الأكاديمية الطبية العسكرية تنظم عددا من الفعاليات العلمية المتميزة (صور)    مدير مكتب تأهيل الخصوص في تزوير كروت ذوي الإعاقة: «طلعتها لناس مكنش ليهم محل إقامة عندي» (نص التحقيقات)    الضبعة النووية.. انتهاء تركيب جملون الدعم الحلقي بالوحدة الأولى بالمحطة    منال عوض: 363 مليون جنيه لتطوير منظومة إدارة المخلفات بالبحر الأحمر    سعر مواد البناء مساء اليوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2025    وزير الخارجية يتلقى اتصالا هاتفيا من نظيره اللبناني (تفاصيل)    المصري يجدد تعاقده مع ثنائي منتخب الشباب    مصرف ليبيا المركزي يتعاقد على طباعة 60 مليار دينار    بعد توقيع اتفاق غزة، أحمد العوضي: التاريخ سيذكر أن السيسي تحمل الكثير    جامعة أسيوط تقرر صرف مكافأة شهرين للعاملين بمستشفى الإصابات والطوارئ    طريقة عمل شيبسي صحي في المنزل.. بدون أضرار    مدبولي يتابع الموقف التنفيذي لأعمال تطوير ورفع كفاءة بحيرة البردويل    في هذا الموعد.. محمد فؤاد يستعد لإحياء حفل غنائي ضخم في بغداد    غدا.. فرقة النيل للموسيقى تختتم فعاليات معرض الزمالك الأول للكتاب    مشروع الاستاد ضمن ملفات عديدة في برنامج قائمة الخطيب لانتخابات الأهلي    خادم الحرمين الشريفين يوافق على توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة الطاقة وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة    محافظ كفرالشيخ يتفقد مستشفى قلين ويشدد على جودة الرعاية وحسن معاملة المرضى    محمود مسلم: قمة شرم الشيخ تمهد لسلام واستقرار الشرق الأوسط.. وحماس لن يكون لها تواجد سياسي في غزة    وكيل شباب ورياضة الجيزة يتابع تطوير مركز شباب الديسمي لخدمة المتضررين من السيول    تأجيل محاكمة 73 متهما بقضية خلية اللجان النوعية بالتجمع لجلسة 24 نوفمبر    ارتفاع عدد الوفيات بين تلاميذ تروسيكل أسيوط ل5 أطفال    «أمن الجيزة» يضبط ربة منزل اقتحمت مدرسة بأكتوبر    تشغيل عدد من الرحلات المخصوصة من وإلى طنطا الجمعة المقبلة    رحمة عصام تتعرض لحادث تصادم فى شارع البحر الأعظم    «منتصف النهار» يبرز الإشادات الدولية بدور مصر في وقف الحرب على غزة    اليسار الفرنسي يجدد مطالبته بعزل ماكرون    أرقام تفصيلية.. إطلاق سراح 3985 أسيرا فلسطينيا خلال صفقات التبادل    نقابة الموسيقيين: مصر راعية السلام فى المنطقة ودرع منيع للحق والعدالة    نادي أدب البادية يواصل فعالياته في بئر العبد في شمال سيناء    ما حكم إخراج الزكاة في عمل تسقيف البيوت؟    إدارة ترامب تطلق برنامج "درونز" ب500 مليون دولار لتأمين مواقع مونديال 2026    مساعد وزير البيئة: مشروع إدارة مخلفات عبوات الكرتون يمثل أول منظومة متكاملة لإعادة التدوير داخل مصر    بدء أولى جلسات اللجنة الرئيسية لتطوير الإعلام برئاسة المهندس خالد عبدالعزيز    وزير الصحة: فحص أكثر من 94 مليون مواطن للكشف عن الأمراض غير السارية وفيروس سي    أهالي مطروح يهنئون الرئيس السيسي بنجاح قمة شرم الشيخ التاريخية للسلام    وزيرا الري والإسكان ومحافظ دمياط يشهدون ورشة عمل إطلاق الخطة المتكاملة للمناطق الساحلية    زيادة ربع مليون نسمة في تعداد سكان مصر خلال 60 يومًا    موقف البنك الأهلي من رحيل أسامة فيصل للقلعة الحمراء    احتفالا بذكرى انتصارات أكتوبر.. الرقابة الإدارية تنظم ندوة حول مكافحة الفساد ببورسعيد    وزير الري يبحث مع مدير المنظمة الإسلامية للأمن الغذائي حوكمة إدارة المياه ورفع كفاءة الاستخدام    موعد صرف مرتبات شهر أكتوبر 2025 يبدأ يوم 23 الشهر الجاري    حقيقة تأجيل «القائمة الوطنية من أجل مصر» التقدم بأوراق ترشحها للانتخابات (خاص)    مكاسب مالية وحب جديد.. الأبراج الأكثر حظًا نهايات عام 2025    دار الإفتاء توضح حكم تنفيذ وصية الميت بقطع الرحم أو منع شخص من حضور الجنازة    دار الإفتاء توضح حكم ارتداء الأساور للرجال.. متى يكون جائزًا ومتى يُمنع؟    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في الشرقية    مدرب المنتخب: وارد انضمام السعيد لأمم أفريقيا.. ولا توجد أزمة مع إمام عاشور    وفد رفيع المستوى من مقاطعة جيانجشي الصينية يزور مجمع الأقصر الطبي الدولي    صحيفة إسبانية: شرم الشيخ لؤلؤة سيناء تتألق كعاصمة للسلام وتخطف أنظار العالم    طقس الإسكندرية اليوم.. انخفاض في درجات الحرارة وفرص ضعيفة لأمطار خفيفة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في محافظة الأقصر    حماس توضح أسباب تسليم عدد أقل من جثامين الرهائن وتؤكد: «القيود الميدانية خارجة عن الإرادة»    تصفيات كأس العالم - رأسية فولتماده تمنح ألمانيا الفوز على إيرلندا الشمالية وصدارة المجموعة    شادي محمد: حسام غالي خالف مبادئ الأهلي وأصول النادي تمنعني من الحديث    وفاة شقيق عبد المنعم إبراهيم .. تعرف على موعد ومكان العزاء    هبة أبوجامع أول محللة أداء تتحدث ل «المصري اليوم»: حبي لكرة القدم جعلني أتحدى كل الصعاب.. وحلم التدريب يراودني    «زي النهارده».. وفاة الشاعر والإعلامي واللغوي فاروق شوشة 14 أكتوبر 2016    «التعليم» توضح موعد بداية ونهاية إجازة نصف العام 2025-2026 لجميع المراحل التعليمية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أجنحةالامل

عمل آخر يضاف الي أعمالي المؤقتة لكسب لقمة العيش في هذه البلاد الباردة. لولا النهر والشجر والطبيعة السخية لكانت قاتلة. قال الرجل بعد أن وضع غليونه جانبا: «ها هي أمامك. انظر اليها.
هل رأيت من هو أجمل منها؟ اسمها «بيللا» يعني الجميلة. هل تعرف الإيطالية؟» كلا لا أعرف الإيطالية. ونظرت الي بيللا. أستطيع أن أقول علي الفور إنها أنظف ما في هذا المكان. وفهم الرجل ما أعنيه عندما رآني أدور بعيني في أرجاء البيت. أكداس من الجرائد في كل ركن. أطباق وأوان متراكمة في حوض المطبخ دون غسل. قمصان وجوارب ملقاة في كل مكان. ملابس الرجل السيد مايكل رثة بالية. وهناك رائحة تتسلل الي الأنف ببطء. وقال متحسرا: «وماذا أستطيع أن أفعل؟ ماتت أمي منذ أسابيع، ولم يعد هناك من يعتني بي. لا زوجة ولا ولد. أنا بعد أمي عاجز عن عمل أي شيء.» قلت: «ولماذا لا تبحث عن امرأة من سكان الحي لتخدمك؟» فهتف مستنكرا: «امرأة؟ هل جننت؟ أنا منذ ماتت أمي لا أطيق وجود أي امرأة هنا». واستدرك: «ولكني أستثني هذه الفتاة». وكانت «الفتاة» تلتصق بساقه وتهز ذيلها: ها هي حبيبته المدللة. وابتسم: «إلا هذه انظر إليها كم هي سعيدة. أخذتها الي الحلاق بالأمس. وأعادها الي في كامل زينتها كما تري لا أبخل علي هذه الجميلة بشيء». الرجل ميسور إذن. يأخذ كلبته الي الحلاق هو الذي لم يحلق منذ أيام. الرجل في حاجة الي امرأة لتوبخه وتبدي نفورها منه. ولتكن وقحة سليطة اللسان. وقال: «أريدك أن تسير بها يوميا بما في ذلك يوم الأحد لمدة ساعة. والأفضل أن يكون ذلك في الصباح، لنقل العاشرة».
ووضع السيد مايكل الطوق حول رقبة بيللا وأعطاني طرف المقود. وقدم لي كيسا من البلاستيك وملقاطا: «ولا تنسي هذين». وعندما رأي علامات الدهشة علي وجهي قال: «إذا قضت حاجتها في الطريق، فإياك أن تترك الفضلات وتمضي. عليك أن تلتقطها وتضعها في الكيس». درس آخر علي أن أتعلمه في هذه البلاد، علي أن أخفي شعوري بالتأفف، علي أن أطيع.. عمل جديد، وهذه هي مقتضيات العمل، وأنا في حاجة الي الفلوس، وأنا لم أعد أطيق جوعي المزمن، والمعدة الخالية تزيد الشعور بالبرد. والرجل لم يتعسف علي أي حال. فهذا كما فهمت هو القانون المطبق في هذه البلاد. والسيد مايكل يحرص علي نظافة الطريق العام كما يحرص علي تجميل «بيللا». أما مسكنه ونظافته الشخصية .. وقال متوسلا وهو يودعنا: «أرجوك أن تعاملها معاملة حسنة، فهي شديدة الحساسية». ووعدته خيرا، واستوقفني قبل أن أذهب: «إذا رضيت عنك بيللا، فقد أطلب إليك أن تأتي لتنظيف البيت مرة في الأسبوع. وسأدفع بطبيعة الحال. ما رأيك؟» ولم أرد.

أخبرني القبرصي الذي أعمل في متجره أن السيد مايكل في حاجة الي من يسير بكلبته ساعة كل يوم، ووافقت. لا بأس بالسير مع كلب أو كلبة. هي خبرة جديدة علي أي حال، وزيادة في الدخل التعيس. في مقابل الطبيعة التي تعطي دون حساب: هناك النهر والشجر والخيل والأبقار والبط والأوز. ولكن القبرصي لم يطلعني علي مقتضيات النظافة في الطريق العام. والمحتاج لايستطيع أن يتدلل. والأجر الذي أتقاضاه من القبرصي لقاء العمل لنصف الوقت لا يكاد يكفي لشيء عند دفع إيجار الجحر الذي أسكن فيه.

ومن سوء الحظ أننا عندما اقتربنا من المزلقان اشتعلت الأضواء الحمراء وهبطت الساريتان اللتان تسدان طريق العبور كل منهما في ناحية. ولابد من الانتظار حتي يمر القطار. وهناك لافتة كتب عليها إنذار: «العبور ممنوع عند اشتعال الأضواء الحمراء ويجب الانتظار طالما استمرت مشتعلة». ولكن الساريتين لاتسدان الطريق تماما، وهناك فجوة في كل ناحية. ويحلو لبعض المراهقين العابثين تحدي الخطر والعبور بسرعة قبل وصول القطار. تصورهم الكاميرات المعلقة في مكان ما ويشاهدهم مراقبو الشاشات البعيدة، ولكنهم لايستطيعون منعهم. وهناك لعبة أخطر: البعض يتمدد علي القضبان كي يفرمه القطار. يقشعر بدني كلما خطرت لي هذه الفكرة. وأشعر بخوف غامض، وأستغيث عندئذ بصورة أغصان السيسبان المتدلية حتي لتلامس سطح الماء أو الأرض. هناك في ظلها يختبئ الخائف، فيشعر بالطمأنينة. والسيد مايكل ماتت أمه. وجئت من بعيد. هناك كاميرا أو كاميرات معلقة في مكان ما تسجل ما يجري ليل نهار، لا أعرف أين مكانها، كلما جئت إلي هذا المكان شعرت برغبة في أن أبحث بعيني عنها لكني أصدر نفسي. هناك أشخاص في مكان ما يرون علي شاشة ما تسجله الآلات. لا تفوتهم واردة ولا شاردة، وإن كانوا لا يستطيعون إنقاذ من يتمدد علي القضبان، وصوري الآن مسجلة عندهم ومختزنة في ذاكرة تتسع لكل شيء، وتسترجع منها في لمح البصر، ماذا عساهم يرون أو يقولون عندما أمر ؟ لن تخبرهم الصور أنني بلا أوراق. ولكن هل يدركون من مشيتي أنني خائف، أنني غريب؟ ألا يتشككون في أمري عندما يرونني في طريقي إلي النهر كل يوم سواء صحت السماء أم أمطرت، تحت ومض البرق وقصف الرعد. النهر هو ملاذي ومنقذي في هذه البلاد. واليوم عندما يرونني أسيرا مع بيللا، ماذا عساهم يقولون؟ أنا اليوم أتمتع بحصانة، شاب يسير مع كلب، هذا نشاط مشروع بل ومستحب في هذه البلاد. ليس هناك ما هو أكثر من ذلك براءة وروعة، لن يستوقفني أحد ليسألني عن أوراقي ما دمت في صحبة بيللا، وما أغباني عندما تأففت من مقتضيات العمل الجديد، لن يعلم المراقبون بأمر صاحب المحل القبرصي ولا بأمر السيد مايكل، ستقول الصور إنني رجل محترم أسير مع كلبي في اتجاه النهر. أنا في حماية بيللا.

أنا طائر مهاجر أفلت من عدة شبكات للمراقبة والاعتراض. إلا أن المواطنين هنا يؤلفون شبكة مراقبة أسوأ من الشرطة والكاميرات المعلقة. بعضهم يسير تحت المطر ليلا ليبحث عن السيارات المخالفة لقواعد الركن، ويتولي كلبشتها نيابة عن حراس المرور، وماذا يضير المواطن العادي إذا رأي سيارة مخالفة في عز الليل والشوارع خالية؟ وهناك الجارات العجائز اللاتي لا يفوتهن ما يجري في الطريق رغم الأبواب المغلقة والستائر المدلاة علي النوافذ، وتتخذ الشرطة منهن عيونا إضافية، وهن قادرات علي وصف طول القامة بالقدم والبوصة، ولون البشرة، وملامح الوجه. وهناك حرس السواحل، والأقمار الصناعية، وهناك عواصف البحر، وزوارق الموت، وأسماك القرش، وأنا أسير منقادا لبيللا، فهل أفلت حقا، ألن تمتد إلي الشبكة ذات يوم وتطبق علي؟ صاحب المتجر القبرصي يعلم أنني مهاجر غير شرعي، و«أليس» التي كنت أعمل عندما كانت تعلم، والجارة العجوز التي تراني أثناء مروري بها وهي تقلم النباتات في حديقتها الأمامية هل كانت تعلم؟ أم أنها كانت تغض الطرف إكراما لأليس؟ كانت تبادرني بتحية الصباح وتبتسم بعطف. لعلها كانت تظن أنني عشيق «أليس» لأنني أقيم في بيتها. وهم هنا يعطفون علي العشاق.

واستوقفني صوت طفلة تقول : «أيها السيد»، هناك امرأة تدفع عربة طفل رضيع بيد وبيدها الأخري بنتها. وقالت البنت: «أيها السيد، جروك جميل». وشكرتها علي لطفها. فجاءت وتقدمت من بيللا: «هل لي أن أداعبها قليلا؟» وقلت: «بيللا ليست جروا. عمرها سنتان، ولكنها صغيرة الحجم كما ترين». وترددت بيللا قليلا قبل أن تأذن للطفلة بالمسح علي رأسها وعنقها. وقالت أمها ونحن ننصرف : «طاب يومك أيها السيد».

الناس في هذه البلاد مجانين بحب الكلاب. يندر أن تري علي ضفة النهر من يسير وحده دون كلب مرافق، وفي بعض الأحيان يوجد كلبان أو أكثر. أما السائر الذي يصطحب أربعة كلاب فهو إنسان سعيد حقا لأنه رب أسرة كثيرة العدد ولا يكاد يخفي شعوره بالزهو، وعندما تغدت «أليس» معي ذات يوم وشربت كأسا أو كأسين، بدأت تضحك لسبب أو لآخر، وأخذت تتحدث عن المغازلة، قالت: «إذا أردت أن تتودد إلي امرأة، فابدأ بالتعليق علي جمال طفلها إذا كان معها طفل، والأفضل أن تعلق علي جمال الكلب إذا كان معها كلب. فهذا أنجح ذلك هو المفتاح».

وإذا لم يكن معها طفل ولا كلب؟ مثل تلك الفتاة التي أراها من بعيد تقطف ثمار التوت البري. من حسن الحظ أنني لا أريد التودد إلي أحد، السيد مايكل هو الذي يحتاج إلي امرأة تؤدبه عوضا عن أمه، أما أنا.. كل ذلك لا يعنيني. لا أري الآن إلا الأسوار التي يقيمها أغنياء الشمال في كل مكان في البر والبحر وعلي الأرض وفي السماء ليصدوا الجنوبيين المساكين الفارين من البطالة والجوع والطغيان. المهم أن أحدا لا يري الآن سرك. لم تر فيك الطفلة إلا رجلا يسير ومعه جرو. بل أنت إنسان محترم ويمكن التودد إليه. قالت الفتاة التي وقفت علي جانب الطريق ما إن رأتنى ألتفت إليها وهى تقطف الثمار السوداء: «صالح للأكل». قالت: «أهو صالح للأكل حقا؟» فمدت يدها بالصندوق الذى تضع فيه الثمار:«صالح تماما. خذ. جرب» واستوقفتنى قبل أن أتناول واحدة: «ولكن يجب غسلها. «قلت: هذا صحيح وا أسفاه» وقالت: «لاعليك. انتظر». وأخرجت من حقيبة يدها زجاجة صغيرة وغسلت بعض حبات التوت بالماء المعدنى. وتبين من الحديث الذى امتد أنها بلغارية ومتزوجة من ميكانيكى سيارات وتعمل سكرتيرة في مكتب للمحاماة. أى سعادة! وأى ترف! تستطيع هذه الفتاة أن تسير فى طمأنينة وتقطف الثمار وتتودد إلى رجل غريب. والرجل الغريب لم يثر فى نفس الفتاة أى مخاوف. تبدد كل ما يقال عن التحرش الجنسى. كان بصحبة الرجل الغريب كلبة صغيرة بيضاء تتدلى من عنقها حلية من الفضة نقش عليها اسمها. مثل هذا الرجل لايمكن أن يؤذى أحدا. وهناك إذن مفتاح آخر: أن تسير ومعك كلب. يا عزيزتى بيللا!

تريد الإسراع وأنا أريد التمهل. فقد رأيت من بعيد تلك الظبية الصغيرة التى تخرج أحياناً من بين النباتات الكثيفة لتخطر على الطريق المسفلت. أريد أن أقترب منها. أين أمها؟ ولماذا تترك صغيرتها تخاطر بحياتها على هذا الطريق الذى لايخلو من السيارات؟ ورأتنى الظبية عن قرب فسارعت بالاختفاء. وهذا ما تفعله السناجب للأسف. وأنا نفسى قررت الهروب رغم الحديث الشيق قبل أن تسألنى البلغارية عن بلدى وعملى.

القبرصى الذى أعمل عنده يعرف وضعى ولايشير إليه من قريب أو بعيد ولكنه يستفيد منه فى تحديد الاجر المريح المناسب له. و «أليس» كانت على علم بوضعى عندما عملت عندها ولم تكن تستغله. كانت كريمة. لماذا تركت عملى فى بيتها؟ لم يكن العمل داخل البيت شاقا. وكان العمل فى الحديقة ممتعاً. فهناك الطيور من أنواع مختلفة، وهناك السناجب التى تظهر بين حين وآخر. والثعالب كانت تأتى وتخلف أثرا يدل عليها، والقطط لاسيما القطة الجنزبيلية اللون التى كانت تقترب من العتبة وتريد الدخول لو أننى سمحت لها. وأنت فى هذه الحديقة تشعر بالأمان المطلق وفى الليل بالقرب من المطبخ وأمامك التليفزيون. والنباتات تستجيب للرعاية وتزدهر، ويقال إنها تستجيب للحديث إذا حدثتها. لماذا تركت بيتها؟

بيللا جبانة خوافة رغم جمالها أو ربما بسبب جمالها. اقشعرت والتصقت بساقى عندما مر القطار. وهى لاترحب بالكلاب الاخرى التى تريد أن تتشممها. ويصيبها الذعر إذا اقترب أحد على دراجة. بالكلاب الاخرى التى تريد أن تتشممها. ويصيبها الذعر إذا اقترب أحد على دراجة. لا أدرى لماذا تكره الدراجات، وتنزوى إذا رأت إحداها أو ترتد إلى الخلف تريد الهروب، مثلها مثل الطفل عندما يتعلق بثوب أمه ويختفى خلفها. ولكنها تحب السير على ضفة النهر ويبدو أنها سعيدة بما تلقاه من تحيات وابتسامات. والاطفال فى الزوارق يلوحون لها بأيديهم ، وهى عندئذ تنتعش وتخف حركتها وأنا لا أرخى لها المقود إلا بين حين وآخر. وتعلمت ونحن على ضفة النهر أن أقيد حركتها كلما رأيت دراجة قادمة. وأصبحت هى تقدر هذه الحماية فتطيع. وأصبح بيننا تفاهم على متى يجوز الاسراع ومتى يجب التمهل. كل ذلك عن طريق المقود وشده أو إرخائه. وآه إن «أليس» مرت على دراجتها! ستكون تلك مصادفة رائعة. أنا متأكد أنها ستتوقف، وستسألنى عن حالى، وستهتم ببيللا. وسيتطرق بنا الحديث من موضوع إلى آخر، وستسنح الفرصة من تلقاء نفسها لكى أعرب لها عن رغبتى فى العودة إلى العمل عندها.

وفى طريق العودة توقفنا أمام مشهد لانظير له كانت هناك أوزة تريد أن تقدم لنا عرضا باهرا. كانت تسبح بهدوء إلى أن رأتنا. عندئذ نشرت جناحيها وانطلقت تطير على سطح الماء بسرعة مذهلة لمسافة طويلة طويلة إلى أن خفضت السرعة وحطت على الماء بيسر لتتزلج ببطء وجناحاها مازالا مرفوعين، كأنها قارب ذو شراعين. وقررت أن أكافئ بيللا على حسن سلوكها، فأخذتها إلى ساحة فسيحة خضراء اصطفت علي حافتها أشجار السيسبان تستطيع بيللا أن تسرح وتمرح بحرية فى هذه الحديقة العامة. ونستطيع أن نلعب معاً فماذا تفضل من أنواع اللعب؟ ليس معى كرة. ومن المؤسف أن بيللا لاتهتم بالمطاردة واسترجاع الاغصان التى أقذف بها. ولكنها تحب الجرى فنزعت عنها المقود وتركتها تجرى. وأناديها فتتوقف إلى أن ألحق بها أو تعود إلى ونستأنف الجرى. واستقر بنا الأمر على الجرى فى دائرة واسعة فى الأرض الخضراء. ولم تتعب بيللا بينما بدأت أنا ألهث. فتوقفت وتوقفت بيللا، ولكن كان من الواضح من لسانها المتدلى ونظرتها أنها تريد المزيد. قلت: «يكفى هذا اليوم يا بيللا» وفهمت ما أعنى. وجاءت إلى كالطفل المطيع. ونحن صديقان. ووقفنا تحت سيسبانة فرعاء اخفتنا عن العالم. وفى ظلها جاءت لحظة من السعادة. وفى يوم من الايام كان هناك طفل، وكانت هناك حديقة لا يريد أن يفارقها. وكانت هناك أمه تناديه. ولكن ليس هناك ما يدعو إلى العجلة. ما دامت أمه هناك واقفة على عتبة. تدعوه إلى العودة إلى داخل البيت. ولكن ليس هناك ما يدعو إلى العجلة. أمه هناك. وتساءلت للمرة الألف: لماذا تخليت عن العمل عند «أليس»؟ ربما لأنها دعت نفسها إلى الغداء بعد أن كانت تتجاهلنى ولاتكاد تنادينى باسمى. ربما لأنها هبطت من طابقها الأعلى فى فستان مكشوف الصدر وبيدها زجاجتها. دعت نفسها الى الغداء، وعندما شربت كأسين تورد خداها وصارت تتحدث عن المغازلة. كان الهجوم كاسحا، وأصابنى الرعب. وفى الشتاء عندما رأيتها اثناء إغفاءة فى مواجهة النهر، توسلت إليها أن تعيدنى إلى بيتها، وكانت تقاوم إلى أن رأيتها إوزة تطير عبر النهر إلى الشاطئ الآخر. كلا لن أنتظر حتى تظهر مصادفة علي دراجتها. قد لايحدث ذلك أبداً. سأذهب إليها وأطرق على بابها دون سابق إنذار. ولن تردنى. لن تردنا. ستفتح الباب وتهتف: «أهو أنت يا خالد! ومن هى هذه الفتاة الجميلة بصحبتك؟ ادخلا»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.