية التى تمثل محطة مهمة للتعاون العلمى والتقنى بين مصر وروسيا. ولعل ما تجب الإشارة إليه هو أن هناك تنوعا كبيرا فى خبرات خريجى الجامعات الروسية نظرا لكون بعضهم باحثين سابقين بأقاليم استقلت لاحقا عن الاتحاد السوفييتى مثل أوكرانيا وجورجيا وكازاخستان كما أن السمة الغالبة لأعضاء الجمعية أنهم من خريجى الكليات العلمية والجامعات الكبرى بروسيا مثل جامعة موسكو والتى أنشئت منذ أكثر من 250 عاما وجامعة بيتربرج والجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب. وعلى مستوى الآداب والفنون فلقد كان للتقارب الثقافى المصرى السوفييتى دور كبير فى ازدهار وتطور أكاديمية الفنون والكونسرفتوار ومعهد الباليه والسيرك القومى وفى تدعيم حركة الترجمة للمؤلفات الأدبية الروسية. إضافة لذلك فإن القيادة السياسية بروسيا حاليا تسعى لإحياء جسور التواصل بين الخريجين السابقين لجامعاتها كما أننا تمكنا عبر تواصلنا مع وزارة التعليم العالى الروسية من الحصول على عدد من المنح الدراسية سنعلن عنها قريبا لزيادة عدد المبتعثين المصريين من الأجيال الشابة لروسيا. الأولوية للمشروع النووى من ناحيته يرى د. مرسى الطحاوى أستاذ الفيزياء النووية بهيئة الرقابة النووية والإشعاعية وأحد المبتعثين الأوائل للجامعات السوفييتية فى أواخر خمسينات القرن الماضى أنه لا مفر من أن تحيى مصر مشروعها النووى للاستخدامات السلمية وإنتاج الكهرباء، وأن تستفيد من الخبرات الروسية فى هذا المجال فمشروع مصر النووى هو بمثابة السد العالى الجديد وإنقاذ لمصر من النقص المتزايد فى مصادر الطاقة، كما يجب أن نستفيد من المدرسة العلمية الروسية ونوفد البعثات فى تخصصات الأمان النووى والهندسة النووية، كما أن روسيا أنشأت فى السنوات الماضية بنكا لإنتاج الوقود النووى لتشغيل المفاعلات ذات الاستخدامات السلمية وهو الأمر الذى يتيح للدول النامية مثل مصر الحصول على الوقود النووى لإقامة مفاعلاتها وإنتاج الطاقة. ولعل ما يجب الإشارة إليه هو أنه برغم كارثة فوكوشيما فإن عدد المفاعلات التى يتم إنشاؤها عالميا فى تزايد وعلى مستوى العالم العربى فإن الإمارات تعمل حاليا على إنشاء 4 مفاعلات لإنتاج الكهرباء ومن المقدر بحلول عام 2018 أن يبدأ عمل أول مفاعلين بهدف توفير الطاقة وتدعيم التنمية. إلى جانب ذلك، فإن المراكز البحثية الروسية تسهم بدور كبير فى تعزيز التقدم الصناعى وهو ما يمكن الاستفادة منه فى مجالات شتى مثل صناعة الآلات الزراعية والسيارات. متى نتوقف عن إهدار رمال سيناء؟ يقول د. مرزوق بخيت أستاذ الجيوفيزياء بالمركز القومى للبحوث وخريج الجامعات الروسية عام 1983 إن فرص التعاون العلمى والتكنولوجى مع الجانب الروسى لا حصر لها بدءا من إحياء وتطوير المشروعات القديمة حيث تتوافر فى مصر خامات الحديد ذات تركيزات مختلفة ولها قيمة اقتصادية. لذا أتصور أنه من الممكن الاستفادة من الخبرات الروسية فى إعادة تشغيل مصانع الحديد والصلب بكامل طاقتها وكذلك مجمع الألومنيوم. كما تزخر مصر بثروات معدنية وطبيعية كثيرة جدا، وللأسف غير مستغلة جيدا مثل الرمال البيضاء والتى تعتبر من أجود أنواع الرمال البيضاء فى العالم حيث تتكون من ثانى أكسيد السليكون النقى (99.8%) وتوجد فى سيناء ويتم تصدير الرمال البيضاء إلى جميع دول العالم بسعر 20دولارا للطن! وتتم تنقيتها فى الدول الغربية والصين ويصبح سعر الطن 100 – 200 دولار للطن وفى حال تحويله إلى صناعات زجاجية يصبح الطن فى حدود ألف دولار وعند تحويله الى سليكون نقى تصبح القيمة 10 ألف دولار للطن ويستخدم فى تصنيع الخلايا الشمسية والدوائر المتكاملة أو أشباه الموصلات أو يتحول إلى سليكون وحيد البلورة وعند تحويله إلى سليكون وحيد البلورة يصبح سعره 100 ألف دولار للطن ويستخدم فى تصنيع الرقائق الالكترونية لتعظيم الاستفادة من هذه الثروات للنهوض باقتصادنا. السؤال لماذا لا نفكر فى استثمار مثل هذه الثروات؟ ولماذا لا نستعين بالخبرات الروسية أو أى خبرات أخرى لتنمية الرمال البيضاء وإنتاج السليكون؟ العلم فى خدمة الاقتصاد والسياسة يحكى الدكتور سامى السباعى أستاذ كيمياء وتكنولوجيا الألياف الصناعية ونائب رئيس المركز القومى للبحوث سابقا عن تجربته بالجامعات السوفييتية حيث كان من ضمن 30 شابا من أوائل الجمهورية بشهادة الثانوية العامة عام 1985 والذين تم اختيارهم للدراسة الجامعية حتى الحصول على الدكتوراه حيث مكث هو وأقرانه 14عاما لدراسة المجالات العلمية التى تفتقدها مصر والتى كانت أغلبها فى علوم الهندسة والطاقة. ويشير د. السباعى إلى أن المدرسة العلمية الروسية من أكثر المدارس تقدما وهى ما ساعدت الدولة على الخروج سريعا من فترة الركود الاقتصادى والتراجع السياسى الذى عاشته روسيا فى تسعينات القرن الماضى. ولعل أبرز مثال على ذلك كم البحوث العلمية التى تنتجها الجامعات الروسية لخدمة المجتمع وتعزيز صناعة السلاح وعلوم الفضاء. ويرى الدكتور السباعى أن التعاون العلمى بين الدول يسهم بشكل كبير فى التعاون الاقتصادى وبالتبعية تقارب المصالح السياسية المشتركة. ولعل ميزة المرحلة الراهنة من وجهة نظره هى أن كلا من مصر وروسيا تناضل من أجل امتلاكها حرية القرار وهى نقطة هامة يجب الاستفادة منها لخلق شراكة إستراتيجية قائمة على تبادل المصالح والاحترام المتبادل. ويشير الدكتور السباعى إلى أن العلماء الروس على معرفة كاملة بإمكانياتنا وبدور مصر المحورى على مستوى المنطقة والعالم النامى كما أننا من الممكن أن نستفيد من التقارب العلمى للحصول على المعارف والتقنيات التى فشلنا فى الحصول عليها من الغرب. آفاق العلاقة الثقافية تقول الروائية د. سهير المصادفة رئيس تحرير سلسلة الجوائز التابعة للهيئة العامة للكتاب والحاصلة على الدكتوراه فى الفلسفة من جامعة موسكو لقد بدأت العلاقات الثقافية الِروسية منذ أكثر من قرن من الزمان، حين ألف الموسيقار العظيم “ريمسكى كورساكوف” شهرزاد وحين جاء قبله بعقود طويلة الرحالة “أجريفيني” إلى الإسكندرية والقاهرة وبعده زار مصر رحالة روس كثر. ومنذ أوائل القرن العشرين وتحديدًا فى عام 1903 بدأت العلاقات الثقافية والأدبية بين مصر وروسيا، بمراسلات الإمام محمد عبده والأديب “ليف تولستوى” الذى كان مبهورًا بثقافة الشرق، كما تأثرت الثقافة العربية بالأدب والفكر الروسى وتوالت ترجمات آباء الكلاسيكية العالمية باعتراف الغرب نفسه.. فقرأ المصريون فى وقت مبكر.. تولستوى ودوستويفسكى وتشيخوف وجوركى وبوشكين شاعر روسيا الأشهر ومؤسس اللغة الروسية المعاصرة.. بوشكين الذى تأثر بدوره تأثرًا كبيرًا بالديانة الإسلامية وحاول تعلم اللغة العربية وما زال فى متحفه حتى هذا اليوم الحروف العربية بخطّ يده. وعن رؤيتها لرأب جسور العلاقات الثقافية الروسية تؤكد د. سهير أنه يجب أولاً: إزالة العقبات والتعامل مع بيروقراطية مؤسسات الجانبين المصرى والروسى، تلك البيروقراطية التى عرقلت وما زالت تعرقل مع الأسف الشديد أيّة بوادر للعمل الإدارى الخلّاق. ولعل أبرز مثال على ذلك غياب الوجود المصرى فى معرض موسكو للكتاب والذى سيقام فى شهر سبتمبر المقبل. ثانيًا: الشروع فى إقامة جسور الترجمة مرة أخرى بتعاون مشترك لتحقيق أكبر قدر من نقل المنجز الثقافى والأدبى الروسى إلى اللغة العربية وكذلك ترجمة المنجز المصرى إلى اللغة الروسية.. نعم لدينا مؤسسات عامة وخاصة معنية بالترجمة ولكنها ليست لديها إستراتيجية واضحة للتنفيذ، كما أن معدلاتها فى الترجمة متدنية كمًا وكيفًا وخصوصًا عن اللغة الروسية. ثالثًا: فتح الباب أمام السينما الروسية ابتداءا من كلاسيكياتها التى لم تُعرض من قبل فى مصر، وتُرك السوق المصرى نهبًا للسينما الأمريكية التى استحوذت عليه لسنوات مما أدى إلى استقطاب السينما المصرية إلى العنف والدماء والمخدرات والركاكة بشكل عام. رابعًا: التعاون مع قصور الثقافة وبيوت الشباب لتبادل العروض المسرحية والغنائية بين مصر وروسيا.